الليل يوغل فى الظلام. والبرد ينفذ من فرجة صغيرة بزجاج السيارة التى انطلقت تخترق حجب الليل فى طريقها إلى طنطا. وتعالى غطيط النائمين فى أرجاء السيارة إلا هو. إن النوم فى الطريق موهبة لم يعد يمتلكها منذ أن تجاوز عهد الطفولة السعيد. كان دائما ما يشعر بالحسد والإكبار صوب هؤلاء المحظوظين الذين ينعمون بنوم هادئ فى السيارات. إنهم- فيما يعتقد- ينعمون بضمير مستريح كضمير الأطفال.
لم يعد متيقظاً فى السيارة سواه هو والسائق. ولكن هل هو مستيقظ حقا؟ إنه متصلب على ذات الوضع منذ.. منذ دقائق.
- «يا أسطى» (ارتفع صوته منادياً).
لكنه لم يجبه. يخشى أن يكون نائما. أو ربما لم يَرُق له ذلك النداء (أسطى). لقد شاعت ألقاب البيه والباشا والباشمهندس لكل من هبّ ودبّ، ولعله يبغى بعض ألقاب التفخيم.
ياباشمهندس.
يا عم الحاج. يا بيه.
وأخيراً التفت السائق إليه: نعم؟
لا شىء. ظننتك نائماً.
ولكن السائق لم يرد وإنما ظل يرنو إليه وهو يقود السيارة. صاح فى جزع: «انظر أمامك يا أسطى، نريد أن نصل بالسلامة».
ابتسم السائق فى غموض وعاد ينظر أمامه. وشرد هو لدقائق فى خواطره الخاصة. و... هذه المرة يبدو السائق على وشك النوم إن لم يكن قد نام بالفعل. ولعل صوت غطيط النائمين يدفعه إلى النعاس. ربما كان هذا السائق من هؤلاء المحظوظين الذين ينعمون بضمير نقى و..
يا أسطى.
نفس الشىء. لا رد.
- يا باشمهندس.
- يا عم الحاج.. يا بيه.
والتفت مرة أخرى برأسه كله وابتسم ابتسامة كلها غموض:
- انظر أمامك أنا فى عرضك.
أجاب فى صوت متحشرج من البرد (وربما الكيف! الله أعلم): أنت تخاف على حياتك، صح؟
- ومن لا يخاف؟ قال وهو يبلع ريقه.
- أنا..
ساد السكون لبرهة ثم همس وكأنه يحدّث نفسه: عندما تعود لمنزلك فتجد امرأة مشاكسة تشتكى من كل شىء، وكأنك كنت تمرح فى المراقص فتلعنها وتلعن نفسك وتدع الأكل غاضباً لتتهيأ للنوم. وعندما تستغرق فى النوم تجد أحدهم دائما ما يأتى لإيقاظك. صاحب السيارة قد أتى ليتشاجر معك. لا يعنيه تكاليف الصيانة ولا ثمن الوقود! هو يبغى مالاً فحسب، وتكون عيناك حمراوين، إذ إنك لم تنم منذ يومين! إلا أنه بالطبع يشارك زوجتك اعتقادها أنك تمرح فى المراقص فيحتد عليك مطالباً بماله. فتلعنه، وتلقى بالمفاتيح فى وجهه وتنصرف لتنام. فقط لتنام. لا تريد من الدنيا سوى أن تنام.
ولكنك عندما تصحو تجد الولية أمامك. تطالبك بمصاريف البيت. حينئذ لا تجد مفراً من أن تعود إلى صاحب السيارة صاغراً معتذراً عن وجودك ذاته، وتتملقه حتى يقذف لك بالمفاتيح وكأنه يلقى بعظمة إلى كلب أجرب، وتعود لتقود هذه السيارة لعشرين ساعة متواصلة. لا أحد يرحمك ولا أنت ترحم نفسك. هل تعرف فيما تفكر ساعتها؟ لماذا لا تتخلص من حياتك؟ وهل يحمل لك الغد إلا التعب والنكد؟ وتنهد بحرقة.
«نكمل غداً إن شاء الله».