تمشية قصيرة إلى مقهى إنترنت بحي كيلوباترا بالإسكندرية عجّلت بنهاية الشاب خالد سعيد في يونيو 2010، واحتجاج مشروع لسائق ميكروباص على سباب أمين الشرطة الموجه لأخيه انتهي إلى هتك عرض السائق المعروف باسم عماد الكبير في يناير 2006.
بين القصتين أربع سنوات، وبين بطلي الواقعتين فجوة اجتماعية، لكن بينهما في المقابل رابط قوي يضعهما في سلة واحدة مع الآلاف من ضحايا انتهاكات الشرطة والتعذيب الأمني في مصر قبل الثورة.
تعد قضية الشهيد خالد سعيد، الذي توفي نتيجة للضرب المبرح على يد أفراد شرطة (حصرهم قرار الاتهام في أمين الشرطة محمود صلاح محمود والرقيب عوض إسماعيل سليمان)، نقطة فاصلة في تاريخ تعذيب المواطنين على يد قوات الأمن في مصر، فقد تحول خالد– الذي لاحقته بعد وفاته ادعاءات قاتليه التي اتهمته بالاتجار في مخدر البانجو– إلى أيقونة للاعتراض على «عنف الشرطة وممارستها للتعذيب بحق المواطنين»، وهو ما مهد لقيام ثورة الخامس والعشرين من يناير التي وضعت على رأس أهدافها إنهاء «قمع أجهزة الأمن».
ولكن قبل قضية خالد وبعدها، استمرت جهود عدد قليل من الشباب المهتم بوقائع التعذيب، الذي استطاع تحويل أخبار مقتل وانتهاك المعتقلين على يد قوات الشرطة من روتين يومي لا يلفت نظر أحد إلى قضايا رأي عام تضغط من أجل استعادة حقوق المُنتَهَكين، وعقاب مرتكبي جرائم التعذيب، والضغط من أجل وقف جرائم التعذيب في السجون وأقسام الشرطة.
تضم قائمة المدونين الذين وجهوا قدرًا من طاقاتهم لفضح وقائع التعذيب والانتهاك وتوثيقها محمد خالد صاحب مدونة «دماغ ماك» ووائل عباس صاحب مدونة «الوعي المصري» ومصطفى حسين الطبيب النفسي المتعاون مع مركز النديم لمساعدة ضحايا العنف والتعذيب، لكن كانت هناك شخصية واحدة كرّست وقتها وكتاباتها كلها لقضية التعذيب عبر مدونتها التي حملت اسم «التعذيب في مصر».
البداية
لم تكن خريجة كلية الألسن نهى عاطف قد تخطت الثانية والعشرين من العمر عندما قرأت تقريرًا حول تعذيب النساء بأقسام الشرطة، حمل التقرير، الذي نشر في مطلع 2006، اسم «خبرات نساء في أقسام الشرطة»، تحدثت نهى عن التقرير مع أسرتها وأصدقائها وفوجئت بعدم تصديقهم لما ورد فيه من انتهاكات، مما دفعها لبدء مدونتها «التعذيب في مصر» في الثامن من فبراير في العام نفسه لتتبع حالات التعذيب وتوثيقها وإثبات حقيقة قالت «إن الناس اختاروا التعامي عنها».
كتبت نهى تدوينتها الأولى عن «حسن»، العضو السابق بالجماعة الإسلامية، الذي قالت إنه «تعرض للاعتقال المتكرر والانتهاك الجنسي والتعذيب على يد قوات الأمن، وعند خروجه على الجماعة، عاودت أجهزة الأمن اعتقاله لإجباره على العمل كمخبر لها، ولما تكرر رفضه تعرض لمزيد من التعذيب والتهديد».
قصة حسن كانت مقدمة لسلسلة طويلة من توثيق وقائع الانتهاك امتدت إلى 139 «تدوينة» في أربع سنوات، ومن اللافت أن ما جرى لخالد سعيد في الإسكندرية وجد طريقه لمدونة نهى لتكتب عنه بعد استشهاده بأيام أربعة، وتوثق واقعة الانتهاك عبر روايات الشهود.
تحمل المدونة شعارين جرت صياغتهما ببراعة، أولهما «سلامة الأفراد مسؤولية المجتمع»، والثاني «إهانة الفرد.. إهانة للوطن».
وجهت نهى عاطف رسالتها لكل زائر لمدونتها بأنه يتحمل عبء استمرار التعذيب بوصفه فردًا في هذا المجتمع، وحرصت على «إيقاظ الزائرين على حقيقة وجود تعذيب ممنهج بأقسام الشرطة والسجون ومقار جهاز أمن الدولة»، بحسب وصفها، لتصير مدونتها وجهة لأجهزة الإعلام التقليدية كمصدر أولي لمتابعة ضحايا التعذيب في مصر.
تتذكر نهى بدايات مدونتها متحدثة عن أحداث فاصلة بالنسبة لها مثل فض قوات الأمن المركزي لاعتصام اللاجئين السودانيين في ميدان مصطفى محمود ليلة رأس السنة عام 2005، ومقتل المواطنة- الفلاحة نفيسة المراكبي على يد قوات الشرطة بعد احتجازها وتعرضها للتعذيب مع عدد كبير من فلاحي قرية «سراندو» الذين قامت قوات الأمن بانتزاع أراضيهم وتسليمها لعائلة «نوار».
تحديات
واجهت المدونة في البداية عدة تحديات تتصل بصعوبة الحصول على المعلومات، خاصة أن حركة التدوين وقتها لم تكن تحظ باهتمام يذكر، كما أن قضية التعذيب التي اختارتها الباحثة (حاليًا) في علوم الاتصال بجامعة برمنجهام سيتي البريطانية لم تكن تواجه بالرفض في المجتمع، تذكر نهى جملة سمعتها من معارف لها: «ضرب الشرطة مش عيب»، وتضيف مذكرة إيانا أن «القانون لا يعتبر التعذيب جريمة تستوجب العقاب»، حيث لا توجد تهمة في قانون العقوبات اسمها «تعذيب» بل تندرج جرائم أفراد الشرطة ضد المواطنين في الأقسام تحت تهم مثل «الضرب» أو «إحداث عاهة».
كل هذه التحديات رسمت للمدونة نهى عاطف طريقًا يبدأ بأهداف مرحلية أولها «تغيير نظرة الناس للتعذيب» بحيث لا يُعَد وصمة على جبين المعتدى عليه، بل وصمة في حق من يقوم بالاعتداء، تدلل نهى عاطف على تلك النقطة بقضية عماد الكبير، «حيث رفض السائق المُعتدى عليه التقدم ببلاغ ضد الضابط إسلام نبيه الذي قام بتعذيبه وانتهاك عرضه، حتى ضغط عليه الصحفيون الذين تابعوا القضية ومنهم الكاتب وائل عبد الفتاح، الذي التقط القضية من مدونة (دماغ ماك)».
الهدف الثاني بالنسبة لنهي كان «فضح الانتهاكات التي تشهدها مراكز الاحتجاز بالأقسام والسجون، والتركيز على التعذيب باعتباره جريمة تستوجب الملاحقة والعقاب»، فالقانون من وجهة نظر نهى لم يكن قادرًا على معاقبة الجناة في وقائع التعذيب، وهو الأمر الذي دفعها للجوء إلى ما تسميه «عقاب شعبي».
موسوعة الجلادين
بادرت نهى إلى تأسيس مشروع جديد سمته «موسوعة الجلادين» ضمت فيها أسماء ضباط وأفراد الشرطة ممن ارتكبوا وقائع التعذيب، تطور المشروع سريعًا وتحول إلي موسوعة مصورة عبر موقع مشاركة الصور فليكر، واتسع بعد الثورة بمجهودات المشاركين ليضم صور ضباط بالقوات المسلحة اتهمهم المشاركون في الموسوعة بأنهم تورطوا في وقائع تعذيب موثقة.
بمرور الوقت صار للمدونة شبكة مصادر تستطيع أن تستقي منها معلومات حول وقائع التعذيب، وقد وضع هذا نهى في مواجهة تحد آخر هو التحقق من المعلومات وتوثيقها قبل النشر، لكن من جانب آخر، نجحت مدونة التعذيب في مصر في تشجيع مدونين آخرين على الالتفات لقضايا التعذيب، وهو ما عدته نهى نجاحًا هوّن عليها ما لاقته من مضايقات أمنية، منها ما قالته لـ«المصري اليوم» عن تدخلات أجهزة الأمن للضغط عليها وأسرتها، مما تسبب في فصلها من عملها.
ورغم ذلك لا تجد نهى في هذه المضايقات التي تعرضت لها مشكلات تستحق الالتفات، فهي تحمد الله على انتقالها للعمل بعدة صحف عربية ومحلية، تركتها فيما بعد لإتمام دراسات عليا في الإعلام في جامعة برمنجهام البريطانية، مستفيدة من تجربتها مع الصحافة الشعبية التي خاضتها عبر مدونتها.
مشروع نهى تحمست له الزميلة الدستور في إصدارها الثاني، أثناء رئاسة الكاتب إبراهيم عيسي لتحريرها، لتنقل الجريدة عن مدونتها وقائع التعذيب التي ترصدها عبر مصادرها، وعبر تعاون مدونين آخرين معها.
وأصبح النقل بابًا شبه ثابت في الصحيفة الأُسبوعية، لتنقل عنها صحف وبرامج تليفزيونية بعد ذلك، وتنجح المدونة في إعادة ترتيب أجندة أولويات وسائل الإعلام، جاعلة «التعذيب الممنهج» رقمًا مهمًا في معادلة صياغة اهتمامات الرأي العام.
وصمة عار
أوقفت نهى مدونتها بعد افتضاح قضية خالد سعيد، حيث فوجئت بما استطاعت صفحة «كلنا خالد سعيد» فعله عبر استخدام شبكة التواصل الاجتماعي «فيس بوك» من تحويل قضية التعذيب إلى دافع للحشد والحركة في الشارع، تقول نهى: «وجدت أن هناك مدرسة جديدة تظهر في مقاومة التعذيب، لم يعد التوثيق ونشر الوعي كافيًا، بل صارت هناك حركة جماهيرية فاعلة، وهنا قررت التوقف وترك الساحة لمن لديه أدوات الحشد والمقاومة».
ترى المدونة أنها لم تدفع ثمنًا باهظًا مثل ذلك الذي قدمه نشطاء ضد التعذيب مثل محمد خالد ووائل عباس «اللذين تعرضا للاعتداء البدني وتلفيق الاتهامات»، وهي تؤكد أن ما تعرضت له يعد «رأسمال لثروة جديدة» أفادت فيها من التجربة، حيث إن المجال بعد الثورة أصبح مفتوحًا للكتابة وفضح الانتهاكات، فقد صار المجتمع مهيئًا لرفض التعدي على كرامة المواطنين ومساندة من يتصدى للممارسات المماثلة، وهو ما ترى فيه مسؤولية أكبر ملقاة على كاهل من يتصدون لهذه القضايا.
ربما لم توفق مدونة «التعذيب في مصر» في إنهاء «انتهاكات الشرطة» التي توجد وقائع عديدة بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير تثبت استمرارها وتواصلها، لكن تعذيب وقتل المواطنين لم يعد من الممكن أن يمر مرور الكرام بفضل مجهودات «الإعلام الشعبي» الذي حوّل التعذيب من روتين يومي إلى وصمة في جبين أجهزة الأمن.