حين يقرر 1.2 مليار نسمة أن يضعوا جميعاً وبشكل ديمقراطى، دستوراً لبلادهم، متجاوزين اللون والعرق والجنس والدين والمذهب والقبيلة، فعلى الجميع أن ينصت طويلاً لهذه التجربة.. إنها الهند أكثر الديمقراطيات ازدحاماً بالسكان، والبلاد المليئة بالمتناقضات، فهى فى الترتيب الـ12 لأقوى اقتصاد فى العالم، وفى الوقت نفسه لايزال ملايين الهنود يعانون من فقر مفزع، حتى صارت بعض القرى الهندية مثالاً عنيفاً على الفقر فى العالم.
خاضت الهند (أو بهارات كما يسميها أبناؤها) نضالاً مريراً، تحت قيادة المهاتما غاندى، للاستقلال عن بريطانيا، وبعد رحيله على يد متطرف هندوسى - يشكل الهندوس 82% من السكان - رأى «غاندى» يتقرب لـ«الأقلية المسلمة» التى تشكل نحو 10% من السكان.. تعلم الهنود من «دماء المهاتما»، كيف يبنون وطناً يتعايش فيه الجميع.
بعد رحيله بعام، كان على حزب المؤتمر الشعبى (الذى حصد نحو 40% من مقاعد الجمعية التأسيسية للدستور) وزملائه فى اليسار (نحو 31% من المقاعد)، أن يتحدوا جميعاً لتنفيذ وصية غاندى الدائمة بـ«الأخوة». وفى 26 نوفمبر 1949، أعلن الشعب الهندى عن دستوره الأول عقب الاستقلال، وبدأ الدستور بديباجة تعبر عن أحلام واحدة من أقدم حضارات العالم، وآمال شعب يعانى من الفقر والطائفية والجهل، فجاءت ديباجة دستور الهند تحمل 4 أهداف للجمهورية الوليدة، هى «العدالة والحرية والمساواة وإنهاء الكراهية وبدء عهد جديد من الإخاء».
ونصت الديباجة التى افتتحت الدستور على أن شعب الهند يعلن «العزم رسمياً على إعلان جمهورية علمانية ديمقراطية اشتراكية، تؤمن لمواطنيها: العدالة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وحرية الفكر والتعبير والدين والمعتقد والعبادة، والمساواة بين المواطنين فى الأوضاع والفرص، وتشجيع الإخاء وضمان كرامة الفرد ووحدة وسلامة الأمة».
اختارت الهند النظام البرلمانى الفيدرالى، واستعادت فى المادة رقم 1 من الدستور اسم الهند القديم (بهارات)، ويبدو أن حلم «الإمبراطورية الهندية» التى تمتد من حدود أفغانستان حتى المحيط الهندى، قد جعل المادة نفسها تنص على «حدود مطاطة» للدولة، حيث تقرر فى البند (ج) من الفقرة 3 من المادة الأولى أن الاتحاد الهندى يتكون من «أراضى الولايات وأقاليم الاتحاد وأى أراضٍ أخرى تكتسب».
أما الهوية، فالهند تمنع مواطنيها من اكتساب أى جنسية أجنبية، فبالبلاد ما يزيد على 100 لغة ولهجة وعرق وسط تنوع تراثى هائل، وتعتبر مواد الجنسية فى الدستور جزءاً من تاريخ الهند التى تعرضت للتقسيم عام 1947، لتصبح شبه القارة دولتين، الأولى للمسلمين (باكستان)، والثانية هى الأرض التاريخية للهندوس، وربما أدى صدور الدستور بعد نحو عامين على التقسيم، وسط اضطرابات حدودية واسعة، إلى تعقيد حسم الإجابة عن سؤال محورى «من هو المواطن الهندى»، فالمادة 5 تنص على أنه «عند بدء سريان هذا الدستور يكون مواطناً من مواطنى الهند كل شخص يكون محل إقامته فى أراضى الهند، أو يكون قد ولد فى أراضى الهند، أو يكون أى من والديه قد ولد فى أراضى الهند، أو كان يقيم إقامة اعتيادية فى أراضى الهند لمدة لا تقل عن 5 سنوات سبقت مباشرة بدء سريان هذا الدستور».
أما المادة 6 فتلغى تقريباً شروط المواطنة الواردة فى المادة 5، وتنص على أنه «على الرغم من أى شىء يرد فى المادة 5 يعتبر مواطناً من مواطنى الهند أى شخص يكون قد هاجر إلى أراضى الهند من الأراضى التى تشملها باكستان إلا إذا كان هو أو أحد والديه أو جديه قد ولد فى الهند، أو إذا كان الشخص قد هاجر قبل 19 يوليو 1948، وكان مقيماً فى الهند منذ هجرته، أو فى حالة إذا ما كان الشخص قد هاجر فى أو بعد 19 يوليو 1948، وكان مسجلاً من قبل موظف معين من قبل حكومة الهند بناء على طلبه للموظف».
وتنص المادة 7 أنه: «على الرغم من أى شىء يرد فى المادتين 5 و6 لا يعتبر مواطناً من مواطنى الهند أى شخص يكون قد هاجر بعد اليوم الأول من مارس 1947، من أراضى الهند إلى الأراضى التى تشملها باكستان الآن»، والملاحظ أن باكستان بالنسبة للدستور الهندى غير معترف بها نصاً كدولة، فهى فقط «الأراضى التى تشملها باكستان الآن».
أما المادة 8 فتفتح أبواباً أخرى للمواطنة فى دولة حدودها مطاطة، فتقول: «على الرغم من أى شىء يرد فى المادة 5 يعتبر مواطناً من مواطنى الهند أى شخص يكون هو أو أى من والديه أو أى من جديه قد ولد فى الهند، ويقيم إقامة اعتيادية فى أى بلد خارج الهند».
مقابل التوسع فى تعريف المواطن الهندى، تنص المادة 9 من الباب الأول من دستور البلاد على أنه «لا يكون أى شخص مواطناً من مواطنى الهند بحكم المادة 5 (أى مع توافر جميع الشروط)، ولا يعتبر مواطناً بحكم المادتين 6 و8 إذا كان قد اكتسب طوعاً جنسية أى دولة أجنبية».
فى دولة ذات تعداد سكانى هائل، يمنع الدستور الهندى التمييز ضد المواطنين ويعتبره «جريمة بشعة»، بالمقابل تعتمد التجربة القانونية للهند على تشديد العقوبات ضد أى تمييز بين المواطنين الهنود سواء بسبب الجنس أو اللون أو العقيدة أو المذهب أو الانتماء القبلى.. تعيش الهند فى ظل أحد أكثر دساتير العالم تفصيلاً، ورغم تعقيده نجح فى لملمة الثوب الهندى متعدد الألوان، وخرج به إلى العالم ليضرب مثالاً لما يمكن – إن خلصت النوايا - للمجتمعات أن تفعله لتصبح بحق «إيد واحدة».