وضعت ثورات الربيع العربي سياسة «صفر المشاكل»، التي أعلنتها تركيا كمبدأ عام لسياستها الخارجية مع الدول المجاورة لها، على المحك.
فبدلًا من أن يصبح الربيع العربي فرصة لتركيا بات تحديًا واختبارًا حقيقيًّا لمدى نجاح هذه السياسة التي روج لها بقوة وزير الخارجية التركي أحمد داوود أوغلو صاحب نظرية «العمق الإستراتيجي».
طرأت مؤخرًا عدة تغيرات على السياسة التركية مرجعها تمسكها بكونها دولة «سنية»، ودفاعها عن قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان، لذلك اختارت السير في طريق دعم الثورات العربية، وتقديم الدعم للمعارضة السورية، بعد فترة تردد أعطت خلالها فرصًا متكررة للرئيس بشار الأسد لتبني إصلاحات وعد بها.
وفي تقييم لتحول سياسة «صفر المشاكل» إلى مواجهة سياسية تصاعدت ميدانيًّا لحد قيام المضادات السورية منذ أيام بإسقاط طائرة عسكرية تركية كانت في مهمة تدريبية، يقول المحلل الصحفي حسن جمال: إن تركيا وصلت في فترة إلى قناعة بأنها تمكنت من تحقيق هذه السياسة في الداخل والجوار ومع العالم أجمع.
لكن هذه السياسة اصطدمت في واقع الأمر بما جرى في المنطقة من ثورات وجدت تركيا نفسها في حيرة تجاهها، مما جعل مواقفها تتذبذب إلى أن اضطرت إلى تبني نهج مساندة الديمقراطية أيًّا كان الثمن، على حد قوله.
واعتبرت البروفيسور مليحة ألتن تشوك، رئيس قسم العلوم السياسية بجامعة الشرق الأوسط التركية، أن مصطلح «صفر المشاكل مع الجيران» كان يعني حتى بداية الانتفاضات العربية صفر المشاكل مع الأنظمة السلطوية الراسخة في الشرق الأوسط.
لكن – والحديث له - عندما بدأت المعارضة في تحقيق تقدم ملموس، واجهت حكومة رئيس الوزراء رجب طيب أردوجان خيارات صعبة بين الحفاظ على سياستها في الانخراط مع القادة العرب السلطويين، أو الإقرار بأن مواطني بلدانهم لم يكن لديهم «صفر مشاكل»، وأن عليها مساندة مطالبهم العادلة، حتى لو أدى ذلك إلى فشل النظرية الجديدة في السياسة الخارجية لتركيا.
من جانبه، اعتبر نائب حزب الشعب الجمهوري بالبرلمان التركي عن مدينة هطاي المتاخمة لسوريا، فؤاد تشاي، أن ما جرى مع سوريا يمثل تجسيدًا جيدًا لهذه السياسة، «فإذا بالأزمة مع سوريا تتحول إلى مسمار آخر في نعش سياسة تركيا الإقليمية».
في المقابل، يرى أستاذ العلوم السياسية بجامعة أنقرة، البروفيسور خير الدين كرباكجي أوغلو، أن «الثورة الليبية شكلت التحدي الأول لتركيا، التي بدت مترددة في البداية رغم أن شركاءها الغربيين قطعوا علاقاتهم مع معمر القذافي سريعًا». وأضاف «مبدأ صفرمشاكل كان يقتضي أن تحتفظ الحكومة التركية بعلاقات مع النظام القديم، وبعد أن قامت في بادئ الأمر بتبني موقف محايد، أدركت سريعًا أن ترددها يضر بصورتها، خاصة أنها عضو في الناتو الذي قدم دعمه للشعب الليبي».
واعتبر الكاتب الصحفي البارز مراد يتكن أن تركيا واجهت صراعًا أساسيًّا بين سياستها التي تعتز بها والمتعلقة بالانخراط مع الحكام السياسيين الإقليميين دون توجيه انتقادات إليهم وبين حتمية دعم الطموحات الديمقراطية للشعوب. وفي نهاية المطاف قررت الحكومة دعم الخيار الثاني، ما يعني عمليًّا إنهاء سياسة «صفر المشاكل».
وأضاف أن الحالة السورية كانت الاختبار الأكبر لهذا المبدأ، وأوضح «في البداية، عولت على دفع الرئيس السوري بشارالأسد باتجاه الإصلاحات الديمقراطية، لكن عندما لمست تصلبًا في موقفه تعلمت سريعًا من الخبرة الليبية، فلم تتردد هذه المرة في فرض عقوبات أحادية ضد النظام السوري».
وتابع أن «لهجة خطاب الحكومة التركية تغير أيضًا، فقدمت دعمها الكامل للمعارضة السورية، كما بدأ القادة الأتراك في التعبير عن واجب بلدهم بحماية المضطهدين في الشرق الأوسط»، وهو ما وضع تركيا في مواجهة مباشرة مع سوريا، وبالتبعية مع كل من إيران وحكومة نوري المالكي في العراق، اللتين تدعمان الأسد، ليبدو الأمر وكأنه صراع سني – شيعي .
وخلص المحلل السياسي فائق بولوط إلى أن سياسة تركيا أصبحت أكثر صخبًا، فيما يتعلق بالحريات الأساسية والإصلاح الديمقراطي في المنطقة.
وأضاف «حتى تتمتع سياستها الجديدة بالمصداقية، سيتعين على أردوجان ألا يتجاهل الانتهاكات المماثلة في إيران المجاورة، علمًا بأنه كان أول المهنئين للرئيس أحمدي نجاد في انتخابات 2009 المشكوك في صحتها، وذلك نظرًا للمصالح الاقتصادية الكبيرة بين البلدين».