ارتبطت حركات التحرر الوطنى بأيديولوجيات التحرير، وفى مقدمتها الماركسية أو الحركات الوطنية أو الإصلاح الدينى، وكانت أشبه بمقدسات عند جيل الخمسينيات والستينيات، وكانت موضع اتهام من أعدائها بأنها أساطير. فلا فرق بين الأيديولوجية والأسطورة. والأيديولوجية العلمية التى تقوم على أساس اقتصادى مادى لا تفرق بين ماركسية ورأسمالية. فكلتاهما تبغى الربح والنمو بصرف النظر عن الكيفية والطريقة والمستفيدين. وتصعد الأيديولوجيات وتنهار مثل الماركسية والاشتراكية والليبرالية والرأسمالية، مثل الأساطير تماما، أساطير التفوق والقوة والعرق والاختيار الإلهى. فلكلٍ عصرها وظروفها التاريخية.
وقد ظن الشباب الثائر أن الأيديولوجيات حقائق ومُثـُل مطلقة وقيم إنسانية عليا. فالأيديولوجيات التقدمية كالماركسية والاشتراكية تقوم على الحرية والعدالة والمساواة، وحقوق العمال والفلاحين، ورفض الاستغلال والاحتكار، وما تقوم عليه الأيديولوجيات الرجعية كالرأسمالية والليبرالية. وتقوم الأيديولوجيات الليبرالية والرأسمالية على قيم الحريات الفردية، والنشاط الاقتصادى الحر والمنافسة. وكلما تقدم هذا الجيل فى العمر وأصبح جيل السبعينيات أدرك أن هذه الأيديولوجيات والأساطير تقوم على المصالح، تتغير بتغيرها. فلا توجد حقائق مطلقة بل مصالح متغيرة. وينظر إلى الجيل الجديد الثائر الغاضب، مثل جيل الربيع العربى، بحنو وإشفاق لعله يكون أسعد حظا منه. ويظل على اعتقاده بقيم الحرية والعدالة والكرامة، دون أن يلعب به أحد ويسرق منه الثورة. فالمصالح أعم من القيم وأقوى منها. كانت روسيا والبلاد الاشتراكية هى التى تجسد فى الواقع العملى أيديولوجيات تحرر الشعوب، بعد أن تحررت هى من حكم القيصر بفضل الماركسية. وتابعتها نظم أوروبا الشرقية التى بينها وبين روسيا تواصل جغرافى. ساندت معظم حركات التحرر الوطنى فى القارات الثلاث ضد الاستعمار الغربى، الفرنسى أو البريطانى أو الأمريكى، وأمدتها بالسلاح، ولم تكتف فقط بتأييدها فى مجلس الأمن والتصويت لصالحها.
وكانت أول دفعة من الأسلحة أخذتها مصر بعد العدوان الإسرائيلى على غزة عام 1955 من تشيكوسلوفاكيا. وظلت تمد مصر بالسلاح حتى حرب أكتوبر 1973، وفاعلية الصواريخ الروسية فى الحرب، وصواريخ سكود قصيرة المدى فى أيدى الفلاحين الفيتناميين بين الأشجار ضد الفانتوم الأمريكى. ولم تكتف فقط بالسلاح بل أيضا ساعدت فى خطط التنمية، والسد العالى فى مصر نموذج على ذلك. ونشأت حركة جديدة فى العالم هى حركة عدم الانحياز بقيادة مصر والهند ويوغوسلافيا، «ناصر ونهرو وتيتو» فى باندونج عام 1955 لنزع فتيل الحرب بين القوتين الكبيرتين فى العالم: الاتحاد السوفيتى والولايات المتحدة. وتكونت كتلة العالم الثالث أو منظمة حركة تضامن شعوب آسيا وأفريقيا. وقد أصبحت تمثل ثلاثة أرباع سكان العالم وثلاثة أرباع الدول فى مجلس الأمن.
ولم يشك أحد من جيل الستينيات فى أن مساعدة الاتحاد السوفيتى فى تحرير الشعوب من الاستعمار كانت سعيا وراء مناطق النفوذ، تقليص نفوذ الولايات المتحدة من الحزام المحيط بالاتحاد السوفيتى، ابتداء من الوطن العربى حتى الهند وفيتنام والصين شرقا، ومن أوروبا الشرقية غربا فالمبدأ يتجاوز المصلحة. وتغاضت الشعوب العربية عما كانت تسمع من القهر داخل الاتحاد السوفيتى وأوروبا الشرقية وتصورتها دعايات أمريكية رأسمالية ضد الحليف السوفيتى. وإن صحت فليس من حقها التدخل فى الشؤون الداخلية له. بل لقد فرط العرب فى الغزو السوفيتى لتشيكوسلوفاكيا إثر ربيع براج الذى كان النذير الأول للربيع العربى. ولم يعترض العرب على الغزو السوفيتى لأفغانستان، وهى دولة مسلمة كان بين ملكها وملك مصر أواصر قربى. ومنها أتى الأفغانى باعث الحركة الوطنية المصرية وواضع شعار «مصر للمصريين». ثم انهار الاتحاد السوفيتى ذاته بعد إعلان ذلك بنفسه فى «البريسترويكا» و«الجلاسنوت». فلم تستطع الاشتراكية العلمية أن تحقق لا الحرية للأفراد ولا العدالة الاجتماعية للشعوب ولا التنمية للأمم. وانهارت النظم الاشتراكية فى أوروبا الشرقية، دولة وراء الأخرى بعد انهيار الأخ الأكبر واستردت حرياتها. ومعظمها تحول إلى النظام الآخر- النظام الرأسمالى، وانضم إلى المعسكر الغربى، وأصبح عضوا فى الاتحاد الأوروبى.
والآن بدأ الربيع العربى ضد الاستبداد الداخلى وفساد النظم بسرعة فائقة، تونس فمصر فليبيا واليمن فالبحرين فسوريا. ولما كانت روسيا حليفة لسوريا فقد أيدت النظام السورى ضد الثورة الشعبية السورية، وأوقفت أى إدانة فعالة له فى مجلس الأمن باستعمال حق النقض «الفيتو». وترى المذابح للرجال والنساء والأطفال والشيوخ كل يوم، وتشاهد الإعدامات رميا بالرصاص والذبح بالسكاكين وجز الرقاب. وتصر على تأييد النظام. وهنا صدمة جيل الستينيات الذى أصبح الآن فى السبعينيات والثمانينيات من العمر. أين قيم الحرية التى طالما دافع عنها الاتحاد السوفيتى أثناء حركات التحرر الوطنى؟. إن ما يفعله مع المعارضة الداخلية بقمعها لاستمرار النظام هل يجوز استعماله مع ثورات الشعوب ضد نظمها دفاعا عنها لأنها حليفة له، تعطيه مركزا للنفوذ فيها وفى الشام وفى الوطن العربى كله أو لبيع السلاح له أو لاعتباره قنظرة أو حزاما فى خاصرتها من إيران إلى حزب الله مارا بسوريا؟! أين الدفاع عن حريات الشعوب؟
أين المبادئ والقيم والحرية والكرامة؟ وإذا كان هو ضد التدخل الخارجى فى شؤون سوريا، فلماذا يتدخل هو بالإمداد بالسلاح؟ واضح أنه يدافع عن مصالحه، ويضحى بمصالح الشعب السورى. ينسى تاريخه مع العرب. ويضحى بالشعب العربى لصالح النظام العربى. فمازالت روسيا هى الاتحاد السوفيتى، النظام القهرى الطويل الذى لم يتبدل من القيصر حتى الآن. ولم تهتز روسيا بأربعة عشر ألف شهيد، وسبعين ألف جريح، ومائة ألف سجين، وإطلاق جميع أنواع النيران من الأرض والجو والبحر على المظاهرات السلمية. وهو صامت لم يتفوه بكلمة فى صالح الربيع العربى إلا ضد تدخل قوات حلف شمال الأطلنطى فى ليبيا أيضا دفاعا عن مصالحه والنظام الاستبدادى الليبى السابق وسوق نفطه وسلاحه ومنطقة نفوذه. أما الصين، فقد كانت أيضا حلما فى ذهن الشباب العربى. يتحدثون عن المسيرة الطويلة وكأنها سيرتهم. ويقرنون ماو تسى تونج بهوشى منه وجيفارا. ويقرأون الكتاب الأحمر.
ونسوا انتفاضة الشباب من أجل الحرية فى الميدان السماوى، ووصفوا حركة المنشقين بأنها مؤامرة غربية ضد النظام الشعبى الاشتراكى. ولا يتحدثون عن مذابح المسلمين فى سنكيانج، تركستان الشرقية. وبدأوا الآن يستغربون من هذا العملاق الاقتصادى الذى أغرق الأسواق الدولية بمنتجاته بما فى ذلك الأسواق العربية والتى تدين للولايات المتحدة الأمريكية. وهو المستثمر الأول فى أفريقيا. عملاق اقتصادى وقزم سياسى. يتبع روسيا فى حق النقض فى مجلس الأمن. وكان «ديجول» يجيب من يسأله: لماذا لا يطرق أبواب الصين؟ قائلا: «وماذا أقول لبائع ترانزستور؟». حتى كوبا التى كانت أسطورة الشباب العربى فى الستينيات، كاسترو وجيفارا على الألسنة والصور على القمصان- أصبحت أيضا تابعا للاتحاد السوفيتى بتحالفه مع النظام السورى ضد ثورة الشعب السورى. بل إن «شافيز» الذى بدأ يلهب خيال شباب هذا الجيل لم يتفوه بكلمة دفاعا عن ثورة الشعب السورى. والثورة الإسلامية فى إيران التى ظنها العرب إحياء للناصرية الإسلامية تحولت إلى ظهير خلفى للنظام السورى. نسيت الثورة وأيدت الاستبداد الشاهنشاهى العربى.
الآن تظهر الولايات المتحدة وكأنها هى التى تتفهم ثورة الشعب العربى ضد النظم الاستبدادية التى تهاوت والتى كانت بالأمس القريب حليفا لها. وهى التى طالما قرنت بين الإسلام والعنف بعد سبتمبر 2001، تتفهم الآن الإسلام السياسى المطالب بالحرية والعدالة والقادم كبديل للنظم السياسية المتهاوية فى تونس ومصر، وربما فى اليمن والبحرين وسوريا. وكذلك الغرب، «شمال المتوسط» يتفهم روح الثورة فى جنوبه وشرقه.
ألا تسلم روسيا الوطن العربى للولايات المتحدة والغرب على طبق من فضة؟ ألا تقوم بما قام به الاستعمار القديم بمعاداة الشعوب المتطلعة للحرية؟
سبحان مغير الأحوال!