تستدعى الذاكرة هذه الأيام أحداثاً مرت علينا فى زمانها مرور الكرام، ثم امتد بنا العمر لنعرف ونفهم مما يجرى حولنا الآن، أن مامر علينا حتى منذ سنين طويلة لم يكن أبداً محض مصادفات حدثت فى وقتها، ولكنها فى واقع الأمر كانت ضمن مُخطط يعرف أصحابه وصانعوه أهدافه ومراميه على المدى القصير والبعيد، وأن هناك من يعمل وفق منظومة عالمية تضع الخطط والاستراتيجيات وتوفر التمويل المطلوب.
وكمثال قريب لما أقول أسوقه لتبسيط ما أقصده، فإن الظهور المفاجئ للداعية الإسلامى الإخوانى الشيخ يوسف القرضاوى فى ميدان التحريروإلقاءه خطابا هناك عقب سقوط مبارك ونظامه مباشرة، لم يكن من قبيل الحدث العارض والشعور الوطنى الجارف كما ظن الكثيرون حينئذٍ، وإنما كان ذلك فى واقع الأمر تدشيناً لعملية استيلاء جماعة الإخوان على الثورة المصرية والبدء فى عملية الاستيلاء على أزهرها الذى هو الحصن الأخير الباقى للإسلام بمعانيه الوسطية الروحية الخالدة.
وبالفعل هانحن نشهد اعتلاء الشيخ المُسن منبر الأزهر أكثر من مرة، ونسمع منه تصريحات سياسية عن عشرات المليارات التى ستهبط على الشعب المصرى الفقير إذا ماصوت بنعم لدستورهم الذى يؤسس للدولة الدينية فى مصر والتى يعملون من أجلها منذ عقود، وهاهو الشيخ يتحدث الجمعة الماضية من على منبر الأزهر لأكثر من ساعة عن «الأممية الإسلامية» ولايذكر كلمة عن الوطنية المصرية التى بالتأكيد ينكرها ويستنكرها كجماعته وأشباهها. ذكرت هذا الموضوع فقط كمثال لضرورة إعادة التفكير فيما مر من أحداث لانعطيها حق قدرها ولانفهمها فى حينها.
ولكن الموضوع الذى أكتب عنه اليوم ودعانى أيضاً إلى استدعاء أحداث من الذاكرة هو ماحدث فى الجمعية العمومية غير العادية لأطباء مصر التى انعقدت منذ حوالى عشرة أيام لتناقش نتائج إضراب الأطباء الذى أقرته جمعية عمومية لهم منذ حوالى ثلاثة شهور شهدت جمعاً لامثيل له من الأطباء الغاضبين، قرروا فيه اللجوء للإضراب شبه الكامل احتجاجاً على تجاهل النظام الحاكم لمطالبهم العادلة وتشغيلهم بنظام أقرب إلى السُخرة فى منظومة صحية منهارة لاتحقق المطالب الأساسية للمرضى المصريين، مثلهم فى ذلك مثل النظام الفاسد الذى أسقطه الشعب.. المهم أن هذا الإضراب قد فشل فى تحقيق أية مطالب للأطباء بسبب تواطؤ نقابتهم التى تسيطر عليها جماعة الإخوان. عدت بالذاكرة لأكثر من خمسة عشر عاماً للوراء حين كنت أعمل فى هذا الوقت استشارياً فى أحد المستشفيات الحكومية الشهيرة بالسعودية، وهمس فى أذنى ذات يوم أحد الزملاء وطلب منى الصعود معه إلى حجرة مريض، أخبرنى بأنه دخل المستشفى باسم مستعار ولايريدنى أن أذكر اسمه الحقيقى أمام أحد.
ذهبت معه إلى الحجرة فوجدت أمامى الشيخ عمر عبدالرحمن المسجون بالولايات المتحدة الأمريكية منذ سنوات، وكان فى هذا الوقت مطارداً من دولة إلى دولة بسبب أفكاره المُتطرفة، وكان الشيخ على الرغم من مرضه بشوشاً خفيف الدم، تبادلت معه حديثاً قصيراً عن أحواله الصحية، ولكن ماهو مطبوع فى ذهنى إلى الآن هو حديث الرجال الذين كانوا حوله وينقلون إليه أخبار مصر فى ذلك الوقت، إذ بشر أحدهم شيخه بقوله «إن ولادنا فى النقابات المهنية فى مصر الآن استولواعليها كلها تقريباً عدا قليل فى الطريق» وكان الشيخ يردد بسرور «ماشاء الله استمروا». لقد كان لى فى هذا الزمن تفسير لما يقوم به الإخوان من تربيطات ومؤمرات وتخطيطات للاستيلاء على النقابات بانتخابات بعيدة عن النظافة والتنافس الشريف، وهو أنه كان محظوراً عليهم حينئذٍ العمل السياسى تحت أى مُسمى، وكانت النقابات تمثل لهم فرصتهم فى التواجد بين الناس.
أما وقد فتحت الثورة المصرية العظيمة التى فجرها شباب مصر الحر الطريق للإخوان وغيرهم للظهور العلنى على الساحة السياسية وإنشاء الأحزاب والتنظيمات والهيئات بدون قيود، فللمرء أن يسأل نفسه: إذن ما الداعى إلى إصرار هؤلاء الناس على الاستمرار فى سياسة الاستحواذ واحتلال النقابات؟! هنا نفهم مغزى ماحدث فى الفترة الأخيرة بدءاً من اختيار ممثلى النقابات المهنية فى لجنة إعداد دستورهم الذى فصلوه على مقاس دولة دينية متخلفة، وانتهاءً بمعاونة حكومتهم الهزيلة فى عدم إظهار فشلها وخيبتها وتجاهلها للمطالب العادلة لفئات الشعب المصرى المختلفة. لقد تقرر فى الجمعية العمومية الأخيرة للأطباء تعليق الإضراب بدون أن يتحقق أى شىء ملموس لهم، وأصدرت اللجنة العليا للإضراب بياناً وجهت فيه الاتهام لمجلس نقابة الأطباء الذى يسيطر عليه الإخوان بخيانة مطالب الأطباء، وقال البيان «إن النقابة برهنت خلال فترة الإضراب أنها لاتدعمه وأنها أصدرت قرارات كانت أحياناً تؤدى إلى إضعافه»
وأشارت إلى أن بعض النقابات الفرعية - وهى التى يسيطر عليها الإخوان - لم تُساند الأطباء المُضربين وتركتهم يواجهون وحدهم التعسف الإدارى من قِبل مسؤولى وزارة الصحة. النتيجة النهائية أن الأطباء قد خسروا كل شىء بما فى ذلك سمعتهم فى مقابل وعود فى الهواء، وأن نقيبهم الذى انتخبوه قد وقع على دستور الإخوان وعُين فى مجلس شورى نظامهم، وأن مجلس نقابتهم قد باع من انتخبوه لصالح من رشحوهم وعضدوهم وأنفقوا عليهم من جماعتهم، فيمتنع بل ويقاوم كل ما من شأنه إحراج الإخوان الفاشلين، وعلى رأى مرشدهم الذى قال يوماً عن نقابة المحامين فى إحدى الأزمات «ماتتحرق النقابة، المهم الجماعة»! فعلى نفسها جنت براقش يا أطباء مصر، ولعلكم وغيركم من المهنيين قد وعيتم الدرس، درس «نقابة الأطباء»: لاقيمة لمن انتخبك فالمهم جماعتك!