x

دستور جنوب أفريقيا: عيش.. حرية.. كرامة إنسانية

الأربعاء 16-05-2012 20:03 | كتب: أحمد محجوب |
تصوير : other

«نحن، شعب جنوب أفريقيا، إدراكًا منا للظلم الذى تعرضنا له فى الماضى، نكرّم أولئك الذين عانوا من أجل نشر العدل والحرية فى أرضنا، ونحترم أولئك الذين عملوا من أجل بناء بلدنا وتنميته، ونؤمن بأن جنوب أفريقيا مِلك لكل من يعيشون فيها، المتحدين رغم تنوعهم».

بهذه العبارات الملهمة، أعلن مواطنو جنوب إفريقيا إنهاء أكثر صفحات تاريخ البشرية سواداً، المعروفة باسم حقبة الأبارتهيد أو الفصل العنصرى (1948-1996).

رجال ونساء.. شيوخ قبائل الزولو و«أفريكانز».. معتقلون سابقون رفعوا السلاح.. وبقايا استعمار رفع الراية البيضاء.. هؤلاء كلهم قرروا أن يخرجوا من نفق العنصرية المظلم، إلى براح الديمقراطية، معتمدين على واحدٍ من أكثر دساتير العالم إنسانية وتقدماً ومحافظة على الحقوق.

7 سنوات مرت منذ 1989، وحتى 1996 (تاريخ اعتماد الدستور)، خاضت فيها جنوب أفريقيا واحدة من أطول «الفترات الانتقالية»، فى العالم، فى البدء جاءت الانطلاقة مع خروج نيلسون مانديلا، المناضل التاريخى (مواليد 1918)، من سجون «الأبارتهايد»، بعد 27 عاماً من النضال خلف الأسوار.. خرج مانديلا، أحد الزعماء التاريخيين لحزب المؤتمر الوطنى من السجن، بعد أن قاد منذ 1960 الجناح العسكرى المسلح ضد حكومات الأبارتهيد.. لكن الشاب الذى دخل السجن ثائراً يحمل السلاح ضد خصومه، خرج من محنة الاعتقال التى تجاوزت ربع قرن، بذهنية حكيم من الزولو، قرر أن يلتقى غريمه بى دبليو بوتا، رئيس وزراء جنوب أفريقيا فى 1989، عارضاً شيئاً واحداً لم يتغير أبداً «المصالحة وإنهاء الضغائن».. هكذا تحدث مانديلا دائماً، وسط ذهول العالم وحتى أنصاره.

بدأت مفاوضات الدستور مع بدايات عام 1990، ووصلت فى 1993 لدستور انتقالى، تضمن مبادئ لإنهاء الأبارتهايد، وفى إبريل 1994، شارك 86% من ناخبى جنوب أفريقيا، فى انتخاب جمعية تأسيسية وبرلمان معا لتشكيل الدستور، ولم يتفرد البرلمان الجديد برأيه لوضع دستور البلاد، لكنه أعلن عن «حملة التثقيف والمواطنة» لتشجيع المواطنين أنفسهم على وضع تصوراتهم وأحلامهم فى دستور البلاد، ليصل عدد الاقتراحات الدستورية التى وصلت للجمعية التأسيسية نحو 2 مليون اقتراح من مواطنين ونقابات عمالية وجمعيات أهلية، ومنظمات ثقافية وطلابية وشعبية، وشيوخ القبائل وحتى طلبة المدارس قدموا اقتراحاتهم.

وتقول فيفيان هارت، أستاذة باحثة فى جامعة ساسكس، فى دراستها عن دستور جنوب أفريقيا ومراحل صياغته أن «الجهود التثقيفية للمواطنين تَضمّنت حملة فى وسائل الإعلام، وحملة إعلانية فى الصحف، ومحطات الإذاعة والتلفزيون ولوحات الإعلان، وعلى الحافلات، وكذلك فى صحيفة تنشرها الجمعية التأسيسية وتوزع 160.000 عدد، وفى رسومات كارتونية، وموقع على الإنترنت، واجتماعات عامة، وطالت تلك الجهود مجتمعة حوالى 73 %من السكان».

وبحلول 1996، وتحديداً فى شهر مايو، انعقدت هيئة المحكمة الدستورية بجنوب أفريقيا لمناقشة مسودة الدستور (الذى بدأ إعداده فى نوفمبر 1995)، لتعيده إلى الجمعية التأسيسية من جديد، مع رفض بعض المواد، لتعود الجمعية للانعقاد وتبحث اعتراضات المحكمة، وتصل للنص النهائى فى 1996، ليصدر دستور فى ديسمبر من العام نفسه بعد أن ناقش المواطنون من مختلف الأعمار والطوائف، دستور بلادهم طيلة 7 سنوات، انشغل المجتمع فيها بابتكار صيغ خاصة تلائم طبيعة البلد وتلبى أحلام أجيال مختلفة ذاقت للمرة الأولى ليس فقط حق الانتخاب، لكن المشاركة الفعلية فى رسم مستقبل بلادهم دون تخوين أو إقصاء أو احتجاج من أحد، فهناك على قمة مشروع الفترة الانتقالية كان نيلسون مانديلا «حكيم الناتال»، يذهب بنفسه مع اللجان للقرى والغابات، مستمعاً ومتعلماً من أجيال منعه الاعتقال من إدراك أحلامها.. كان الحكيم يستمع ويبتسم ويحيل الاقتراحات للجنة الدستور.

بعد المشاورات المكثفة، وفى 1996 استقر الشعب الجنوب أفريقى، على «حلمه الدستورى»، ووافق على دستور بلاده الجديد الذى يعتبر واحداً من أكثر دساتير العالم شمولاً واهتماماً بالحريات، وأكثرها على الإطلاق ابتعاداً عن تجارب الإقصاء (مثلما نفى الدستور الإيطالى أسرة سافوى)، حيث استوعب شعب جنوب أفريقياً عبر مناقشات مستفيضة، درس الماهاتما غاندى، الذى اعتبره مانديلا «المعلم الأول».

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية