x

طارق الغزالي حرب منظومة صحية مُهترئة وعرجاء.. ضحاياها المواطنون والأطباء طارق الغزالي حرب الأحد 04-11-2012 21:12


بالتأكيد أن هذه المساحة المُخصصة للمقال لا تكفى للتعليق على ما يحدث فى الوسط الطبى المصرى هذه الأيام، من إضرابات واعتصامات واستقالات وتهديدات واجتماعات، بدت كلها للأسف الشديد - أو هكذا صورتها معظم وسائل الإعلام - وكأنها مطالب لفئة من المجتمع تريد أن تضع كادراً خاصاً بها تزيد به من رواتبها، وأصبح عادياً أن يتحدث إعلامى جاهل أو مسؤول مُتغاب عن ضرورة وضع حد لما يُسمى «المطالب الفئوية» فى الوقت الراهن، حيث الميزانية مُرهقة ومُثقلة، فيذكر على سبيل المثال بعضاً من أصحاب هذه المهن التى تُغالى فى مطالبها كعمال الموانئ وسائقى النقل العام وبالمرة يذكر بينهم الأطباء!

ويؤسفنى أن كبار المسؤولين فى الدولة بمن فيهم رئيس الجمهورية ووزيرا الصحة والمالية ينظرون إلى ما يحدث فى الوسط الطبى هذه الأيام بنفس النظرة السطحية للأمر، ويصبح حديثهم كله منصباً على وضع كادر طبى جديد للأطباء وباقى المهن الطبية والمساعدة، وكأنهم يظنون أنهم بذلك الفعل - إن نجحوا فيه - كفيل بأن يغلق أفواه الأطباء ويغمض عيونهم عن المنظومة الخَرِبة التى يعملون فى ظلالها.

أستطيع أن أؤكد لهؤلاء السادة المسؤولين أنه حتى لو أغدقتم على الأطباء ومعاونيهم الآلاف من الجنيهات شهرياً، فإن الأوضاع الصحية فى مصر سوف تستمر فى الانحدار من سيئ إلى أسوأ كما كان الحال طوال عقود ماضية وحتى الآن..

فهؤلاء الأطباء يعملون ضمن منظومة صحية بالية مهترئة عفا عليها الزمن، بها من الثقوب ما يسمح بفعل أى شىء طالما ليس هناك إعداد ولا تأهيل ولا حساب حتى لو كان الثمن أرواح الناس، وبها من العفن ما يكفى لإفساد الملائكة، وبها من الجمود الفكرى والعقلى ما يكفى وزيادة لوأد أى عملية إصلاح حقيقى وجذرى، وبها من شُح الموارد والمخصصات وسوء توزيعها ما يستحيل معه تقديم خدمة صحية تتفق حتى مع الحدود الدنيا لتقديم هذه الخدمات بطريقة سليمة وإنسانية وكريمة، ويقود كل هذا الفساد مجموعات من أصحاب المصالح الخاصة الذين يضعون مكاسبهم المادية فوق أى اعتبار آخر.

منذ ما يقرب من خمسة عشر عاماً ظهر فى وزارة الصحة مصطلح «إصلاح القطاع الصحى» ووضعت برامج وتكونت لجان وأنفقت مئات الملايين من الدولارات، كسب من ورائها من كسب واغتنى من اغتنى، وامتلأت الأدراج بمئات الآلاف من الأوراق والأقراص المُدمجة، وانعقدت المؤتمرات تلو المؤتمرات أنفق فيها وعليها ما أنفق، وها نحن بعد أكثر من خمسة عشر عاماً نتحسس طريقنا ونسأل بعضنا بعضاً الأسئلة البديهية الأساسية عن كيفية توفير حالة صحية أفضل لهذا الشعب البائس، وكيف نوفر الموارد المالية اللازمة لذلك، وكيف نضمن للمريض المصرى التعامل الفورى والمؤثر إذا ما اعترته حالة طارئة، وكيف تصل إليه هذه الخدمات بدون أن نهين كرامته!

إن المنظومة التى يعمل ضمنها أطباء مصر منظومة عرجاء تقوم على نظم متعددة غير متساوية أو متكافئة بين خدمات عامة وخاصة موازية، وعبر وسطاء ماليين بدون رقابة ولاحساب. كل ما تفعله الدولة منذ عقود طويلة أنها تعطى شهادات تفيد بأن صاحبها حاصل على بكالوريوس الطب والجراحة العامة ثم تكلفهم بالعمل - أو بالأحرى - ترميهم فى كل قرى وربوع مصر وفق نظام بيروقراطى عتيق وغبى، دون أى تدريب أو تأكد من مستواهم العلمى (يأتون من أكثر من عشرين جامعة حكومية وخاصة) ليتعاملوا مع ملايين الفقراء المصريين وتعطيهم رواتب أقل من راتب أى فراش أو عامل نظافة فى شركة، ثم تدير لهم ظهرها وتقول لهم «افعلوا ما شئتم فى أهل وطنكم السذج الطيبين الذين يُرجعون كل شىء إلى قضاء الله وقدره ولا يشكون حتى تستطيعوا العيش فى المستوى الذى تريدونه»!

هل يعلم السادة المسؤولون الكبار أن من 30 -40% من إجمالى الإنفاق العام على الصحة (والذى يخرج فى غالبيته العظمى من جيوب الناس) يُهدر بسبب عدم الكفاءة وسوء الإدارة؟! إن هذه المنظومة الخَرِبة نحتاج إلى نسفها نسفاً، واستبدالها بمنظومة علمية حديثة تستهدف بالدرجة الأولى الصالح العام، يُشارك فى وضعها وجوه جديدة من العلماء والخبراء من غير ذوى المصالح، تبدأ من عملية اختيار الطالب الذى يصلح لدراسة الطب من المتفوقين ذوى البعدين الثقافى والإنسانى، ثم التغيير الشامل فى عملية التعليم الطبى والامتحانات العتيقة والعقيمة التى تجرى داخل كليات الطب، خاصة فى المرحلة الإكلينيكية (لا أعتقد أن هناك بلدا فى العالم يأخذ طلبة كليات الطب فيه دروساً خصوصية إلا مصر)،

ثم عمل اختبارات موحدة قبل منح ترخيص مزاولة المهنة، بعد التأكد من استيعاب الأطباء الجدد قواعد ولائحة أخلاقيات وآداب مزاولة المهنة، ثم خضوع جميع الأطباء حديثى التخرج ودون تمييز لفئة عن فئة لبرامج تدريبية تخصصية لاتقل عن خمس سنوات فى فروع الطب المختلفة، بما فيها طب الأسرة، لا يُسمح أثناءها بالعمل فى العيادات الخاصة، مع وضع قواعد صارمة لإنشاء العيادات والمستشفيات الخاصة ومراقبتها (والتى تشهد حالة من الفوضى لا مثيل لها فى العالم من أجل تكسب لقمة العيش)، على أساس أن الطبيب المتفرغ لعمله داخل المستشفى هو أساس الخدمة الطبية السليمة، وبالطبع مع تعويضه التعويض المناسب الذى يليق برسالته الإنسانية السامية ومركزه الاجتماعى بين أقرانه.

المنظومة يجب أن تنهى هذا التعدد المقيت لأنظمة تقديم الخدمة الطبية فى مصر وهذا التشرذم والاستعلاء بين الهيئات المختلفة، فهذه جامعية وتلك وزارة صحة وأخرى مؤسسة علاجية، وهذه مراكز طبية متخصصة وتلك مستشفيات تعليمية، وأخرى تابعة للتأمين الصحى، وهذه مستشفيات خاصة، وأخرى تابعة لجمعيات وتلك لهيئات حكومية وشبه حكومية..

ويمكن أن يكون الطبيب متعاقداً مع أكثر من جهة من هذه الجهات مع عمله الرسمى فى جهة أخرى!

وتقف المصالح الخاصة والضيقة وراء فشل أى محاولة للتعامل مع هذه التعددية المُقيتة، لتصبح مصر بلداً منفرداً على مستوى العالم بأن نظامه الطبى بلا هوية أو نظام. إننا فى حاجة إلى نظام صحى جديد يتفق مع ظروفنا الخاصة، يكون عماده نظام تأمين صحى اجتماعى شامل، يعتمد فى تمويله على اشتراكات المواطنين التى يتحمل أصحاب الأعمال الجزء الأكبر منها وعلى مساهماتهم، فى نفس الوقت الذى يجب أن يكون فيه دور لنظام صحى وطنى، تقوم الحكومة بتمويله من حصيلة الضرائب التى تجمعها، يتكفل بالرعاية الصحية الأساسية للأطفال والأمهات وخدمات الصحة الإنجابية وحالات الفقراء والفئات المُهمشة والعاطلين، وكل الذين لا يغطيهم نظام التأمين الصحى الاجتماعى لسبب أو لآخر.

إن ضحايا المنظومة الصحية الفاسدة السائدة فى مصر منذ عقود هم الأطباء ومعهم المرضى المصريون-خاصة فقراءهم - الذين يدفعون من جيوبهم ما يقرب من 75% من جملة الإنفاق الصحى فى مصر، ويا ليتهم حتى يُعالجون بطريقة سليمة أو بكرامة وإنسانية!! فعلا وصدقاً وحقاً.. لك الله يا شعب مصر.

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية