يبدو أن كوكب الأرض يمر بمرحلة صفراء فى دفتر تاريخه الممتد. ويبدو أن من يعيشون على وجهه فى تلك الأيام قدر لهم أن يعايشوا تلك الأحداث الخارقة التى عايشها سكان الأرض وقت حدوث طوفان نوح عليه السلام. مئات الوظائف كانت تسير وتتدافع فوق سطح الكوكب قبيل ديسمبر 2019م بقليل.. ولم تلبث الأرض لتقلب رأسا على عقب قبل مضى مائة يوم فقط منذ اكتشاف فيروس كورونا 2019 (كوفيد-19) فى مدينة ووهان بوسط جمهورية الصين الأكثر ازدحاما فى المجرة. ومن بعد التاريخ الفارق 11 مارس 2020 الذى أعلنت فيه منظمة الصحة العالمية تصنيفه على أنه جائحة (وهى الدرجة الأعلى والأخطر من الوباء) ذهل الناس عندما اكتشفوا أن وظائفهم التى عاشوا من أجلها؛ وخاضوا كل الحروب فى سبيل تأمينها.. ربما تكون عديمة الجدوى.. يا إلهى! ولم ربما؟!، هى بالفعل عديمة الجدوى.. تدريجيا جلس سكان العالم فى البيوت دون مراعاة فروق التوقيت؛ حابسين أنفسهم وأنفاسهم أيضا. فقط أربع وظائف ظلت تصطلى فوق لهيب الأسفلت؛ بينما هرع الجميع إلى ظل البيوت الباردة.. عم محمد البواب فى مأواه أسفل السلم فى بيتنا، ودونالد ترامب بالولايات المتحدة فى البيت الأبيض. وبقى هؤلاء الأربعة ليحرسوا الأرض بعد فرار سكانها.. الطبيب وطاقمه بمعطفه الأبيض وروحه خلف كمامته، الجندى فى الشوارع والحدود والأمر معتاد لديه، الإعلامى عين الناس المبصرة أو العمياء.. وعم عبده الفرّان. وبدا واضحا أن العالم الذى عاش ربما المائة عام الأخيرة لاهثا خلف (العقار) باعتباره رمزا لقوة الاقتصاد والرفاهية؛ فكانت ناطحات سماء نيويورك وناطحات بحار دبى.. بدا أنه فى محنة عصيبة منذ 11 مارس 2020 من أجل الحصول بأى ثمن على (العقار) الذى يحمل نجاة البشرية. المعطف الأبيض مصنع الخيال
يبدو الطبيب الذى تأكد الناس جميعا من أنه راهب هذا الكوكب ومنقذه قد عاش مولعا بالفكرة والتأمل؛ وتظهر لمسة الفلسفة منذ الوهلة الأولى. فلا يمكننا اعتبار (أبقراط) الملقب بأبى الطب مجرد طبيب، بل كان يمارس الطب من دكان الفلسفة؛ ومنذ وجوده فى اليونان القديمة وضع (قسم الطبيب) الذى يعتقده كل أطباء الأرض إلى اليوم.. ومن عبارات أبقراط الطبيب المفكر (من يخش أن يتألم يتألم مما يخشى).
■ روائيون يحملون جهاز الضغط
يضم سجل الرواية المصرية عددا كبيرا من أصحاب المعاطف البيضاء؛ وقد استطاع بعضهم أن يوازن بين الطب والرواية؛ فى حين تخلص الآخرون من سجن الطب إلى حديقة الرواية. وإذا كان تشيكوف الطبيب والقاص الروسى الأشهر قد خدم وطنه فى مواجهة وباء الكوليرا متفانيا فى عمله؛ إلا أنه القائل: الطب زوجتى والأدب عشيقتى. وبملاحظة نماذج الروائيين الأطباء فى أدبنا الحديث على أساس تقسيم تشيكوف لعلاقة المبدع بالنشاطين: الطب والأدب؛ فإن الرواية المصرية قد جذبت كثيرا من الأطباء خاطفة إياهم من الطب تماما؛ وبقى بعضهم متشبثا بالطب ينجز فيه بقدر ما ينجز للرواية. الطب والأدب زوجتان لرجل واحد، أربعة نماذج من أطباء الرواية حافظوا على النبوغ فى الطب والإبداع فى الرواية؛ وانتمى كل منهم إلى عصر مختلف.. محمد كامل حسين (1901- 1977م ) ونجيب الكيلانى (1931 - 1995 م) وأحمد خالد توفيق (1962- 2018م) وأحمد سمير سعد (1983).
■ الطبيب الذى كسا عظام الرواية
الدكتور محمد كامل حسين له عدة أوليات مدهشة فهو أول مدير لجامعة إبراهيم (جامعة عين شمس حاليًا) عند إنشائها عام 1950، وأول رئيس لجمعية جراحة العظام المصرية عند إنشائها سنة 1948م. وهو أول مصرى يجمع بين جائزتى الدولة فى الأدب والعلوم: جائزة الدولة التقديرية فى الأدب عام 1957 وجائزة الدولة التقديرية فى العلوم الطبية عام 1966. ولقد نال جائزة الدولة عام 1957عن روايته البارزة (قرية ظالمة). وقد عرف الدكتور محمد كامل حسين بمناظراته مع العقاد نفسه لدرجة أن العقاد بجلال قدره قد عبر عن سعادته بالانتصار على أول رئيس لجامعة عين شمس بقوله لعامر العقاد ود. سعد مصلوح: (أرأيتما كيف سحقت عظام طبيب العظام اليوم؟!)، وذلك فى خلافهما الشهير حول أفكار صموئيل ألكسندر.
■ رائد الواقعية الإسلامية
الطبيب الروائى نجيب الكيلانى الصوت الروائى المميز والمعروف بريادته لتيار الواقعية الإسلامية فى الرواية. ونجيب الكيلانى (1931- 1995) ولد فى قرية شرشابة التابعة لمركز زفتى بمحافظة الغربية. التحق بكلية الطب بالقاهرة عام 1951م، وبعد تخرجه عمل بوظيفة «طبيب امتياز» فى «مستشفى أم المصريين» بالجيزة عام 1961م ثم طبيباً ممارساً بقريته ثم انتقل ليعمل فى وزارة النقل والمواصلات، ثم سافر إلى دولة الكويت ليعمل طبيباً 1968م، ومنها انتقل إلى دولة الإمارات العربية حتى عام 1984م. تدفقت روايات نجيب الكيلانى بالتوازى مع ممارسة مهنة الطب فى مصر ومن بعدها فى الكويت والإمارات على التوالى. أنتج الطبيب الروائى ما يزيد على 47 مصنفا أدبيا خلال أقل من أربعين عاما. فقد قدم الكيلانى أكثر من 22 رواية بدأها برواية الطريق الطويل 1965، ومنها رواية ليل العبيد التى ظهرت فى السينما وحصدت جائزة مهرجان طشقند بعنوان (ليل وقضبان). كما قدم اثنى عشر كتابا وستة دواوين شعرية وسبع مجموعات قصصية. وقد عرف الكيلانى بتجديده الذى تمثل فى توسيع رقعة الرواية المصرية بشكل كبير؛ فقد كتب روايات لأمم غير أمته العربية أو مجتمعه المصرى. ومن هذه الروايات عابرة الأوطان «عمالقة الشمال» عن الثوار فى نيجيريا وفى إثيوبيا فى «الظل الأسود»، ودمشق فى روايتين «دم لفطير صهيون»، و«على أسوار دمشق»، وفى فلسطين «عمر يظهر فى القدس»، وإندونيسيا «فى عذراء جاكرتا»، وتركستان فى «ليالى تركستان» وكذلك (حبيبتى سراييفو) عن مأساة التطهير العرقى فى البوسنة والهرسك التى وقعت 1995م. وقد وصفه نجيب محفوظ بريادته للواقعية الإسلامية.
■ كاتب الجيل الذى صنع ثورة القراءة
أما العراب أحمد خالد توفيق الذى لم يعش أكثر من 55 عاما فقد استمر فى عمله بكلية الطب جامعة طنطا أستاذا لطب المناطق الحارة؛ وحرص على الاستغناء عن السفر إلى القاهرة؛ ولم يضبط متلبسا بالتودد إلى وسائل الشهرة والإعلام... حتى سعت إليه جميعا. نقل العراب أدب الناشئة نقلة عظيمة؛ وأضاف إلى جهود نبيل فاروق حتى انتسبت المدرسة إليه رغم سبق نبيل فاروق إياه (هو طبيب أيضا)؛ وعبر سلاسل: ما وراء الطبيعة وسفارى وفانتازيا استطاع أستاذ الطب أن يصنع دولة القراءة الشبابية فى مصر، وأن يصبح محررا للشباب من فتنة كرة القدم وغول الفراغ؛ ليلتف الشباب حول قلمه. واستطاع بعد ذلك بسهولة أن يخاطب جيشه من المريدين عبر الرواية ليقدم روايته النبوءة (يوتوبيا) فى عام 2008م، ثم تليها روايات: السنجة عام 2012، ورواية مثل إيكاروس عام 2015 ثم رواية فى ممر الفئران الصادرة عام 2016. وأخيرا صدرت شآبيب عام 2018 عن دار الشروق وتنتمى لأدب المغامرات. وتوفى الطبيب الروائى الاستثنائى فى 2 من إبريل عام 2018 ليودعه جيش من الشباب لم يروه قط؛ وإن دانوا له بالفضل فى منحهم تاشيرة دخول مملكة القراءة.
■ آخر عنقود الجيش الأبيض الروائى
أما آخر عنقود أصحاب الزوجتين فهو أحمد سمير سعد مدرس التخدير والعناية الفائقة (أهم تخصص فى مواجهة جائحة الكورونا) بالقصر العينى. وهو لم يكمل بعد عامه الخامس والثلاثين. وقد بدأ الروائى البروفسير نشاطه الروائى برواية «سِفر الأراجوز» 2009، «شواش» 2016، «المزين» 2017، وثلاث مجموعات قصصية «الضئيل صاحب غية الحمام» 2014، «طرح الخيال» 2016، «الله.. الوطن.. الهو» 2018، ومجموعة قصصية للأطفال «ممالك ملونة» المجموعة القصصية الفائزة بالمركز الثالث فى مجال أدب الطفل فى جائزة الشارقة للإبداع العربى (الإصدار الأول)- الدورة 21، وأربعة كتب «تسبيحة دستورية» 2014، و«لعب مع الكون» 2016، «الإكسير» 2018، «جائزة نوبل.. تاريخ من المجد والجدل» 2018، وترجمة كتابى «ما الحياة؟ الجانب الفيزيائى للخلية الحية» 2018، و«العقل والمادة» 2020 للفيزيائى النمساوى إرفين شرودنجر، «طبيعة العالَم الفيزيائى» 2019، و«فلسفة العلم الفيزيائى» 2019 للسير آرثر أدنجتون. وأحمد سمير سعد طاقة إبداعية لافتة ونادرة يدلك على ذلك غزارة الإنتاج بالقياس إلى عمره الأدبى الذى بدأه بجدية فى عام 2009م؛ فقدم خلال أقل من أحد عشر عاما ثلاثة عشر مصنفا متنوعة بين القصة والرواية والمسرحية والكتاب والترجمة العلمية.
بقى أن نقول إن طائفة أخرى من الأطباء الروائيين قد رفضوا أن يجتمع لديهم حقيقة الطب وخيال الرواية؛ فغادروا دولة الطب واستوطنوا وطن الرواية.. أبرزهم يوسف إدريس ومصطفى محمود ونوال السعداوى ومحمد المنسى قنديل.. ولهذه الفئة الأكثر جرأة والأعلى إيمانا بمقولة تشيكوف السالفة مقالة جديدة فى بناء الجسر الساحر بين الطب والرواية الذى بناه مبدعون من الجيش الأبيض.