قديما كانت توجيهات وتصريحات الرئيس أوامر لا تقبل المناقشة.. وكانت الحكومة تنفذها حتى لو كان الوزراء يرفضونها.
ولكن يبدو أن الأمر اختلف، أو على الأقل أصبح الدكتور يوسف بطرس غالى، وزير المالية، استثناء من هذا الأمر كما هو استثناء فى كل شىء..
فمنذ أسبوعين، وأثناء زيارته لكفر الشيخ، أدلى الرئيس مبارك بتصريح سارّ أعلن فيه أن أمر الضريبة العقارية لم يحسم بعد..
وقال إنه يدرس مد فترة تقييم العقارات من 5 إلى 10 سنوات، وأن تكون الضريبة تصاعدية.. ووقتها فرح الجميع وهللوا، فقد انحاز الرئيس للمواطنين، واعتبر البعض أن فى ذلك تكسيرا لعظام الدكتور يوسف بطرس غالى الأب الشرعى للضريبة الجائرة المرفوضة بإجماع الآراء..
ومرت الأيام دون أن يتحول تصريح الرئيس لإجراءات تنفيذية كما كان يحدث.. بل إن الدكتور يوسف بطرس غالى لم ينتظر إلا ساعات قليلة، وأدلى فى نفس اليوم بتصريحات نشرت فى الطبعة الثالثة للصحف الحكومية وأسفل تصريحات الرئيس مباشرة، أكد فيها أن الضريبة العقارية محسومة، وأنه لا نية لإلغائها..
وهى جرأة لم نعهدها من قبل من وزير فى مواجهة الرئيس، ونفتقدها فعلا حينما يتعلق الأمر بمصالح المواطنين.. ولكن الدكتور يوسف بطرس غالى بهذا التصريح يقف فى مواجهة مع الشعب والرئيس معا.. بل إن أشرف العربى، رئيس مصلحة الضرائب، رد على الرئيس أيضا فى تصريحات تالية أعلن فيها أن القانون الحالى يضمن أن الضريبة تصاعدية.. أى أن اقتراح الرئيس موجود بالفعل فى القانون السارى المرفوض شعبيا..
ومن يتابع التصريحات يستشعر أن صراعا يدور بين الرئيس وغالى، فالرئيس له احترامه وهيبته، ولو أدلى الرئيس بتصريح، يمكن لغالى أن يختلف معه فى غرفة مغلقة، ولكنه خرج بهذا الخلاف إلى صفحات الجرائد فى تطور غير مسبوق وغير معهود فى نظام الحكم السائد.
وكنت أتوقع أن يبادر الرئيس بالرد عمليا على الدكتور يوسف بطرس غالى، وأن يصدر قرارا جمهوريا واضحا بإعادة القانون لمجلس الشعب لمناقشته مرة أخرى وبحث الاقتراحات الجديدة حوله، وأهمها إعفاء مسكن الأسرة الدائم من الضريبة.. ولا أدرى سببا لعدم إقدام الرئيس على هذا الإجراء، ولا أعرف هل اطلع على تصريحات غالى المنشورة بالصحف فى نفس يوم نشر تصريحاته أم لا؟
والحقيقة أن قانون الضريبة العقارية قد صدر بالفعل، وأصبح حقيقة واقعة.. فقد قدمت الحكومة مشروعا بها منذ عامين، وتم إقراره فى مجلس الشورى ثم نال موافقة مجلس الشعب رغم رفض الشعب.. وبعد ذلك صدق عليه رئيس الجمهورية ليصبح نافذا.. وصدرت اللائحة التنفيذية له بالفعل، وأصبح كل مواطن مطالباً بتقديم إقرار ضريبى عن كل وحدة سكنية يمتلكها مهما كانت معفاة، وحتى لو كان يسكن فى مقبرة أو فى «عشة» مبنية بالطوب اللبن وجرفها السيل.. ومن لم يتقدم بإقراره الضريبى قبل نهاية مارس القادم سوف يعاقب بغرامة تتراوح بين 200 و2000 جنيه.. ولا يمكن إجراء أى تعديل عليه إلا بالمرور على مجلس الشعب.
والناس فى مصر مطحونة ولا تحتمل ضرائب جديدة.. فالحالة أصبحت مريرة لدرجة لا أعتقد أن الحكومة تشعر بها.. ولهذا تعلق الناس بتصريح الرئيس واعتبروه أملا فى النجاة من هذه الضريبة.. ولكن غالى لم يترك الناس يبيتون ليلتهم سعداء بتصريح يعنى عدم رضا الرئيس عن الضريبة العقارية ولو جزئيا، فصدمهم بأن تصريح الرئيس لا يعنى إلغاء القانون أو تغييره، وهو ما يعنى أن توجيهات الرئيس قد تعنى فقط إجراء تغييرات شكلية فى اللائحة التنفيذية.. والرئيس نفسه لم يتطرق لتفاصيل أكثر فى تصريحاته، ولم يشر إلى اعتزامه إعادة النظر فى القانون، وهو ما منح غالى فرصة للالتفاف السريع والانقضاض على الأمل الذى لاح للمواطنين.
والناس فى مصر طيبون.. لدرجة أن البعض يتوقع استحالة تطبيق هذا القانون عمليا خلال هذا العام الذى سيشهد انتخابات برلمانية مهمة، ويعتقدون إلغاء القانون أمراً حتمياً، فلا يمكن أن يتفاعل الناس مع الحزب الوطنى فى هذه الانتخابات فى الوقت الذى تفرض حكومة الحزب ضريبة ظالمة وجائرة بهذا الشكل، ويوافق عليها نواب الحزب.. ولكن أصحاب هذه الرؤية واهمون.. فالانتخابات فى مصر لا تعتمد نتائجها أبدا على إرادة الناخبين، ولدينا سجل حافل وخبرات طويلة ونادرة فى مجال تزوير الانتخابات.
الواضح أن أمر الضريبة العقارية محسوم يا سادة كما يؤكد الدكتور يوسف بطرس غالى ورجاله.. والواضح جدا أن الدكتور يوسف بطرس غالى أقوى مما نتوقع.. وقد أكدت ذلك الدكتورة ميرفت التلاوى منذ أيام فى حوارها مع «المصرى اليوم»، حينما أعلنت أن الدكتور يوسف بطرس غالى حاول الاستحواذ على أموال التأمينات لاستثمارها فى بنك أمريكى منذ أكثر من 10 سنوات ولكنها رفضت، فخرجت هى من الوزارة، ونال هو ما أراد، وسيطر على هذه الأموال التى تتجاوز 200 مليار جنيه.. وهو أمر نرفضه جميعا باعتبارنا أصحاب هذه الأموال، ولكنه يفعل ما يريده بأموالنا.
كل الدلائل والإشارات تؤكد أن هذا الرجل هو أقوى رجل فى مصر..
والقوة ليست عيبا إذا كانت تستخدم فى مصلحة الشعب وتوفير معيشة أفضل، ولكنها تكون عارا إذا استخدمت للجباية من المواطنين .. ولكن السؤال.. من الذى يساند غالى ويمنحه كل هذه القوة؟ وما أسباب قوته؟.
[email protected]