بعدما شهدت تونس حالة من الانقسام والتناحر حول هوية الدولة ومسألة إدراج «الشريعة» فى الدستور الجديد، الأمر الذى شكل تهديداً لإفساد عملية انتقال البلاد إلى المسار الديمقراطى، اتخذت حركة «النهضة» الإسلامية التى تقود الحكومة الائتلافية قراراً بالاحتفاظ بالفصل الأول من دستور 1959، الذى ينص على أن «تونس دولة حرة لغتها العربية والإسلام دينها»، دون الإشارة إلى أن الإسلام مصدر أساسى للتشريع، باعتبار ذلك «محل إجماع جميع فئات المجتمع»، وهى الخطوة التى قوبلت بالاستحسان من قبل عدد من الأحزاب السياسية الرئيسية، ومن بينها الحزبان المشاركان فى الائتلاف الحاكم، بينما رفضها البعض الآخر، وعلى رأسهم تيار «العريضة الشعبية»، محذرين من انتقال حالة الصراع حول النص على الشريعة فى الدستور من «المجلس التأسيسى» إلى الدوائر الداخلية فى الحركة.
وطالبت جهات دينية محافظة فى الأسابيع الماضية بأن يتضمن الدستور الجديد بنداً يوضح أن الإسلام هو المصدر الأساسى للتشريع، بينما يعارض العلمانيون تلك الخطوة، قائلين إنها ستفتح الباب أمام اليمين المتشدد لفرض قيمه الدينية على الدولة، وتسبب هذا النقاش المحتدم فى استقطاب المجتمع التونسى ودفع الناس للتظاهر فى الشوارع.
من ناحيته، قال راشد الغنوشى، زعيم وأحد مؤسسى حركة «النهضة» الاثنين بعد اجتماع للحركة، إن «النهضة» ستقبل بالاحتفاظ بالفصل الأول من الدستور السابق، موضحاً أن الشعب التونسى متحد بخصوص الإسلام ولا يريد إدراج تعبير آخر يؤدى إلى انقسام الشعب. وأكد «الغنوشى» أن «عدم النص على إقرار الشريعة لا يعنى خروج تونس من الإسلام»، مشيراً إلى أن القوانين التونسية مستمدة من الشريعة بنسبة 80%، كما أوضح أن البرنامج الانتخابى لحركته لا يتضمن تطبيق الشريعة، فالأولوية تبقى - حسب تعبيره -لإقامة نظام ديمقراطى يضمن الحريات للجميع.
وتشغل «النهضة» أكثر من 40% من مقاعد «التأسيسى»، وسيكون لموقفها فى النقاش بشأن الشريعة تأثير كبير على صياغة الدستور الذى قد يستغرق النقاش بخصوص صياغته والموافقة عليه نحو عام. وتحدد اللوائح نسبة موافقة تبلغ 50% على الأقل على كل فقرة من الدستور فى المجلس، وأن ينال الدستور ككل موافقة الثلثين فيما لا يزيد عن قراءتين، وفى حالة عدم الحصول على أغلبية كبيرة كافية، يحال الأمر إلى استفتاء.
وتستطيع «النهضة» مع شريكيها العلمانيين فى الائتلاف الحاكم «التكتل من أجل العمل والحريات» و«المؤتمر من أجل الجمهورية» الاقتراب من تحقيق الأغلبية الضرورية. ومن المتوقع أيضاً أن يواجه موقف «النهضة» معارضة شديدة من السلفيين غير الممثلين بشكل كبير فى أى كتلة فى «التأسيسى»، لكنهم كثفوا احتجاجاتهم فى الشوارع للمطالبة باقامة دولة إسلامية.
وبالفعل بدأت بوادر هذا الخلاف تظهر فى ردود فعل القوى السياسية على قرار «النهضة» ما بين مؤيد ورافض. فمن ناحيتها رحبت كتل نيابية رئيسية فى «التأسيسى» الاثنين بقرار النهضة «التمسك» بالفصل الأول من دستور 1959 باعتباره يصب فى مصلحة «الوفاق السياسى» حسب بعضها، ولكونه يتيح «تجنب التطرف الدينى» حسب البعض الآخر. فمن ناحيته، وصف رئيس كتلة «حزب التكتل الديمقراطى من أجل العمل والحريات»، المولدى الرياحى، قرار النهضة بأنه «مهم ومفيد» بالنسبة لتونس وللحياة السياسية فيها. وأوضح فى تصريح لوكالة الأنباء التونسية (وات) أن الأحزاب السياسية «لا ينبغى أن تكون تحت تأثير تيارات متشددة»، معتبراً أن «التيارات السلفية وغيرها لا تمثل إلا أقلية صغيرة جدا». واعتبر أن موقف النهضة «إيجابى للائتلاف الثلاثى» المشكل للحكومة وللحوار السياسى، كما رأى عضو حزب العمال الشيوعى التونسى أحمد السافى أن قرار النهضة يعكس وفاء لالتزاماتها بأن تونس لن تكون إلا دولة مدنية وديمقراطية.
وقال رفيق التليلى، النائب عن كتلة حزب «المؤتمر من أجل الجمهورية» وممثلها فى لجنة المبادئ الأساسية للدستور، إن موقف النهضة «مرحب به»، فيما رحبت مية الجريبى النائبة فى الكتلة الديمقراطية عن «الحزب الديمقراطى التقدمى» (وسطى) بالأمر باعتباره معبراً عن «إرادة فى التوافق» تسعى إليها كل الأحزاب السياسية التونسية حول الدستور.
فى المقابل، انتقد الهاشمى الحامدى، رئيس تيار «العريضة الشعبية». بشدة قرار «النهضة»، واتهمها بخيانة التونسيين الذين منحوها أصواتهم. ودعا «الحامدى» نواب النهضة فى «التأسيسى» للانشقاق عن كتلة النهضة والانضمام إلى «العريضة»، الذى يشكل القوة الثالثة فى المجلس، والذى دعا صراحة إلى أن يكون الإسلام المصدر الأساسى للتشريع.
ورغم أن قرار «النهضة» جاء ليحد من شدة الجدال المتصاعد حول هوية الدولة، تبقى فرضية اصطدام الحركة بالتيارات الدينية المتشددة واردة، كما تحذر صحيفة «الصباح التونسية» من تحول الخلاف من أروقة «التأسيسى» إلى الدوائر الداخلية للحركة، التى تضم شقين: الأول متشدد يدعو للحوار مع التيارات الدينية وخصوصاً السلفيين، ويميل للاستجابة لهم بتضمين الشريعة فى الدستور، والثانى معتدل يدعو إلى الوفاء بالتزاماته ويؤكد أن «النهضة» حزب مدنى.