تعلقت روحى بالبابا شنودة منذ الصغر من خلال كتاب «انطلاق الروح»، وحفظت أشعاره عن ظهر قلب، وكنا نناقشها فى اجتماعاتنا فى قريتى، وكنت أتمنى أن أرى البابا عن قرب وأقبل يديه، ولم أكن أحلم أن الله سيعطينى نعمة التلمذة عن قرب للبابا وأخد بركة خدمته وعلمه الغزير.. بهذه الكلمات بدأ الأنبا يؤانس، سكرتير البابا شنودة الثالث، بابا الإسكندرية بطريرك الكرازة المرقسية الراحل، الذى فتح مخزن ذكرياته مع «أسد الكرازة المرقسية»، قضى بجواره أكثر من 18 عاماً كأسقف عام وسكرتير شخصى له. ورغم صمت الأنبا يؤانس، حتى وصفه كثيرون بـ«الأسقف الصامت» و«كاتم أسرار المجمع المقدس»، والذى خرج عن صمته ليبوح ببعض الأسرار لـ«المصرى اليوم»، فكان هذا الحوار:
■ كيف كان البابا شنودة فى أيامه الأخيرة؟
- كان رقيقاً فى معاملته وممتناً جداً لمن يقوم بخدمته، وفى تمام الساعة الثالثة فجراً فى يوم نياحته «وفاته»، أمسك بيدى وسألنى: «مين اللى حواليا دول»، فأجبته: ابنك «يوأنس» وأبونا بولس، والأنبا بيشوى، ولكنه نظر لى نظرة ذات معنى بأنه يقصد آخرين غيرنا، ففهمت أنهم القديسون، وأيقنت أنه يوم الانتقال إلى السماوات، وتعزيت بذلك جداً.
■ وكيف كانت اللحظات الأخيرة؟
- كانت تمر بسلام، بعد ساعات من آلام ومعاناة، والبابا فى الأيام الأخيرة عانى كثيراً من آلام المرض ورغم ذلك تحملها بكل شجاعة، بل لآخر لحظة كان يصر على اللقاء مع شعبه فى عظة الأربعاء.
■ ما آخر اللقاءات الرسمية للبابا شنودة؟
- البابا لم يستقبل أحدا منذ وصولنا من رحلته العلاجية الأخيرة من الولايات المتحدة سوى الدكتور محمد بديع، المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين، يوم الأربعاء 7 مارس، وتلقى العديد من الاتصالات التليفونية ومنها مكالمة الدكتور رفعت السعيد، رئيس حزب التجمع، وكان لقاء المرشد طيبا للغاية، وقال وقتها للبابا: «مصر بلدنا كلنا والمحبة بين المسلمين والأقباط لن تنتهى».
■ ماذا كان رأى البابا فى القضايا السياسية على الساحة، ومنها قضية «تأسيسية» الدستور؟
- البابا شنودة كان يدعو دائماً لمصر بالخير، وكان يطلب من السياسيين بعد الثورة الاهتمام بالفقراء أولاً.
■ ما تعليقك على الأصوات التى نادت بتعديل لائحة 1957 والخاصة بانتخاب البطريرك؟
- المجمع المقدس تمسك بلائحة 1957، والتى طالب البابا شنودة بعدم تعديلها، كما أنها جاءت بأعظم اثنين من البطاركة وهما البابا كيرلس السادس، والبابا شنودة الثالث، كما أن عملية اختيار البطريرك هى اختيار إلهى.
■ كيف تدار الكنيسة لحين انتخاب البطريرك الجديد؟
- الكنيسة فى يد أمينة فى ظل تولى الأنبا باخوميوس منصب القائم قام لأنه إنسان عاقل ومتزن وروحانى ويغلب مصلحة الكنيسة، دائماً. فالبابا كان ينظر بطريقة شمولية كاملة للموضوع من جميع الجهات، وعن دقة التوقيت كان يقول: «صبرت حتى ملنى الصبر».
■ ماذا تعلمت من الراحل وكيف كانت صفاته؟
- البابا كان يتمتع بذكاء حاد جداً وذهنه متقد بالنشاط، وكان يستوعب الأمور بسرعة عجيبة ويحللها بدقة متناهية وله مبدأ معروف «ليس أفضل الحلول أسرعها، إنمأ أكثرها إتقاناً» وعلاقته القوية بالله لا تهتز بالمشاكل إطلاقاً.
■ وماهى وصاياه للأساقفة أعضاء المجمع المقدس؟
- عندما نتعرض لمشكلة كنا نسرع بعرضها على البابا، ونجده يستمع بهدوء كامل وكان يقول: «عودت نفسى فى تعاملى مع المشاكل أن أتركها خارجاً ولا أدخلها إلى أعماقى، ولا أسمح لها بأن تمارس ضغوطاً على نفسيتى.. ولا أفكر مطلقاً فى تعب أو ألم المشكلة، إنما أضعها أمام الله».
والبابا كان فى منتهى البساطة مع الجميع وكان فى نفس الوقت حكيماً، ومن أقواله المأثورة «البساطة هى عدم التعقيد وليست عدم التفكير»، أما حينما نعرض عليه أمرا من أمور الكنيسة تكون إجابته مصحوبة بقصة أو آية من الكتاب المقدس، وكان لا يجامل إطلاقاً فى العقيدة أو الحق وعندما يكتشف أى انحراف عقائدى، يتصدى له على الفور مهما كان الشخص، ومهما كانت صلته بالبابا، ومبدؤه المعروف: «أنا لا أحارب شخصاً بل فكراً»، ولذلك أطلقنا عليه «أثناسيوس القرن العشرين».
■ هل تدخلت السياسة فى الكنيسة وأثرت على الخدمة؟
- لا، فالبابا لم يكن يجامل فى الحق، وكان هناك أحد الأراخنة المشهورين وله ابن وحيد شرع فى زواج فتاة، بما لا يوافق قوانين الكنيسة، وتم حجز الكنيسة وطبع الدعاوى، لكن البابا لم يجامل وأخبر والد العريس أنه لا يوافق على عقد الإكليل، وفى أيام أزمة جريدة «النبأ» وجه سؤال للبابا أن رئيس التحرير يريد مقابلته للاعتذار وإنهاء القضية.. فأجاب البابا «ده مستحيل»، فضجت الكنيسة بالتصفيق لفترة، واستطرد فى القول: «إذا أخطأ إنسان فى حقى الشخصى، أسامحه من كل قلبى.. أما إذا أخطأ فى حق الكنيسة، فلا أملك أن أسامحه».
وأذكر أيضا فى بداية مشكلة الكشح، أن جاء أحد القادة السياسيين، بالدولة لمقابلة البابا، فقال له قداسته: «أنت تعرف جيداً مدى إخلاصى لمصر وسمعتها، ولكنى أيضاً مسؤول عن شعبى وحقوقه ولا أستطيع إطلاقاً أن أفرط فى حق من حقوق شعبى».
وعندما صدر الحكم الأول فى قضية الكشح بعدم إدانة الجناة، سئل قداسة البابا فى ندوة بمعرض الكتاب عن رأيه فى الحكم، فأجاب - وهو يطرق بيده على المنضدة: «نحن لا نقبل هذا الحكم، وسنستأنف»، وبعد صدور حكم محكمة النقض فى ذات القضية بعدم إدانة الجناة أيضاً، نشر البابا بيانا فى مجلة «الكرازة» بعنوان: «نستأنف الحكم إلى الله وحده».
■ يقال إن البابا كان أكثر باباوات الإسكندرية اهتماماً ببناء الكنائس، داخل وخارج مصر.. ما مدى صحة ذلك؟
- بالفعل، فالبابا قام بتثبيت الإبراشيات لتركيز الرعاية، وقام بتأسيس كنائس فى كل بقاع الأرض، ومنها فى البرازيل وبوليفيا والمكسيك، وكان يقول فى بداية كل مشروع كنسى: «أصلى وأثق أن الله هو من يمول المشروع»، وكان يصر على اختيار الشعب لرعيته من الأساقفة والقساوسة وأحيانا قى اختيار لجنة الكنيسة، وكان يقول: «إن الكاهن من أجل الشعب وليس الشعب من أجل الكاهن، والراعى قد جعل لأجل الخراف وليست الخراف من أجل الراعى».
■ كيف كان يتعامل مع الشباب؟
- اهتم البابا بالشباب، وكان يقول إن كنيسة بلا شباب، هى كنيسة بلا مستقبل، وهو أول من أسس أسقفية الشباب، وكان يهتم بالأطفال ويحبهم للغاية ويعاملهم ببساطة متناهية.
■ وكيف كانت وصاياه للتعامل مع الفقراء «إخوة الرب»؟
- البابا كان محباً للفقراء وكان يلتقى كل أسبوع بإخوة الرب فى القاهرة وكل أسبوعين بالإسكندرية، وقد طلب من الأساقفة الاهتمام بهم، وفى الاجتماع الأول للجنة البر وضع لنا المبدأ الإنجيلى: «لا تمنع الخير عن أهله حين يكون فى طاقة يدك أن تفعله»، وكان يطلق على حقيبة الفلوس «شنطة الخمس خبزات والسمكتين»، وكان يطالب بأن نكون أسخياء فى العطاء، ويردد لإيليا أبوماضى «إنها بالإنفاق تبقى، وبالإمساك تفنى».. وكان يردد أيضا قول الشاعر « يجود علينا الخيرون بمالهم.. ونحن بمال الخيرين نجود».
كان البابا يلتزم فى كلمته، حتى لو قام بوعد للأطفال، وكان شديد الاحترام لكل الناس، حتى إنه كان يدعو أحد أبنائه المستشارين مثلاً بقوله «أهلا يا فلان بيه»، فالبابا بطبيعته يحترم كل الناس، حتى فى طريقة سلام قداسته على أولاده، لا يباركهم بتعال أو بعدم اهتمام بل بحب واحترام.
■ حدثنا عن روح البابا المرحة؟
- طيلة الـ12 سنة الماضية، أكاد لا أذكر يوماً واحداً لم أر البابا فرحاً بشوشاً، وكانت روح المرح لا تفارقه فى أشد المواقف حتى فى مرضه، وكان متواضعاً ويقول: «الإنسان القوى فى فكره الواثق من قوة منطقه ودفاعه يتكلم ويتصرف فى هدوء بدافع من الثقة، أما الضعيف فإذا فقد المنطق والرأى تثور أعصابه ويعلو صوته».
■ هل كانت تؤثر المواقف الشخصية على قراراته؟
- البابا لم يكن يخلط الأوراق، فأحد الآباء الكهنة أخذ عقوبة لبعض الأخطاء الرعوية، وطلب مساعدة قداسة البابا فى علاج زوجته، فلبى قداسته طلبه فورا، واستطرد بقوله: «إنى لا أخلط الأوراق.. أخطاؤه الرعويه شىء وعلاج زوجته شىء آخر»، والقس عبد السيد رغم تعدياته وتجاوزاته على الكنيسة، كان يأخذ راتبه إلى يوم وفاته.
■ من المعروف عن البابا أنه «شاعر» و«صحفى» و«أديب»، كيف كان يجد الوقت لذلك؟
- البابا شنودة ذهبى الفم، كان يهتم بدقة النحو فى كلماته وكان يلقى كلمة فى أحد المحافل العامة، فقال أحد شيوخ المسلمين لزميله فى نهاية الكلمة: ألا تلاحظ أنه لم يخطئ فى تشكيل كلمة واحدة؟!
■ كيف كانت علاقته مع الطوائف والأديان الأخرى؟
- البابا كان محباً لكل الطوائف والديانات الأخرى، وكثيراً ما كان يواجه أسئلة محرجة فى ندوات عامة أو أحاديث تليفزيونية، ونجد قداسته فى هدوء يجيب إجابات حاضرة دقيقة سديدة، فى إحدى ندوات معرض الكتاب سئل من سيدخل الجنة المسيحى أم المسلم أم اليهودى؟.. فأجاب: «ليس عندنا جنة، لأن جنة بمعنى جنينة، ومن يدخل فهو الإنسان صاحب الإيمان السليم والأعمال الصالحة، وكفاية كده».