فى «عزبة المسلمين» التى تقع على الجانب الآخر من شارع هليوبوليس الشهير بالقرب من ميدان الجامع فى مصر الجديدة، تجدها جالسة طوال الوقت فى الشارع على كرسى صغير، وعندما تمعن النظر فيها تكتشف أنها تشبه ذلك المكان الذى تعيش فيه، فكلاهما بلغ من الكبر مداه، هى عاشت وشاخت فى العزبة المسماة «عزبة المسلمين»، رغم أن أغلب سكانها من الأقباط، والعزبة أيضاً تحولت إلى أطلال، بسبب امتداد تاريخها إلى سنوات طويلة.
جوليا ميلاد هى أكبر مسيحية فى عزبة المسلمين، ولدت وتزوجت وتعيش فى تلك العزبة منذ 60 عاماً، لا تعرف أنيساً ولا جليساً غير جيرانها المسلمين الذين تعيش إلى جوارهم طوال تلك السنوات، خاصة بعد وفاة زوجها وابنتها الوحيدة وزواج حفيداتها الثلاث. عندما تتحدث إلى جوليا تظل مستمتعاً بالحوار طوال الوقت، فهى تأخذك إلى سنوات طويلة من تاريخ العزبة تعود إلى الأربعينيات من القرن الماضى، عندما كانت عبارة عن إسطبل كبير يملكه البلجيكيون، وكان والدها يعمل «سايس» فيه، وتعرف جوليا أيضاً أنه بعد البلجيكيين منحت الحكومة الإسطبل إلى كمسارية القطارات، للإقامة فيه، ثم تم بيعه إلى مواطنين بسطاء ليس لديهم مأوى، فقاموا بتحويله إلى عدد من الغرف، ثم تحولت بعد ذلك إلى عزبة بالكامل.
جوليا التى كانت تعمل فى مصنع للغزل فى منطقة الزيتون اعتادت الشقاء منذ توفى زوجها وترك لها ابنة وحيدة، فقد عملت لتنفق على ابنتها، ثم استطاعت تزويجها، وشاء القدر أن تتوفى ابنتها، وتترك لها أيضاً 3 حفيدات.
رغم الصعوبات التى مرت بها فى حياتها لم تشعر جوليا بالعجز، إلا عندما شاهدت شهداء ثورة 25 يناير يتساقطون فى ميدان التحرير وفى الأماكن الأخرى التى شهدت اندلاع ثورات، فيوم جمعة الغضب شعرت جوليا بما شعرت به وقت وفاة زوجها وابنتها، شعرت بأن قلبها يتمزق وعقلها غير قادر على استيعاب ما يحدث، فأخذت تصرخ وتدب بقوة على قدميها وهى جالسة أمام التليفزيون تتابع ما يحدث، فأصيبت فى قدميها بمرض يعوقها عن الحركة، وهو ما فسره الأطباء بعجز جزئى نتيجة التعرض لألم نفسى شديد.
لم يكن ذلك هو المرض الوحيد الذى أصاب جوليا، حزناً على ما حدث لشباب مصر، فشدة البكاء طوال الليل والنهار أصاب عينيها بأمراض كثيرة، خاصة بعد بكائها على أم فقدت اثنين من أولادها فى ميدان التحرير، فقد شاهدتها على إحدى القنوات التليفزيونية تقول: «طب كانوا سابولى واحد وموتوا واحد»، فكلما تتذكر جوليا تلك العبارة تنخرط فى نوبة بكاء شديدة، وبسبب الحالة النفسية التى وصلت إليها قررت أن تغلق التليفزيون، وتتوقف عن مشاهدة ما يحدث بناء على نصيحة طبيبها المعالج الذى توقع لها مزيداً من الانهيار فى حالتها الصحية، إن لم تتوقف عن مشاهدة التليفزيون.