«شبح تركيا وباكستان يخيم على مصر» هذا ما يتخوف منه الكثيرون ويحسبون له ألف حساب. ففي البلدين نجد نفس عناصر الطبخة السياسية – عسكر، إسلاميون، علمانيون، جماهير محبطة وغاضبة – نفس التطلُع إلى الديمقراطية، نفس الخيبات والتراجعات، ونفس التدخلات والمطامع الاستعمارية.
لكن يخطئ من يظن أن مستقبل مصر سيقتفي أثر تركيا أو باكستان بالتمام والكمال. فبالإضافة إلى العنصر الأهم، وهو أن مصر خارجة من ثورة شعبية لم تشهد مثلها كلتا البلدين، فإن التاريخ السياسي للبلدين يختلف اختلافا كبيرا عن الحالة المصرية. يكفي أن نذكر هنا التاريخ العاصف لتأسيس تركيا في حرب استقلال على أنقاض إمبراطورية غاربة وتأسيس باكستان على خلفية حركة انفصالية وحروب لا تنتهي مع الدولة الأم الهند.
وعلى الرغم من ذلك، فإن بمقدورنا من خلال قراءة التجربتين استخلاص القانون العام لاستمرار نفوذ العسكر السياسي في أي بلد من البلدان المتأخرة. فكما أن احتياج الطبقات الحاكمة هو الذي يمثل الدافع الرئيسي وراء استمرار نفوذ العسكر لحماية المصالح السائدة من أعداء الداخل والخارج ولمواجهة الخطر الماثل للإسلاميين، فإن نفس هذا الاحتياج هو الذي يدفع تلك الطبقات أحيانا إلى إعلان ضجرها من استمرار «الدولة داخل الدولة» التي يمثلها عسكر يزاحمون رجال الأعمال في السلطة والثروة.
تركيا
عندما أُعلنت الجمهورية التركية في 1923، كان مؤسسها مصطفى كمال أتاتورك يصبو إلى ديمقراطية مدنية لا دور للعسكر في شؤونها السياسية، وهو ما دعاه إلى إصدار قانون عام 1930 يحظر على أفراد الجيش ممارسة الأنشطة السياسية.
مصطفى كمال نفسه كان جنرالا قاد حرب الاستقلال التي أدت إلى تأسيس الجمهورية التي اعترف بها المجتمع الدولي كوريث للإمبراطورية العثمانية. لكن رغم خلفيته العسكرية، فإن أتاتورك كان إصلاحيا يهدف إلى تحديث تركيا وتخليصها من آثار الخلافة الإسلامية. وهو ما قد يفسر المكانة الخاصة التي أكتسبتها الأيديولوجية العلمانية في أوساط نخبة الحكم في تركيا. حيث كان قادة الجمهورية منشغلين بمحو كل أثر لمؤسسات الخلافة ودولتها ورجالها. وهو ما يفسر كذلك ميل قادة الجمهورية الأوائل إلى إبعاد ضباط الجيش عن العمل السياسي. حيث كانوا يطمحون في تأسيس دولة حديثة ذات جيش محترف خاضع للسلطات المنتخبة.
لكن الباحث ماكسويل جونسون يلفت انتباهنا في دراسة عن دور الجيش في الحياة السياسية التركية أن منع أتاتورك الجيش من لعب دور سياسي مباشر لم يكن يعني الخروج التام للجيش من دائرة النفوذ السياسي. فوفقا لجونسون: «مثّل ضباط الجيش السابقين 15% من أعضاء الجمعية الوطنية (البرلمان التركي) في أولى دوراتها عام 1920، وبذا كانوا أكبر جماعة مصالح أو جماعة فئوية في البرلمان. وفي السنوات الثلاثين اللاحقة، كان العسكر دائما يحوزون حوالي 20% من مقاعد الجمعية الوطنية كنواب منتخبين على قوائم حزب الشعب الجمهوري الحاكم ... والأهم أن تمثيلهم في المستويات القيادية للجمعية الوطنية كان دائما أعلى من تلك النسبة، بما جعلهم القوة الأكثر نفوذا في البرلمان ومؤسسات الدولة الأخرى.»
توفي أتاتورك عام 1939 وخلفه في السلطة رفيقه في حرب الاستقلال ورئيس وزرائه عصمت إنونو. ورغم أن إنونو سار على نهج أتاتورك في معظم الأمور، إلا أنه سمح تدريجيا بعودة التعددية الحزبية، وهو ما فتح الباب لتأسيس الحزب الجمهوري الديمقراطي ثم وصوله إلى الحكم في 1950.
الأكيد أن فقدان حزب مصطفى كمال – حزب الشعب الجمهوري – لسلطته على خلفية التطور الديمقراطي في تركيا أدى إلى تراجع نفوذ وامتيازات الجيش في البرلمان والحكومة وكافة مؤسسات الدولة، وإلى التراجع عن عدد من إصلاحات مصطفى كمال العلمانية والتحديثية. هنا تصاعد التذمر في أوساط الجيش وبدأ الحديث يكثر عن النضال من أجل عودة «الأتاتوركية».
وخلال أعوام الخمسينيات عندما تولى الحزب الديمقراطي الحكم، بدأت الأوضاع الاقتصادية والسياسية في التدهور، وهو ما دعا رئيس الوزراء عدنان مندريز إلى تقييد الحريات الديمقراطية وممارسة قمع سافر، حتى وصل الأمر إلى دعوته الجيش إلى التدخل مباشرة لقمع الحركة الجماهيرية والطلابية في ربيع عام 1960.
دعوة مندريز الجيش إلى لعب دور جهاز القمع المباشر للحركة السياسية والجماهيرية قذفت بالجيش في أتون السياسة، فانفتح بهذا بابا للتعبير عن مرارات المؤسسة العسكرية المتراكمة في ظل «العهد الديمقراطي»، خاصة وأن مندريز طلب من الجيش إلقاء القبض على إنونو رمز الكمالية الباقي الذي يحبه ويقدره قطاع واسع من رجال الجيش.
من هنا قامت جماعة من ضباط الجيش بالانقلاب على حكومة مندريز والاستيلاء على السلطة بهدف استعادة روح الكمالية. وبعد ذلك بعام واحد صدر قانون الخدمة الداخلية للقوات المسلحة الذي أضفى شرعية على تدخل العسكر في السياسة لحماية "هوية الدولة واستقرارها".
كان انقلاب 1960 ذا آثار واضحة على نفوذ الجيش الذي توسع كثيرا. فقد قام قادة الانقلاب، إلى جانب الإطاحة بمندريز، بإقصاء الرئيس التركي سلال بيار وحل البرلمان. كما أدين عدد من وزراء مندريز بإساءة استغلال المال العام والتلاعب بالدستور والخيانة العظمى، وحوكموا جميعا في محاكمة عسكرية أعدم على أثرها رئيس الوزراء ووزيرين، بينما حكم على الباقين بالسجن لفترات طويلة.
استمر الجيش التركي مسيطرا على المشهد السياسي حتى بعد عام 1965 الذي أجريت فيه انتخابات ديمقراطية فاز فيها سليمان ديمريل ومعه حزب العدل بالانتخابات وأصبح رئيسا للوزراء. وفي 1971، أجبر قادة الجيش الرئيس على تغيير حكومة ديمريل مطالبين بحكومة «قوية» يمكنها «تصحيح الوضع الفوضوي» الذي وصل إليه نظام السلطة في تركيا. وقد حذر العسكر من أن أي رفض لمطالبهم سيؤدي إلى قيام القوات المسلحة بإدارة البلاد. ومع استمرار الاضطرابات أرسل قادة الجيش لرئيس الحكومة مذكرة تطالب بإعادة النظام للبلاد ومنح «مجلس الأمن القومي» العسكري سلطات أكبر. ومع زيادة التفجيرات وعمليات الاغتيال أطيح بالحكومة للمرة الثانية على يد الجيش.
تكرر المشهد للمرة ثالثة في 1980 عندما أطاح الجيش بديمريل وأعلن القائد العام أن القوات المسلحة هي من ستتعامل مع المشهد السياسي. وقد رحب عدد كبير من الأتراك بهذا الانقلاب بعد سنوات من الركود الاقتصادي والاجتماعي والاضطرابات.
استمرت تركيا دون اضطرابات كبيرة حتى عام 1996 حين تولى الحكم نجم الدين أربكان رئيس حزب الرفاه الإسلامي الذي حقق مكاسب كبيرة للإسلام السياسي بوصوله لرئاسة الوزراء، وسعى للانفتاح على العالم الإسلامي محاولا في الوقت ذاته ألا يستفز الجيش من خلال الترويج لفكرة أنه لا يريد المساس بالنظام العلماني. ورغم ذلك، قام الجيش بانقلاب من نوع خاص ضد أربكان. إذ قدم القادة العسكريون مجموعة مطالب إلى حكومته تدعو إلى وقف كل مظاهر النشاط الإسلامي فورا، ما اضطر أربكان إلى الاستقالة لمنع تطور الأحداث إلى انقلاب عسكري كامل.
سُمي انقلاب 1997، الذي لم يكن انقلابا بالمعنى الكامل، بانقلاب ما بعد الحداثة. إذ كان مجرد التهديد بالانقلاب كافيا لإقصاء الحكومة الإسلامية وإعادة النظام العلماني على يد رئيس الجمهورية مسعود يلمظ إلى أن تولى حزب «العدالة والتنمية» الإسلامي الحكم برئاسة رجب طيب إردوغان.
كان انقلاب 1997 «الذي لم يحدث» آخر عهد تركيا بالانقلابات العسكرية. فمنذ ذلك الحين، وخاصة بعد تولي إردوغان رئاسة الوزراء، بدأ نفوذ العسكر السياسي في التراجع تدريجيا بسبب النجاح الاقتصادي والسياسي لحكومة العدالة والتنمية وكذلك بسبب تصادم مصالح الرأسمالية التركية الساعية للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي مع رغبة القادة العسكريين في الاحتفاظ بوضع سياسي مميز لأنفسهم.
في عام 2008 اعتقل أكثر من مائة من قادة الجيش التركي. بعد ذلك بعامين اعتقل 40 آخرون بتهم تتعلق بمحاولة قلب نظام الحكم، بينما طلب القائد الأعلى للقوات المسلحة في أغسطس 2011 التقاعد، ومعه قائدا القوات الجوية والبحرية، ثم اعتقل أكثر من 19 من قادة انقلاب 1997 مؤخرا فيما وصف بأنه خطوة أخرى لحكومة رجب طيب إردوغان لإلغاء عسكرة الدولة.
باكستان
القصة الباكستانية تختلف كثيرا عن التركية. فإذا كان ما يفسر صعود الجيش في تركيا هو الخوف من تدهور الأوضاع وتفكك الدولة، فأن ما يفسر صعوده في باكستان هو حدوث هذا التدهور والتفكك بالفعل.
حصلت باكستان على استقلالها من بريطانيا عام 1947 بعد أن كانت جزءا من الهند. ومنذ حصولها على الاستقلال وباكستان دولة مفككة ضعيفة غير مستقرة. فبالإضافة إلى تعدد الديانات واللغات والإثنيات، فإن باكستان المستقلة شهدت حروبا عديدة مع الهند كان أولها عقب الاستقلال مباشرة. كذلك فإن النزاع على كشمير وانفصال بنجلاديش يعتبران من الدلائل على أن حكام باكستان لم يستطيعوا أبدا أن يصهروا سكان الدولة الجديدة في بوتقة قومية واحدة.
كان هذا وضعا مثاليا لصعود نفوذ البيروقراطية العسكرية العليا – الوحيدة القادرة على الحفاظ على الدولة في مواجهة مخاطر الصراع الدولي والتناحر الداخلي. وهو ما جعل الجيش والمخابرات أدوات رئيسية، لها استقلالها النسبي، في صنع القرار السياسي.
شهدت باكستان أول انقلاباتها العسكرية عام 1958على يد أيوب خان المدعوم غالبا من الولايات المتحدة. كان أيوب خان خصما للإسلاميين، إلا أنه تحت الضغوط رضخ لمطالبهم. وبسبب حرب باكستان مع الهند، التي خرج منها الجيش الباكستاني بنصر غير حاسم، أبرم خان اتفاقية طشقند مع الهند، وهي الاتفاقية التي اعتبرها كثيرون تقليلا من شأن نصر باكستان وهزيمة لها على أرض المفاوضات. وفي عام 1969، تولى قائد أركان الجيش محمد يحيى خان الحكم بعد إجبار أيوب خان على تقديم استقالته.
كانت أول تجربة ديمقراطية لباكستان هي الانتخابات البرلمانية عام 1970 التي كان من المفترض أن تنبثق عنها جمعية تأسيسية لوضع الدستور الجديد للبلاد. لكن تدهور الأوضاع في شرق باكستان، الذي أسفر عن إعلان بنجلاديش نفسها دولة مستقلة، أدى إلى اندلاع حرب تدخلت فيها الهند فيما بعد وأسفرت عن مقتل ما لا يقل عن مليون شخص وفقدان باكستان سبع أراضيها.
كان من نتائج حرب بنجلاديش تقديم محمد يحيى خان استقالته وتولى ذو الفقار بوتو رئاسة الوزارة. وفي عهد بوتو، رفضت معظم الأحزاب، وعلى رأسها الجماعة الإسلامية، نتيجة انتخابات 1977، مما دفعه إلى شن هجمة على خصومه، خاصة الإسلاميين منهم، داعيا الجيش إلى التدخل بعد اتساع نطاق العنف ضد سلطته. إلا أن بعض قادة الجيش بقيادة الجنرال ضياء الحق رفضوا أوامر بوتو وأعلنوا انقلابا عسكريا «أبيض».
في بداية توليه السلطة، أعلن ضياء الحق أن الحكم المدني سيعود إلى باكستان فورا، مؤكدا أن «الجيش ليس طامعا في السلطة« وأن «الانتخابات ستجري في غضون ثلاثة أشهر»، فيما سعت الجماعة الإسلامية إلى الارتباط بعلاقات جيدة مع رأس السلطة الجديد.
شاركت الجماعة الإسلامية في أول حكومة بعد الانقلاب، وهي الحكومة التي أعلنت أن مهمتها تطبيق الشريعة الإسلامية. وتسلم وزارة الإعلام طفيل محمد أمير الجماعة الإسلامية. كما أن ضياء الحق أتاح للإسلاميين الانتشار في أركان الدولة، حتى بين كبار ضباط الجيش.
لم ينفذ ضياء الحق وعوده باستعادة الحكم المدني قط، بل إنه قام بإعدام بوتو عام 1979. وفي نفس العام، سحبت الجماعة الإسلامية دعمها له، بعد أن نكث بوعده بإجراء انتخابات للمرة الثانية. إلا أن اجتياح الاتحاد السوفيتي لأفغانستان ودعم ضياء الحق للمقاومة أعاد المياه لمجاريها بينه وبين الجماعة الإسلامية، كونها الداعم الرئيسي للمجاهدين الأفغان.
بعد الهزيمة السوفييتية في أفغانستان، سحبت واشنطن دعمها العسكري لضياء الحق واشتدت المعارضة ضده. ففكر في تنفيذ انقلاب عسكري جديد، لكن سلمي هذه المرة. فحل الجمعية الوطنية وأقال الحكومة ووعد بإجراء انتخابات وألقى خطابا مؤثرا بكى فيه أمام الشعب معلنا أنه سيطبق الشريعة الإسلامية.
وفي عام 1988، نُفذت عملية اغتيال بحق ضياء الحق ورجاله. وتسلم رئيس الجمعية الوطنية رئاسة الدولة مؤقتا ريثما تتم انتخابات جديدة. وفي الانتخابات، فاز حزب الشعب الذي تترأسه بي نظير ابنة ذو الفقار بوتو مشكلا حكومة أقيلت بعد عامين ليشكل نواز شريف حكومة أخرى لمدة تسعة سنوات انتهت بانقلاب عسكري نظمه الجنرال برويز مشرف.
اتسم حكم مشرف بدرجة عالية من عدم الاستقرار. فإلى جانب التدهور الاقتصادي المتواصل، شاركت باكستان أثناء حكمه في الحرب ضد الإرهاب التي أعلنتها واشنطن على العالم، وبالأخص جارة باكستان الضعيفة والمفككة أفغانستان، وهو ما أثار الحركة الإسلامية المحلية والقوى القبلية وأدى إلى تزايد تفكك الدولة.
وفي 2007، قرر مشرف إقصاء رئيس المحكمة العليا القاضي افتخار تشودري، وهو ما كان بمثابة الشرارة التي أشعلت حركة جماهيرية واسعة أجبرت مشرف على تنظيم انتخابات فاز فيها حزب الشعب الباكستاني. وفي النهاية، وبعد مناورات لا تنتهي، استقال مشرف من رئاسة الدولة في أغسطس 2008.
لكن نهاية مشرف وعودة الحكم المدني لم تقض على نفوذ العسكر والمخابرات في باكستان. فلأن الانتخابات الباكستانية تأتي في معظم الأحيان بقوى ترتبط بأواصر صداقة عميقة بمافيا السلاح والمخدرات والجريمة المنظمة، ولأن أحزاب النخبة البرجوازية لا يمكنها أن تعيش دون دعم مؤسسات الدولة العميقة، فإن الديمقراطية في باكستان لا تختلف كثيرا عن الديكتاتورية – في كلتا الحالتين تظل مؤسسة الجيش نافذة ومسيطرة تحمي «الديمقراطية» أو «تمنع شططها» وتذود عما يطلق عليه الأمن القومي في مواجهة قوى إسلامية طالعة يخاف منها الغرب تماما كما يخاف منها حكام باكستان الحاليون!