كل ما تبقى لهم فى الحياة، ورقة صفراء مهترئة، وجواز سفر قديم، هما الأمل فى جنى ثمار تعب السنين و«شقا الغربة»، حملوهما «بين الجلد واللحم» لأكثر من عشرين عاماً، وجاء الأمل بعد طول السنين، الأموال وصلت من العراق، فقفزوا فى قطارات تنهب الأرض من كل فج فى مصر إلى القاهرة، تسبقهم أحلام وآمال عريضة ولسان حالهم يقول «المال الحلال ما بيضعش».
ولكن كأن الشقاء لهم قرين يأبى إلا أن يطاردهم حتى فى لحظات الأمل، فكانت طوابير المعاناة فى انتظارهم، فافترشوا الرصيف وسط الزحام ليالى يحدوهم الأمل فى صرف حوالاتهم الصفراء التى حصلوا عليها قبل أن يهرعوا عائدين من العراق بذيول الخيبة مخلفين وراءهم شقاء السنين.
«المصرى اليوم» رصدت فى السطور التالية معاناة عدد من أصحاب الحوالات الصفراء فى حكايات تلخص معاناة أكثر من 600 ألف مواطن يحملون أوراقاً مهترئة تسمى «الحوالات الصفراء».
■ أولى تلك الحكايات حكاية عم صبرى محمد سيد -57 عاما- الذى تملكته فرحة غامرة أكدت يقينا بداخله بأن «شقا الغربة» لم يضع بعد أن أودع آماله العريضة، ورقة صفراء مهترئة وجواز سفر قديما حفظهما طيلة عشرين عاماً بين ثنايا جسده المتعب هما ضمانته الوحيدة، مقابل شقاء أحد عشر عاماً، عاشها عم صبرى عبدالمحسن فى العراق، وهو على مشارف عقده السادس، أقام فيها مصنع خياطة ومغسلة بالقرب من نهر الفرات، فى مطلع الثمانينيات ولكن جاءت حرب الخليج لتعصف بأحلام الثراء وتقايض شقا الغربة بورقة صفراء وبصيص أمل، يراوده حينا ويتلاشى حينا آخر.
يحكى عم صبرى قصته: «كنت أتابع الأحداث فى العراق، فكلما استقرت الأوضاع هناك يزداد الأمل بداخلى، وكلما تدهورت كان يموت الأمل فى استعادة أموالى وتحصيل قيمة الحوالات الثلاث التى منحونى إياها قبل أن أغادر، وعدت من العراق يوم 28 أكتوبر 1990 ومرت عشر سنوات كاملة ولم أحصل على مليم واحد من قيمة الحوالات، واغتربت ثانية فى السعودية وبعد 5 سنوات عدت، والآن أقف منذ فجر السبت أمام البنك العربى الأفريقى أنتظر دوراً فى طابور بطول شارع عبدالخالق ثروت يبدو أنه لا يجىء.
■ أما مصطفى عبدالوهاب 47 عاماً فحكايته تجمع قاسماً مشتركاً جمع بين الواقفين فى الطابور الممتد، هو أن الجميع يحفظ عن ظهر قلب تاريخ عودته باليوم والشهر والعام من العراق.. فقد افترش الرصيف المجاور للبنك بعد أن يبست قدماه من الوقوف أمام البنك الأهلى فرع محمد فريد طيلة الصباح دون جدوى، عاد من العراق يوم 18 أكتوبر 1989، وعندما علم بوصول أموال الحوالات الصفراء استقل القطار من محافظة بنى سويف، مركز البساتين قرية الكوم الأحمر، يوم الاثنين الماضى، ليصل القاهرة بعد أن جاب بنى سويف بحثاً عن اسمه فى الكشوف التى وزعت على فروع البنوك بالمحافظة، ولم يجد مكانا يبيت فيه ليلته سوى رصيف البنك، ليبدأ يومه التالى متصدرا الطابور الجديد، بعد أن قضى كثيرون من رفاقه الليل إلى جواره يستعيدون ذكريات الغربة ويتبادلون الحنين إلى العراق القديم، عراق ما قبل الحرب، لينتهى الثلاثاء كما انتهى سابقه ولم يجد اسمه فى الكشوف لينتظر من جديد للغد ليبدأ رحلة شقاء جديدة فى طوابير العذاب.
■ عندما قرأ الحاج صابر عبدالعظيم محمود 52 عاماً أخبار بدء صرف الحوالات جاء من دير مواس من قرية اسمو العروس، محافظة المنيا، و كان أكثر حظا فرغم أنه هو أيضا لم يأت دوره الذى ينتظره منذ فجر الجمعة والسبت إلا أنه جاء برفقة زوج ابنته التى تقيم بالقاهرة ليبيت عنده، قضى بداية الأسبوع فى البحث عن اسمه فى فروع بنوك المنيا، ليرسلوه إلى القاهرة منتصف الأسبوع، مؤكدين سحب حوالته من فرع البنك العربى الأفريقى فرع عبدالخالق ثروت. يحكى الحاج صابر عن سنوات الغربة التى قضى فيها جوازين - بحسب تعبيره - «كنت أعمل بالبناء فى العراق وجمعت (قرشين) محترمين، وكنت أتمنى شراء الأرض لأبنى عليها داراً لكن كل شىء ضاع، لكن نحمده»، مسترسلا بعفوية البسطاء: «الحرب وحشه قوى يا ولاد».
■ ابتسامة عم عابد سليمان السيد سليمان تحيل وجهه إلى لوحة من البهجة تكاد تفضح فرحة لا تسعه، يكتمها خوفا من احتمال ألا يجد اسمه فلا يسترد ثمانية آلاف من الدولارات فى الحوالة الصفراء التى بحوزته. عم عابد يذكر تاريخ سفره إلى العراق 25 يوليو 1987 وتاريخ عودته 12ديسمبر 1989، عاش خلالها فى وطن شقيق لم يجد فيه غربة، وبعبارات غارقة فى الحنين يحكى: «كانت أيام حلوة وناس طيبين حبونا وشغلونا وبسطونا»، هبط إلى القاهرة صباح الأحد الماضى قادماً من نزلة العرين مركز «أبوحميد» الشرقية بعد أن خاب سعيه فى البحث عن اسمه هناك.
■ قد يرث المرء أرضاً، أو عقاراً، أو حتى صفات أو سيرة طيبة، ولكن هولاء ورثوا عن أبيهم ورقة صفراء، عندما رحل الحاج صلاح عن هذا العالم منذ 6 أعوام ترك خلفه أربعة من الأبناء، وورقة صفراء يسكن بين سطورها رقم على يمينه 3 أصفار فقط، عرف محمد وجمال صلاح قيمتها رغم فقدانهما الأمل فى إمكانية سحب الحوالة التى انتظرها والدهما طويلا ثم مات دون ذلك، جاءا معا من قرية الشهداء، بالمنوفية ليجوبا وسط البلد بحثاً عن اسم والدهما الراحل بين كشوف السحب، وينتهى بهما السبت تتقاذفهما أفرع البنوك المختلفة بوسط البلد من البنك الأهلى إلى بنك مصر إلى الإسكندرية، ثم يقودهما البحث على الإنترنت إلى البنك العربى الأفريقى ليجدا طابوراً يمتد بطول الرصيف ولكن المساء كان قد حل وعليهما أن يلحقا موعد القطار ليعودا فجر الاحد ولايزال الأمل يحدوهما.
■ أما الحكاية الأخيرة فيرويها عيد إبراهيم القادم من محافظة بنى سويف مركز سمسطا بصحبة والدته ليصرفا قيمة حوالة والده إبراهيم عيد الذى عمل بالعراق قبيل حرب الخليج منذ عام 1986 والذى لم يمهله القدر ليصرف أمواله التى أودعها الحوالة فبادرته المنية فى 1992 ليترك لزوجته وأبنائه حوالة صفراء هى كل تركته.
يحكى عيد قصة كفاح أمه ومعاناتها فى تربيته هو وأخوته: «عندما سافر والدى إلى العراق كان عمرى 5 سنوات ولى أخ أكبر منى وأختان أصغر منى ، وسافر والدى إلى العراق فى العام الذى ولدت به شقيقتى الصغرى، ليتوفى بعد 6 سنوات ويترك لوالدتى تركة ثقيلة، حيث كانت «تعزق بقادومه» فى قريتنا بمحافظة بنى سويف لتتقاضى نظير ذلك جنيهين كأجر يومى كان كل دخل أسرتنا، بالإضافة إلى معاش قيمته 40 جنيها.
يعلق عيد إبراهيم على قرار صرف الحوالات قائلاً: «لقد جاء بعد فوات الأوان وبعد طول انتظار لأكثر من 21عاما، كنا فى الماضى فى أشد حاجة إليها أما الآن فقد أصبح كل منا يكسب قوت يومه ولا أعتقد أنها تمسح عن أمى شقاء سنوات غربة أبى ومعاناة تربية أبناء صغار.