فى طريق سيره اليومى الذى يمر بالصخرة الشهيرة باسم «صخرة ديان»، يتذكر سعيد عتيق، ابن مدينة الشيخ زويد القريبة من الحدود المصرية - الإسرائيلية، رفات المئات من جنود الجيش المصرى المنثورة على مساحة واسعة من أراضى شبه جزيرة سيناء دون اهتمام بمجرد دفنها، بدلاً من تركها لضوارى الصحراء، فى الوقت الذى تقيم فيه إسرائيل الدنيا ولا تقعدها، لمجرد تفكير مجموعة من النشطاء فى صبغ نصب تذكارى يضم رفات ثلاثة من جنودها بألوان علم مصر.
يقول سعد عتيق، المهتم بقضية شهداء 67: «أرى هذا النصب التذكارى كل يوم، والمطلوب منى أعترف بأصحاب الرفات التى يضمها كضحايا حرب، فى الوقت الذى لا تجد فيه رفات آلاف الجنود المصريين من يجمعها فى حفرة، إكراماً لتضحيات أصحابها. من هنا ولدت الفكرة، فكيف تسمح السلطات المصرية بإقامة نصب تذكارى لرفات ثلاثة جنود لمجرد أن طائرة إسرائيلية سقطت بهم قرب هذه المنطقة، دون أن تقدم أى شىء لجنود وأسرى 1967 الذين قتلوا فى مجازر جماعية بسيناء».
«عتيق» يجوب أرجاء سيناء بحثاً عن رفات شهداء الجيش المصرى، فيسأل الشيوخ الذين عاصروا الحرب وقاموا بدفن الشهداء، فيجد من يخبره بأنه دفن اثنين تحت هذه «التينة»، شجرة التين، ومن دفن آخرين تحت هذه «الزيتونة»، وهكذا.
ويرجع «عتيق» سبب تفرق هذه المقابر فى أماكن عديدة ومتباعدة إلى أن القيادة السياسية فى 67 وضعت الجندى المصرى فى الصحراء وأخبرته بأن العدو سيأتى من هذا الاتجاه دون أن يعلم شيئا عن جغرافيا المكان.
وأضاف «عتيق»: «فى إحدى مناطق الألغام بالشيخ زويد تم اكتشاف بقايا جثامين خاصة بجنود الجيش عقب انفجار بعض الألغام التى خلفها جيش الاحتلال الإسرائيلى، مما يوحى بأن هناك مجازر متعمدة قام بها جيش الاحتلال، وعمل على إخفائها بزرع الألغام فوق موقع دفنها».
أما «سويلم سليمان» خفير خط الغاز المتجه من مصر إلى الأردن والمار بقرية أم قطف، فقد اعتاد أن يلملم بقايا عظام ورفات الشهداء كلما انكشفت، يؤكد سليمان ذلك وهو يشير إلى قطعة عظم بين يديه قائلا: «دى مش كتف؟.. ودى مش إيد؟.. كانوا مدفونين لكن السيل جرف التربة اللى كانوا مدفونين فيها وكشفهم».
ويشير إلى إحدى المناطق القريبة قائلا: «هذا قبر يضم جثامين 4 شهداء»، ويشير إلى منطقة مرتفعة مؤكدا أنها تضم عظام 40 شهيداً انكشفت بعد السيل، ثم التقط قطعة كانت ملقاه بالقرب منه، ويبدو أنه فاته دفنها وهو يتمتم بأسى «يااسم الله على أولاد الناس»، وأكد أنه دائما ما يلملم عظامهم كلما وجدها، قبل أن يقوم بقراءة الفاتحة على أرواحهم ويدعوا لهم بالرحمة.
عمل «سويلم» فى 1983 مع الأمم المتحدة فى تطهير الألغام لذا فهو على دراية كبيرة بأعمال تطهير الألغام، ولذلك كان يجمع الألغام بعد أن رأها تنفجر فى الناس والحيوانات، «سويلم» ليس غريباً عن المنطقة، ويعلم تاريخها جيدا، فقد كان أبوه خفيرا بالمنطقة الحدودية أثناء حرب 67.
وكان «سويلم» فى الرابعة عشرة من عمره حين تم احتلال سيناء، حيث شاهد والده وأفراداً من القبيلة يدفنون شهداء 67 بعد أن قتلهم جنود الجيش الإسرائيلى بدم بارد، والآن يقوم سويلم بنفس الدور مع عظام الأسرى التى يكرمها بالدفن قدر استطاعته.
فى مدينة «نخل» تنتشر الرفات، حيث كانت «قلعة نخل» بها كتيبة كاملة من كتائب الجيش المصرى وتم تصفيتها بالطيران الإسرائيلى. ع
ن هذه الكتيبة يتحدث حسن عبدالله النخلاوى، أحد أبناء المدينة مؤكداً أن «قلعة نخل» تضم رفات العشرات من جنود الجيش الذين قتلوا إبان نكسة 1976، قبل أن يكشف السيل عظامهم بعد، وأكد «النخلاوى» أن أحد مسؤولى مجلس المدينة أخبره بأنهم سيرسلون سيارة لجمع رفات الجنود، لكنه رفض ذلك لأن عظام الشهداء ليست قمامة لكى يتم جمعها بهذه الطريقة التى تمحو آثار الجريمة التى ارتكبت بحقهم.
وفى اتصال هاتفى أكد عبدالناصر نصرالله، رئيس مجلس مدينة نخل، أن دفن رفات شهداء الحرب ليس اختصاص مجلس المدينة، وقال: «ممكن يكون اختصاص الآثار، لكن هو أكيد مش اختصاص المحليات، ولا يمكننا أن نفرق بين عظام الشهداء وغيرهم، ولذلك لا يمكننا التعامل مع هذه القضية، التى تتطلب سلطة أكبر بكثير من سلطاتنا».
أما سعيد عتيق، الناشط السيناوى المهتم بالقضية، فيؤكد أن القضية أكبر كثيراً من مجرد دفن عظام ورفات الشهداء، حيث يراها عتيق قضية وطن يهدر دماء شهدائه، ويضيف: «كيف يطلب منى أن أدافع عن هذه الأرض وأنا أرى رفات جنود 67 مبعثرة بهذا الإهمال؟!». واقترح عتيق جمع رفات شهداء الجيش المصرى بسيناء فى مقبرة جماعية واحدة، وإقامة نصب تذكارى يخلد بطولاتهم وتضحياتهم فى سبيل الوطن.