في 15 مايو 1948، أعلن من أصبح بعد ذلك أول رئيس وزراء لما ستُعرف منذ هذا التاريخ باسم دولة إسرائيل، قيام «دولة يهودية» على أرض فلسطين التاريخية، فيما عُرف إسرائيليًا باسم «يوم الاستقلال»، وعربيًا باسم «يوم النكبة».
عملت العصابات الصهيونية طوال السنوات التي سبقت هذا التاريخ، وحتى التي تلته، على تهجير الفلسطينيين من قراهم ومدنهم بإعمال القتل فيهم. إلا أن هناك من بقي على أرضه، ليتم تسميتهم بمسميات عدة مثل «عرب 48» و«فلسطينيو 48»، والذين دفعوا ثمن ذلك غاليًا، ابتداء من المعيشة تحت الحكم العسكري الذي فرضته عليهم إسرائيل وحتى القتل، مرورًا بمصادرة أراضيهم.
خلال هذه الفترة، سنت إسرائيل أكثر من 16 قانونًا تمكنها من الاستيلاء على أراضي الفلسطينيين بالداخل، مثل قانون «أملاك الغائبين»، و«سلطة التطوير»، و«صندوق أراضي إسرائيل». كانت الحركة الصهيونية ترغب في السيطرة على كل أرض فلسطين التاريخية، وطرد الفلسطينيين أصحاب الأرض الأصليين منها، وكانت منطقة الجليل التي كانت تصل نسبة السكان العرب فيها في ذلك الوقت 70%، من أهم المناطق التي تخطط الحكومة الإسرائيلية لتهويدها والاستيلاء على أراضيها.
أقرت الحكومة الإسرائيلية في النصف الأول من سبعينيات القرن الماضي ما عرف إسرائيليًا باسم «مخطط تطوير الجليل»، والذي كان يهدف لتغيير الطبيعة الديموغرافية للمنطقة، ومصادرة أراضيها لصالح المستوطنين الصهاينة.
لم يكن المخطط ليمر مرور الكرام، حيث سرعان ما تحركت القيادات الفلسطينية في الداخل، ودعت لمؤتمر ضد سياسة مصادرة الأراضي التي تتبعها إسرائيل، وهو المؤتمر الذي عقد في 18 أكتوبر 1976، وتم خلاله الإعلان عن تأسيس لجنة الدفاع عن الأراضي، ضمت العديد من الشخصيات من بينها القس شحادة شحادة، والمحامي محمد ميعاري، وعضوي الكنيست الفلسطينيين توفيق زياد وتوفيق طوبي.
لم يكن المؤتمر حدثًا عاديًا في التاريخ الفلسطيني بشكل عام، وتاريخ فلسطينيي 48 بشكل خاص. قد تكون هذه هي المرة الأولى التي يطالب فيها عرب الداخل، الحكومة الإسرائيلية باحترام حقوقهم «اليومية والقومية»، وتطبيق مبدأ المساواة، بالإضافة إلى دفاعهم عن الأرض كقضية وطن وليست كقضايا فردية، كما يقول محمد ميعاري، عضو لجنة الدفاع عن الأراضي، في اتصال مع «المصري اليوم» من حيفا المحتلة.
للأسباب التي ذكرها ميعاري، حاولت إسرائيل بشتى الطرق إفشال مؤتمر الدفاع عن الأراضي، الذي تقرر عقده في الناصرة، كان من بينها محاولة إقناع عدد من رؤساء البلديات العربية بالموافقة على مشروع المصادرة، تحت ادعاء أن الأمر يتم بغرض «التطوير»، إلا أن اللجنة القطرية لرؤساء السلطات المحلية عقدت اجتماعًا قبل مؤتمر الدفاع عن الأراضي بأيام، وأعلنت تأييدها للمؤتمر وأهدافه.
كان كل شيء يسير في اتجاه التصعيد. حملة التحريض التي قادتها السلطة الإسرائيلية على من يعارضون مصادرة الأراضي، وترهيب السكان الفلسطينيين، الذين مازالت معاناة المعيشة تحت الحكم العسكري عالقة في أذهانهم، وفي المقابل أيضًا تحركات فلسطينية على الأرض ضد مصادرة الأراضي، مثل مظاهرة قرية طرعان في 11 سبتمبر 1975، وقيام الأهالي بإضراب في القرية احتجاجًا على إقامة إسرائيل مصنع على أراضيهم.
وتوالت الاحتجاجات الفلسطينية في الداخل على سياسة مصادرة الأراضي الإسرائيلية، إلا أن حكومة إسرائيل قررت تصعيد الموقف أكثر حينما أقرت وبدأت في تنفيذ «مخطط تطوير الجليل»، وتوقفت عن منح التصاريح التي تجيز للفلاحين الفلسطينيين دخول أراضيهم في بعض المناطق، الأمر الذي واجهه قادة فلسطينيي 48 بإعلان 30 مارس 1976 يومًا للأرض، وللإضراب العام.
وفيما كانت لجنة الدفاع عن الأراضي تحشد للإضراب العام، الذي يهدف لوقف مخطط مصادرة الأراضي الفلسطينية، حاولت الحكومة الإسرائيلية، التي كان يترأسها في ذلك الوقت، إسحاق رابين، إفشال الإضراب العام بشتى الطرق، من بينها التحريض على أعضاء لجنة الدفاع عن الأراضي، وإرهاب رؤساء السلطات المحلية العربية للتراجع عن قرار الإضراب، بالإضافة إلى تحويل القرى والبلدات العربية إلى ثكنات عسكرية عبر نشر قوات الأمن الإسرائيلية فيها لإرهاب السكان الفلسطينيين لمنعهم من المشاركة في الإضراب العام.
تم تجنيد كل المؤسسات الصهيونية في إسرائيل من أجل إفشال اليوم. اتحاد نقابات عمال إسرائيل «الهستدروت»، شارك هو الآخر في هذه الحملة، حيث اعتبر الإضراب في هذا اليوم غير شرعيًا، وهدد العمال العرب بعدم الوقوف بجانبهم إذا فصلهم أصحاب العمل (الصهاينة) ردًا على مشاركتهم في الإضراب، وهو التهديد الذي تم تنفيذه بالفعل.
وأمام هذه الحملة الشرسة، اجتمعت لجنة الدفاع عن الأراضي وأصدرت بيانًا جاء فيه أن «إضراب الجماهير العربية يوم 30-3 -1976، احتجاجًا على مصادرة الأراضي العربية في الجليل، ومناطق أخرى في البلاد، سيجري في موعده المقرر»، وأكد البيان أن «ما أذاعته وسائل الإعلام الرسمية عن قرار عدد من رؤساء السلطات المحلية العربية تأجيل الإضراب، لا يعبر إلا عن رأي شخصي، ولا يؤثر على قرار لجنة الدفاع عن الأراضي، ولا يعبر عن إرادة الجماهير العربية، التي أعلنت بهيئاتها ومؤسساتها، عزمها على الإضراب».
وعلى الرغم من حالة العسكرة التي فرضتها إسرائيل على القرى والبلدات العربية، انطلقت الشرارة الأولى لانتفاضة فلسطينيي 48 في دير حنا، التي شهدت أولى المواجهات عشية يوم الأرض، لتنتقل المواجهات بعد ذلك إلى عرابة ثم إلى سخنين. لم تتوان القوات الإسرائيلية في قمع احتجاجات من هم في نظر القانون الإسرائيلي «مواطنين»، ثم فرضت حظر التجول في البلدات الثلاث.
في الساعات الأولى من صباح اليوم المحدد للإضراب، كان واضحًا أن النجاح كان من حليف الحركة الوطنية الفلسطينية في الداخل. الإضراب نجح، ومعه نجح فلسطينيو 48 في التأكيد على وجودهم الوطني والقومي وعلى تمسكهم بأراضيهم. ولم يكن أمام إسرائيل إلا مواجهة هذا النجاح بمجزرة، حيث بدأت قوات الأمن الإسرائيلية في الاعتداء على المواطنين، بالرصاص الحي، حتى وهم في بيوتهم، فقضي 6 مواطنين من فلسطينيي 48، من عرابة وسخنين وكفر كنا والطيبة نحبهم، وأصيب واعتقل المئات.
لعب رئيس بلدية الناصرة، النائب العربي في الكنيست، عن القائمة الشيوعية الموحدة «راكاح»، توفيق زياد، دورًا كبيرًا في إفشال مخططات السلطة الإسرائيلية الرامية لإفشال الإضراب، ولعب أيضاً دورًا كبيرًا في قيادة إضراب يوم الأرض، وكان هذا الدور سببًا في مداهمة القوات الإسرائيلية لمنزله ظهيرة يوم الإضراب العام، واعتدائهم على من فيه، بحجة مطاردة شبان رجموا القوات الإسرائيلية بالحجارة. تقول نائلة زياد، زوجة توفيق زياد لـ«المصري اليوم» عبر الهاتف من الناصرة المحتلة، إن «الأمر لم يكن سوى محاولة اغتيال»، وأضافت أنها سمعت الضابط الإسرائيلي يعطي الأمر لجنوده قائلًا: «أحرقوا البيت بمن فيه».
امتد الإضراب في هذا اليوم ليشمل عددًا من المدن في الضفة الغربية، والقدس المحتلة، ونجح الإضراب في هذا اليوم نجاحًا تحول معه اليوم إلى علامة بارزة في تاريخ النضال الفلسطيني، يحيي ذكراها ليس فقط فلسطينيو 48، وإنما الفلسطينيون جميعًا أينما وجدوا، في كل أرض فلسطين التاريخية، وفي المخيمات وكل بلاد الشتات.