إنها السابعة صباحاً..
نحن فى طريق عودتنا من جبال الزراعة النوبية، خلال مرورنا بين قريتى «أرمنا» و«عنيبة» تخترق آذاننا صيحة مجموعة من الأطفال. نلتفت إلى مصدر الصياح، نجده مبنى أبيض بُنى على الطريقة النوبية، وعلى بوابته الصغيرة كتب «دار التحفيظ» أو كما يقول أهل العاصمة «الكُتاب».
لم نُكذب خبراً أو حتى ننتظر توقف عربة المزارع النوبى «عبدالعال» لندخل إلى الكُتاب. قفزنا من العربة فوراً وودعنا مرافقنا ليستقبلنا أمام البوابة الصغيرة سعد أبوبكر محمود، المدير التنفيذى، بابتسامة لم تخف هيئته السلفية، ليقول «السلام عليكم».
لحظات وكنا داخل أحد فصول الكُتاب النوبى الذى اتسع لحوالى 15 طفلاً تتراوح أعمارهم بين 4 و6 أعوام.استقبلتنا ابتساماتهم الناصعة ووجوههم السمراء البريئة لنتقدم إلى لوحة الكتابة التى كتب عليها مجموعة من الكلمات العربية المشكّلة، ليفاجئنا سعد أبوبكر باستعراض مهارات تلاميذه الأطفال فى القراءة بالتشكيل حين أشار إلى أحدهم بالقراءة ليتقدم إلى لوح الكتابة ويرفع يديه مشيراً إلى الكلمة ويقرأ دون أى أخطاء.
«كما ترون نحن نستقبل أطفال القرية من سن ثلاث سنوات ونقوم فى المرحلة الأولى بتعليمهم الحروف العربية ثم نختار الطلبة المتميزين للمرحلة الثانية، وهى مرحلة القراءة بالتشكيل، وخلال المرحلتين نقوم بتحفيظهم القرآن».
هكذا بادرنا «سعد» ليستكمل: «لدينا 16 معلمة فى الدار من بنات القرية اللاتى حصلن على مؤهلات متوسطة، وتتلقى كل منهن مقابلاً شهرياً يساعدهن على العيش فى القرى النوبية، وفى المقابل رسوم التعليم فى الدار لا تتعدى 20 جنيهاً شهرياً لكل طالب، لكن الرسالة التى نقوم بها من خلال الدار هى إنقاذ أطفال النوبة من التعليم الحكومى المتردى الذى تخرج فيه نصف شباب النوبة دون أن يتمكنوا من القراءة والكتابة.
لفت انتباهنا شىء عجيب رأيناه فى جميع الفصول الدراسية التى مررنا عليها، وهى علامة بيضاء على جبهة مجموعة من الطلاب، فسألنا «سعد» عن سر هذه العلامة. أجاب مبتسماً: «لا تتوفر لدينا هنا الملصقات الموجودة بمدارس العاصمة، خاصة النجوم التى تلصق للطلبة المتفوقين على جبهتهم، فنقوم برسم خط أبيض بالطباشير على جبهة الطلبة المتميزين ليعلم ذووه أنه متفوق».
فى آخر الفصول الدراسية التى انتقلنا إليها قرر «سعد» أن يكتب جملة مختلفة هذه المرة فأمسك بالطبشور، وأشار إلى جميع الطلاب ليقرأوا خلفه «عيش.. حرية.. عدالة اجتماعية»، ليبدأ الأطفال هزيجاً دافئاً يعبر عن أحلام المستقبل قبل أن يوقفنا أحد الأطفال ليترجم الجملة الشهيرة لثورة 25 يناير بالنوبية مازحاً «كَابا ــ حرية.. آدِيميرى آدالاجو ــ عدالة اجتماعية».