كنت أستمع الآن لتحفة «محرم فؤاد»: «الحلوة داير شباكها شجرة فاكهة ولا فى البساتين.. الحلوة م الشباك طالة.. يحرسها الله.. ست الحلوين».
يا رباه ما هذه العبقرية! ما كل هذا الجمال! ما هذه العذوبة فى اللفظ! والروعة فى التلحين!.
الأغنية من كلمات «مرسى جميل عزيز»، ومن تلحين «محمد الموجى». أتصور لو أن «الموجى» لم يُولد لضاع جزء كبير من ذاكرتنا والأغانى التى سمعناها ونحن صغار، فشكلت بالنسبة لنا «معنى الوطن». ولولا ضيق المساحة لكتبت لكم عشرات الأغنيات المعروفة التى تُصيبنى بمجرد سماعها بالدوار.
أغانٍ لطالما أسعدتنى فى رحلة الحياة، سمعتها آلاف المرات فى خلوتى المفضلة فى حديقة النادى، مثبتا السماعة الصغيرة فى أذنى، أنا والليل والنسيم. تهتز روحى لعذوبة اللحن كما يداعب النسيم أوراق الأشجار! فتنتشى روحى وأحلق فى السماء السابعة، حيث الصفاء بلا حدود. تدمع عيناى تأثراً وشكراً، ويسجد قلبى لربى، وأقولها من أعماق فؤادى: «الحمد لله رب العالمين».
«الحلوة حلوة وسـنيورة. زى الصورة. مرسومة تمام. الشفة وردة فى عنقودها. أما خدودها.. تفاح الشام».
معانٍ نبيلة تريح الأرواح النبيلة، فشكرا لك يا إلهى لأنك بثثت فى دنيانا كل هذا الجمال. جمال مبذول بلا أجر، يناله الغنى والفقير.
محمد الموجى، بليغ حمدى، كمال الطويل، منير مراد، عبدالوهاب، القصبجى، رياض السنباطى، محمد فوزى.. زهور مصرية يصعب تصديق أنهم كانوا فى زمن واحد. كلما سمعتَ لحنا قلتَ هو الأجمل، وإذا أردت أن ترتبهم فكلهم الأول بامتياز!
ملحن واحد عبقرى يضيف للوطن الكثير. ولذلك كان وجودهم دائما فى مقام الندرة. وما اجتماع كل هؤلاء العباقرة الذين ذكرت أسماءهم إلا مصادفة نادرة التكرار.
«يا بحور عسلهم ربانى.. عطشان يانى.. يا بحور العين.. ونظرة واحدة تروينى.. وتخلينى أشبع سنتين».
بل أنا والله من يشبعْ بشهدكم سنتين! بل أنا من يفعل بى جمالكم الأفاعيل! طوبى لمن جاء للدنيا ليصنع الجمال، ويسعد قلوبنا الحزينة، وينير ليلنا الطويل.
هذه أشياء لا تُشترى بالمال. «الموجى» وأمثاله من العباقرة هم ما يجعلوننا نصدق أن مصر بلد كبير ومهم، رغم أننا نعيش لحظة هبوط المنحنى. كانت أمى - رحمها الله - تحكى لى فترة دراستها بحقوق القاهرة قبيل ثورة اثنين وخمسين. وكانت الطالبات العربيات الوافدات يُذهلن من سحر القاهرة، العامرة، الباهرة، المفعمة بالفتون.
مصر بلد عريق، ولا يستحق ما فعلناه به! مصر منارة المنطقة! وجوهرة التاج. أما لحظة الانطفاء التى نمر بها فقد آن لها أن تنتهى، ويبدأ المنحنى فى الصعود.
المهم أن نبحث عن المواهب، ونعطيها الفرصة والثقة بالنفس. لا ريب أن بيننا الآن «موجى» جديد، وأم كلثوم جديدة، ونجيب محفوظ جديد. لكن المشكلة أن أم كلثوم عصرنا سحقها الفقر والإهمال، ولعلها الآن تبيع المناديل الورق فى إشارات المرور.
وما زال محرم فؤاد بصوته الرجولى يزين لنا دنيانا الحزينة، المليئة بالشجون. يتغنى بامرأة جميلة، عسلية العينين، تفعل بنا الأفاعيل.