الفهم جاء فى المرة الثالثة حينما سقط زجاج النظارة فى راحته دون سبب. بدا الأمر مريبا أكثر مما تحتمل المصادفة. وراح يعبث بشاربه كعادته كلما استغرقه التفكير. عاد يسترجع الذاكرة فوجد شيئا مريبا فى ذلك المحل. كان خاليا تماما وكأن أحدا لا يراه. صاحب المحل يبدو خبيثا كالشيطان. لماذا شعر أنه ينتظر قدومه ولم يلق على كشف النظارة إلا نظرة عابرة، وكأنه يعرف المقاس مقدما!. حين وجد النظارة لامعة بين يديه كان المقابل بخسا إلى حد غير معقول.
شىء غامض مخيف. لماذا يتزامن سقوط العدسة اليمنى مع كل مكروه يحدث لابنه؟. مرت به أم العيال فى طريقها إلى المطبخ وفى أعقابها البنت الصامتة. ضغط بيده على العدسة اليسرى فوجدها صامدة.
قال البائع وهو يغادر المحل: «حاسب على النظارة. إنها غالية جدا».. لماذا قال ذلك وثمنها زهيد!.
الباب يدق والولد محموم هذه المرة. إنه محسود، تقول الأم باكية: كلا يا سيدتى إنه مسحور! فقط فلينته ذلك العرق البارد المحتشد على جبينه.
ها هو الآن يرتدى ثيابه بعجلة. ها هو يتجشم مشقة الذهاب إلى الحى البعيد. ها هو يتوه فى الطرقات المتشابكة والشوارع المتشابهة. ها هو يستوقف المارة ليسأل عن محل نظارات صفته كذا وكذا. يقلبون أيديهم فى يأس، قائلين إنه لا يوجد محل بهذه المواصفات. يمشى حتى تعجز قدماه عن حمله. يلهث حتى يعجز عن التنفس. اختفى محل النظارات! تلاشى فى المجهول الذى جاء منه! يتذكر الآن أنه لم يأخذ علاجا منذ شرائه النظارة الملعونة التى أفسدت حياته. ليته ما أنجب! لقد جلب التعاسة لنفسه. فى ذلك العمر السبعينى كان بحاجة إلى من يستند عليه.
أتراه خرف الشيخوخة وميراث السحر والحسد؟ فى كل لحظة يتأكد أن حياة ابنه معلقة بالعدسة اليمنى فى النظارة الملعونة. قال الشيطان: «حاسب. إنها غالية جدا».
لا مفر أن يستمع لنصيحته. سيحاسب. سيخفيها فى الدولاب بمكان لا يعثر عليه أحد، يستحسن ألا يخبر أم العيال كى لا تموت من الذعر.
حينما رقد جوارها وسمع تنفسها المنتظم حسدها على هدوء البال. الجهل نعمة. يهبط صدرها ويصعد، وصدره يهبط ولا يصعد! مخاوفه!!. هب أنها عثرت عليها وهى ترتب الثياب! هب أن يدها أفلتت! فتسقط النظارة ويضيع الولد.
حاسب. صرخ الرجل بصوت مرتفع لكنها لم تسمعه، نومها ثقيل كالمعتاد.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. العرق البارد يحتشد حول جبينه والألم يسحق صدره. سيذهب غدا إلى التأمين الصحى ويطلب تخطيطا جديدا للقلب. إنه مريض جدا.
هذه النظارة يجب ألّا تفارقه أبدا. لم يعد هناك مفر أن يرتديها باستمرار. غادر فراشه فى تعب. يفتش الخزانة فى الظلام ويرتعد. يتحسس الزجاج فى جشع! يستند إلى الحائط! يحملق فى الظلام. متى تنتهى هذه النوبة اللعينة؟!.
فى الصباح التالى سمع الجميع دقة الصدر وصوت نحيب. كانت أم العيال تبكى بهدوء فيما هو راقد على ظهره مرتديا نظارته يحملق فى الفراغ بذعر شديد.