x

سينما الخيال العلمي تَكتب تاريخ العالم

السبت 23-06-2012 11:24 | كتب: محمد المصري |
تصوير : other

في مَطلعِ القرن العشرين – تحديداً عام 1902 – لم تَكن لقطة الصاروخ الفضائي الذي يَصطدم بعيني القَمر في فيلم المُعَلّم الفرنسي «جورج ميليه» «رحلة إلى القمر» مُجَرَّد لَقطة مُبهرة، بل كانت الإشارة الأولى إلى ما يَستطيع الفن السينمائي الجديد فِعله.

صحيح أن السينما كانت قد بدأت قبلها بست سنوات مع أفلام الأخوين «لوميير» التوثيقية القصيرة –  قِطار يَدخل المَحَطَّة؛ مَجموعة من العُمَّال أثناء مُغادرتهم للمصنع؛ وغيرها – لكن النّاس أدركوا فعلاً مِقدار السّحر والخيال الذي يمكن أن تَحمله صور مُتتابعة تُعرض أمامهم على الشاشة من خلال أفلام «ميليه»، الذي عَمِلَ ساحراً على المسرح لوقتٍ طَويل وكان أول من أدرك ما يُمكن فِعله بأدواتٍ كالكاميرا، المونتاج، وخَلق المؤثرات.

ورغم أن «ميليه» بدأ مسيرته عام 1896 محولا السينما من التوثيق إلى الحَكِي والرواية، إلا أن ثورته الحقيقية بدأت مع «رحلة إلى القمر»، أول فيلم خيال عِلمي في التّاريخ، حين شهد العالم ميلاد السينما الخيال.

الحَرب العالميَّة الأولى

في البداية تطورت السينما بإيقاعٍ بَطِئ. السّاحر «ميليه» يُطَوَّر أدواته ويجتذِب إلى الفَن الوليد سَحَرة آخرين ويَجعل كُل شيء مُعتمدا على الخَيال والمُتعة والجموح.

وقتها كان العالم هادئاً، يتقبَّل منه كل هذا. توجد مؤامرات وتقسيمات وصراعات سياسيَّة نَعم. لكنها لا تؤثر على «المَزاج» العام لمواطنين عاديين.

إلى أن جاءت العَثرة الكبرى التي غَيَّرت كُل شيء – الحرب العالميَّة الأولى – لتؤثر بشكلٍ مُباشر على التكوين الفكري والثقافي للمجتمعات، وتُنهِي مَسيرة «ميليه» بعد عزوف الناس عن أفلامه. حينئذ أخذت السينما خطوات بعيدة في اتجاه الانحياز إلى الواقعيَّة.

خلال تِلكَ المرحلة – بين حَربين عالميتين – تراجعت أفلام الخيال العلمي ولم تقدّم السينما عملاً سينمائياً ضخماً ضمن تلك الفئة باستثناء فيلم «ميتروبوليس»، تُحفة الألماني الكبير «فيرتز لانج» التي أخرجها عام 1927 وبدا فيها تأثيرًا واضحاً للأفكار اليساريّة التي اجتاحت العالم عقب نجاح الثورة البلشفيَّة في روسيا قبل إنتاج الفيلم بعشرِ سنوات.

في «ميتروبوليس» يتناول «لانج» قصة مَدينة ضخمة تبدو مِثاليَّة للغاية فوق السَّطح. لكننا نكتشف عالما موازيا تحت الأرض يعيش فيه العُمَّال والمَطحونين ويقومون بتَدوير المَدينة، لتُصبح قضية الفيلم الأساسية هي ضرورة أن يَصعد هؤلاء إلى فوق الأرض بدلاً من تحتها.

ورغم القيمة السينمائية الكبرى للفيلم الذي يُعتبر أحد أعظم إنتاجات السينما حتى اليوم، إلا أن التجربة لَم تَكُن مُشجَّعة لاستمرار هذا النوع من سينما الخَيال. حيث استغرق «لانج» عامين كاملين في تصوير فيلمه، واستعان بـ37,000 كومبارس ومئات من العمال والفنيين لإنشاءِ المَدينة التي تَدور فيها أحداث الفيلم، مما جعل ميزانيته تبلغ «1.3 مليون دولار»، وهي أضخم ميزانية لفيلم خلال النصف الأول من القرنِ العشرين، في حين أن العائد لم يتجاوز ولو نِصف تِلك الميزانية.

«لانج» لم يُقدّم أي فيلم خيال عِلمي آخر، يبنما توقَّفت شركات الإنتاج عن تَمويل أفلاماً ضمن تِلك الفئة، إلا مُحاولات بسيطة وغير هامَّة، حتى قامت الحرب العالميَّة الثانية، وأعادت إحياء الخيال العِلمي بشكلٍ مُختلف.

الحرب العالمية الثانية

صورتا سحابة عِش الغراب الدخانية فوق «ناجازاكي» والضحايا المحترقين في«هيروشيما»، بعد إطلاق أول قنبلتين نوويتين أثناء الحرب العالمية الثانية في أغسطس عام 1945، تَركتا بداخِل النّاس أثراً لا يمُحى من الخوفِ.. الخوف من المجهول، الخوف من الغَزو والاجتياح، والخوفِ من الموت قبل أي شيء. وقد تضاعف هذا الشعور مع اندلاع الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والإتحاد السوفييتي، حين بدا على مدى أكثر من ثلاثة عقود أن الخراب مُحتملاً في كُل ثانية.

هذا الشعور بـ«الخوف من المستقبل» لم يَكن يمكن لصنف أن يستوعبه بقدرِ الخيال العِلمي. بدا ذلك واضحاً في الأدب من خلال النجاحٍ العظيم الذي حققته رواية «1984» لـ«جورج أوريل» وكذلك من خلال رواج روايات «هـ.ج ويلز» من جديد.

وفي الموازاة، بدأت بعض شركات الإنتاج السينمائي تتحمس للعودة إلى ضخ ميزانيات كبرى في أفلامٍ تلك الفئة. كان أول وأهم تلك الأفلام وأكثرها تأثيراً فيلم «يوم وقفت الأرض ولا تزال» للمخرج «روبرت وايس» عام 1951، حيث نجد مركبة فضائية تَهبط أمام البيت الأبيض في واشنطن. السفينة تحمل تحذيرًا من «هيئة الحفاظ على سلام المَجرة» يإيقاف حركة الأرض وتدميرها في حالِ لم تتوقف الحرب النووية الدائرة. بدا الفيلم حينها مُناسباً للشعور المتزايد بالضَّجَر من عبثِ السياسيين وهاجس نِهاية العالم، وبالأخص بسبب مستواه الفني المتميز لمخرجه «وايس»، ما أدى إلى تحقيقه إيرادات بلغت «2 مليون دولار» مُعوضاً «1.2 مليون دولار» أنفقوا في ميزانيته.

خلال هذا الوقت أيضاً كانت حملة «المكارثيَّة» ضد الشيوعية بقيادة السيناتور الأمريكي «جوزيف مَكارثي» قد وصلت إلى ذروتها: اتهام شخصيات عامة وفنانين وأدباء وموظفين في الحكومة بالتعاطف مع الأفكار اليسارية أو التجسُّس لصالح دول مُعادية. بدا الأمر مُخيفاً بالنسبةِ لمواطنين عاديين انتشر «الأعداء» بينهم دون أن يعرفوهم. وهو الأمر الذي ألهم المخرج «دون سيجل» كي يُقدّم فيلمه «غزو مُختطفي الأجساد» عام 1956 عن طبيبٍ يكتشف أن مخلوقات فضائية قد استوطنت بلدته الصغيرة واستولت على أجسادِ سُكانها وصارت تشبههم، انتظارا للحظة مناسبة لبدءِ الهجوم وتدمير الكوكب. ويُصبح السؤال الأكثر رُعباً: «من معنا ومن ضدنا في حالِ كان الجميع متشابهين؟» وقد حقق الفيلم نجاحاً ضخماً بلغ ستة أضعاف ميزانية إنتاجه بسبب مُلامسته لهذا الوَتَر عند الناس.

وعلى مَدارِ عقد كامل، بين مُنتصف الخمسينيات ومنتصف الستينيات، شهدت أفلام الغزو الخارجي والكائنات الفضائية رواجاً ضخماً، وصارت تحقَّق نجاحاً كبيراً قبل أن نبدأ نَحنُ – بنو الإنسان – في الخروجِ إلى الفضاء.

الصعود إلى القمر

عام 1963 أعلنت شركة ناسا عن بدءِ تصميم وبناء أول مَركبة فضائية تصعد إلى القمر. ألهب هذا الإعلان خيال الجميع ودفعهم إلى التفكير في صورة الكَونِ الضخم حولنا وماذا يمكن أن نَجِده خارج هذا الكوكب الصغير الذي نعيش فيه. من هنا تحوَّلت الأفلام الخيال العلمي من هَواجس الغزو الخارجي والهجوم على الأرض إلى توقعات وتصوُّرات وآمال لما يُمكن أن نجده حين نَذهب إلى «هُناك»، حيث كون لا يسعه إلا الخيال.

وبالمقابل، أخذت الحَرب الباردة شكل المُنافسة وإثبات السيادة، مما أثَّر بشكلٍ مُباشر على الأفلام والخيال السينمائي. ومع التحضيرات للرحلة التاريخية للصعودِ إلى القمر، وَصلت سينما الخيال العلمي، وربما السينما بشكلِ عام، إلى ذروة مَجدها عام 1968 مع تُحفة المخرج «ستانلي كوبريك» العظيمة «2001: أوديسَّا الفضاء».

«كوبريك» كان يتحرَّى في عمله – الذي صَنَّفه معهد الفيلم الأمريكي كأفضل فيلم خيال علمي في تاريخ السينما – كل الأسئلة حول البشريَّة منذ بدء الخليقة وحياة القرود على الأرض (في تَبنٍ مُباشر لنظرية «داروين» عن التطوُّر)، حتى وصول الإنسان إلى الفَضَاء، وماذا يمكن أن يَجِد هُناك، وإلى أي حد من المعرفة وصلنا. «كوبريك» كان دقيقاً في إجابته: «لا شيء».

استغرق التحضير للفيلم ثلاث سنوات كاملة، قضى «كوبريك» أغلبهم مع مُهندسي الديكور وخبير المؤثرات البصرية «دوجلاس ترومبيل»، ليخلقوا جميعاً التصوُّر السينمائي الأكثر قرباً إلى الفضاء حتى يومنا هذا. ورغم ظهور الفيلم قبل عام كامل من نجاح روَّاد رحلة «أبولو 11» في الصعودِ إلى القمر، إلا أن إجابتهم حين سُئِلوا عما رأوه في الرحلة كانت التكريم الأعظم لأي فيلمِ خيال علمي تم إنتاجه: «لقد كان كل شيء تماماً كـ2001: أوديسا الفضاء»! وهكذا أصبح عمل «كوبريك» المُلهم الحقيقي لكل أفلام الفضاء التي أنتجت بعده والمَرجع البصري الأهم لاستكشاف الكون والسفر خارج الكوكب.

جِيل جَديد

لم يُقدّم «كوبريك» فقط مَعْلَماً من معالم سينما الخَيال العِلمي ولكنه، وبنفسِ قَدر الأهمية، فَتح الباب لتعامل أكثر «جديَّة» مع فكرة الفضاء والكائنات التي تعيش فيه. حيث أنه تجاوز التكوينات الجسديَّة الغريبة والأشعة الذرية التي تخرج من العينين، وجَعلَ تصوُّر المُستقبل والحَديث عن «التواصل» أو حتى «الصراع» الكوني مُحتملا.

تِلك الجديَّة في التعامل مع الخيال تلاقت مع صعود نَجم مُخرجين شابين آخرين، الأول هو «جورج لوكاس» الذي أخرج فيلماً ذو ميزانية مُنخفضة لا تتجاوز المليون دولار يحمل اسم «أمريكان جرافيتي»، لكنه حقق إيرادات تجاوزت المائة مليون دولار. أما الثاني فهو «ستيفن سبيلبرج» الذي أخرج عام 1975 فيلم «الفك المفترس» الذي غيَّر قواعد السينما التجارية عندما حَقَّق ما يقارب النصف مليار دولار، دافعا المُنتجين إلى تَبنّي المواهب الشابة والموافقة على ضخ أموال كبيرة لتنفيذ أفكارهم مهما بدت مَجنونة.

مشروع «سبيلبرج» السينمائي كان يمثل رؤية مُغايرة لكل أفلام الخيال العلمي التي أتت قبله. عند المخرجين الآخرين كان «الآخر» دائماً هو «العَدو» الذي أتى إما لإبادتِك أو احتلالَك. أما «سبيلبرج»، فقد نظر للمسألة بشكل معاكس: فماذا لو كان «الآخر» يُريد اكتشافك ومصادقتك؟ ما هو حجم التطوُّر الحضاري الذي قد يحدث في حال تواصلنا مع «الآخرين»؟ وفي وقتٍ كان العالم يَتجه فيه نحو دعاوى السلام، بينما كان جمهور السينما أكثر مَيلا للاكتشافِ ورغبة في الدّهشة، نَجح «سبيلبرج» في الوصول إلى سماء النجومية مع فيلمه «لقاءات قريبة من النوع الثالث» عام 1977، قبل أن يتجاوز ذلك لما هو أبعد في «إي.تي»، متناولا في الفيلمين فكرتين متقاربتين عن التصالح والتقبُّل وعدم الخوف من الآخر.

«لوكاس» في المُقابل لَم يَحمل نَفس الأفكار الكبرى أو الرؤية المُغايرة. لكنه ذَهَبَ بالخيال إلى أقصى مَدى عَبر سلسلته «حرب النجوم»، حيث الصراع الكَوني يَدور في مجرةٍ أخرى، وحيث يتم استلهام المبادئ البسيطة حول الخير والشّر ليتم من خلالها خلق عالم مُختلف عن كُل ما قُدّم في السينما مِن قبل. هنا رأينا معركة الثوَّار ضد الإمبراطورية العميقة حيث يتم البحث عن المعنى الحقيقي للـ«قوة».

ومع عرض الجزء الأول من سلسلة «حرب النجوم» عام 1977، وتحقيقه أرقاماً قياسية وإعجازية بالنسبة لذلك الوقت، وصلت أفلام الخيال العِلمي إلى القمَّة، وصارت الأكثر جذباً للجمهور. ففتحت ثورة «سبيلبرج» و«لوكاس» بذلك الباب لجيلٍ جديد كي يحلق بعيداً ليُلامِس آفاق الخيال بجرأة. على رأسِ هذا الجيل كان مُخرج شاب يُدعى «ريدلي سكوت» سيقدّم خلال السنوات اللاحقة اثنين من أعظم أفلام الخيال العلمي في تاريخ السينما.





 

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية