x

«إعتذار ورصيدنا لديكم يسمح».. هكذا بدأت محاكمة المدنيين عسكريًا

السبت 15-09-2012 17:59 | كتب: مصطفى محيي |
تصوير : محمد هشام

«إعتذار ورصيدنا لديكم يسمح».. كانت هذه هي العبارة الافتتاحية في البيان الصادر من المجلس العسكري صباح يوم ٢٦ فبراير ٢٠١١، عقب هجوم قوات الشرطة العسكرية على مئات المعتصمين بميدان التحرير وأمام مقر مجلس الوزراء المطالبين بإقالة رئيس الوزراء أحمد شفيق واستكمال باقي مهام الثورة، ثم اعتقال العشرات منهم ومحاكمتهم عسكريًا بتهم تراوحت بين حيازة سلاح وخرق حظر التجول  والتعدي على قوات الجيش.

جاء بيان «العسكري» ليعتذر عما اعتبره «احتكاكات غير مقصودة بين الشرطة العسكرية وأبناء الثورة» مؤكدًا أنه لم تصدر أوامر بالتعدي على من وصفهم بـ«أبناء هذا الشعب العظيم».

نُشر البيان بصفحة المجلس العسكري على موقع التواصل الاجتماعي «فيسبوك»، وفي الوقت نفسه كان «أبناء ثورة يناير»  يواجهون محاكمات عسكرية عاجلة أصدرت أحكامًا قاسية بالسجن على معظمهم، لتمثل هذه الواقعة أول محاكمة عسكرية لمدنيين بعد تولي المجلس العسكري شؤون الحكم في ١١ فبراير ٢٠١١، وإن لم تكن الأولى منذ نزول الجيش للشارع في ٢٨ يناير عقب «جمعة الغضب».

دشنت هذه الواقعة ووقائع أخرى بعدها، أقربها كان فض اعتصام التحرير في ٩ مارس من العام نفسه، مرحلة جديدة من محاكمة المدنيين أمام القضاء العسكري، تحول فيها من «قضاء خاص» ينظر في القضايا المتعلقة بالشأن الداخلي للجيش وأفراده إلى أداة التقاضي الأساسية بيد المجلس العسكري طوال المرحلة الممتدة منذ تنحي مبارك حتى وقت قريب.

الاستثناء الذي صار قاعدة

يرى أحمد سيف الإسلام، المحامي بمركز هشام مبارك للقانون وعضو المجلس القومي لحقوق الإنسان، أن المحاكمات العسكرية للمدنيين مرت بعد الثورة بمراحل ثلاث، الأولى هي مرحلة «الضرورة»، والثانية «شهوة السلطة»، والثالثة «الصراع على السلطة».

ويفسر ذلك قائلا «بعد اختفاء الشرطة وانتشار الجيش في ٢٨ يناير، كانت معظم المحاكم والنيابات قد احترقت أو معطلة عن العمل، وبدأ الجيش في القيام بأعمال الشرطة، من تحرير محاضر وتحويل المتهمين المقبوض عليهم للنيابة العسكرية، خاصة أنه لم يكن هناك نص بديل في القانون يقول أنه في حالة قيام الجيش بأعمال الشرطة أن يتم إحالة المدنيين إلى المحاكم العادية، أو يتم التحفظ عليهم لحين عودة المحاكم والنيابات العادية للعمل بصورة طبيعية».

يضيف «سيف» «كان يمكن اللجوء لأي من الحلول التي ذكرتها خاصة أن الوضع كان إستثنائيًا ويتطلب حلولا استثنائية، ولكن تم تطبيق الحل التقليدي الموجود في القوانين، وهو إحالة المدنيين للمحاكم العسكرية».

يكمل «سيف»، «كانت هذه هي المرحلة الأولى وهي مرحلة الضرورة، واستمرت نحو ٣ أشهر لحين عودة المحاكم والنيابات العادية للعمل، ولكن ما حدث أنه مثل أي سلطة تجد نفسها في لحظة سيولة وفراغ، تسعى لملء الفراغ ولا تتراجع عن المساحات التي اكتسبتها، فاستمرت في محاكمة المدنيين عسكريًا رغم عودة القضاء العادي للعمل، وهو ما مثل توسعًا مجحفا بحق المدنيين».

ويتفق أحمد حسام، المحامي بالمبادرة المصرية للحقوق الشخصية، مع «سيف» في أن التوسع في محاكمة المدنيين عسكريا كان مجحفا، ووصفها بأنها «عقابا جماعيا يهدر طائفة واسعة من الحقوق والحريات».

ويشير «حسام» في ورقة أعدها تحت عنوان "مدى مشروعية المحاكمات العسكرية للمدنيين في الفترة اللاحقة على الثورة»، إلي «نظرية الحلول» فيقول أنه بموجب هذه القاعدة المتعارف عليها قانونا وقضاء، فإن الجيش قد حل محل الشرطة نتيجة «عجزها أو تقاعسها» عن أداء عملها، وبالتالي «أصبح منوطا به القيام بجزء من مهام الشرطة في حفظ النظام والأمن العام، والقيام بما يتطلبه ذلك من أعمال الضبط القضائي والإداري»، إلا أن «حسام» يعود ليؤكد «إن كان هناك ما يبرر حلول الجيش محل الشرطة، فلا يوجد هنا في القانون أو الدستور أو ما يبرر حلول القضاء العسكري محل القضاء العادي، كما أن هذا الإجراء يتعارض مع التنظيم القانوني لاختصاصات القضاء العسكري»، مؤكدا أن قوات الجيش كان من الممكن أن تحيل المقبوض عليهم للقضاء العادي.

القضاء العسكري والنظام المصري

لم يكن التوسع في استخدام القضاء العسكري أمرا قاصرا على الفترة التالية لثورة يناير ٢٠١١، فكثيرا ما استخدم النظام السياسي القضاء العسكري في مواجهة خصوم سياسيين منذ حركة «الضباط الأحرار» في يوليو ١٩٥٢، وتوسع نظام مبارك في استخدامها عشرات المرات في مواجهة الجماعات الإسلامية في التسعينيات.

وأول استخدام للمحاكمات العسكرية ضد مدنيين كان في أغسطس ١٩٥٢ بعد أسابيع قليلة من حركة «الضباط الأحرار»، وفيها تم الحكم على العاملين بكفر الدوار محمد مصطفى خميس (١٩ عاما)، ومحمد عبد الرحمن البقري (١٧ عاما) بالإعدام شنقا، بالإضافة لأحكام مختلفة بالسجن على عمال آخرين، بسبب إضراب العمال عن العمل وتنظيمهم مسيرة للمطالبة بتحسين أوضاعهم الوظيفية والحياتية المتدنية. وقتها رأس المحكمة عبد المنعم أمين، أحد الضباط الأحرار، ولم يتمكن العمال من تعيين محاميا لهم، واختارت المحكمة الكاتب الصحفي «موسى صبري» من بين الحضور ليكون محاميا لهما.

ثم شهدت المرحلة الناصرية أكثر من استخدام للمحاكمات العسكرية ضد مدنيين، كان أشهرها القضايا ضد الإخوان المسلمين في ١٩٥٤ عقب محاولة اغتيال جمال عبد الناصر في المنشية، والتي حكم فيها بالإعدام بحق ٧ من قيادات الجماعة، وتراوحت باقي الأحكام بين السجن عشر سنوات والمؤبد. والقضية الثانية كانت سنة ١٩٦٥ والتي صدر فيها حكما بالإعدام على سيد قطب، المفكر والكاتب الإسلامي، وتم فيها اتهام المئات من جماعة الإخوان المسلمين بمحاولة إحياء الجماعة وحكم عليهم بأحكام تراوحت بين ١٠ سنوات والسجن المؤبد.

ولم يكن الإخوان المسلمين وحدهم من تعرضوا للمحاكمات العسكرية، فهناك محاكمات الشيوعيين في ١٩٥٩ و١٩٦٤ التي تم فيها إلقاء القبض على المئات من النشطاء والسياسيين الشيوعيين بما كان كافيا لإنهاء ما عرف بالحركة الشيوعية الثانية التي تأسست في الأربعينيات من القرن العشرين مع موجة الإضرابات والاحتجاجات العمالية التي اجتاحت البلاد وقتها وأسست معها النقابات المستقلة التي أممها النظام الناصري لاحقا في الخمسينيات، تحت سقف «اتحاد نقابات عمال مصر».

ويذكر أن مرات استخدام السادات للمحاكم العسكرية ضد مدنيين كانت محدودة، إلا أنها تركزت بالأساس على مواجهة الشيوعيين واليساريين أيضا في ثلاث قضايا شهيرة.

أما في عهد مبارك فقد توسع في استخدام المحاكمات العسكرية، فأحيل ١١٣٤ مدنيا للقضاء العسكري، من بيهم ١٨٠ من الإخوان المسلمين، أما الباقي فمعظمهم من أعضاء الجماعات الإسلامية.

وفي نظر الكثيرين تشكل قضية «الجهاد الكبرى» التي تم فيها القبض على المئات عقب اغتيال السادات، والتي نظرتها محكمة أمن الدولة العليا برئاسة القاضي عبد الغفار محمد وأتهم فيها آكثر من ٣٠٠ شخص تم تبرئة معظمهم والحكم بالسجن فقط على نحو ٧٧ منهم، تشكل هذه القضية في نظر الكثيرين نقطة تحول في اعتماد النظام على القضاء العسكري لمواجهة الإسلاميين في الثمانينيات والتسعينيات.

فربما رأي نظام مبارك وقتها أن القضاء العسكري أكثر جرأة وأسرع في إصدار الأحكام، وهو ما كان يحتاجه في مواجهاته مع «عدو» مثل التحدي الأكبر لـ«دولته».

لماذا يجب ألا يحاكم المدنيون عسكريا؟

يقول أحمد سيف الإسلام «القضاء العسكري يفتقر لكثير من معايير الاستقلال بالمقارنة بالقضاء العادي، فالقاضي الطبيعي لا تعلوه أي سلطة وأحكامه نافذة بمجرد إصدارها، أما القضاء العسكري فحكم المحكمة لا يكون نافذا إلا بعد تصديق الضابط المسؤول، ومن صلاحيات الضابط أن يخفف الحكم أو يلغيه أو يوقف تنفيذه أو يطلب إعادة المحاكمة».

ويضيف «هناك إجراءات يتبعها القضاء العادي لضمان ألا ينظر قاضي بعينه قضية محددة، ومنها أن الجمعيات العمومية للمحاكم تجتمع قبل بدء موسم التقاضي، وتقوم بتقسيم الدوائر في كل محكمة، وتقرر مثلا أن تنظر الدائرة الأولي بمحكمة معينة القضايا التي تبدأ أرقامها بأرقام فردية، وأن تنظر الدائرة الثانية بالمحكمة القضايا التي تبدأ بأرقام زوجية، مما يضمن ألا يتم تحديد القاضي الذي سينظر القضايا بشكل مسبق».

ويكمل «سيف» «أما في حالة القضاء العسكري فلا توجد أصلا جمعيات عمومية للمحاكم، ورئيس هيئة القضاء العسكري مطلق اليد في تحديد الدوائر التي تنظر القضايا المختلفة».

ويلفت «سيف» هنا لنقطة أخرى «هناك مشكلة أخرى في كيفية التعامل مع الأدلة، فبالنظر للقضايا المختلفة التي تعامل معها القضاء العسكري، نرى اعتمادا مطلقا على محاضر التحريات والضبط التي تم إعدادها بواسطة الشرطة العسكرية، فبالنسبة للقضاء العسكري ما يحرره الضابط المسؤول سواء كان من الجيش أو الشرطة هو دليل كافي للإدانة، يمكن الاعتماد عليه بشكل كامل حتى لو لم تكن هناك أي أدلة أخرى».

ويؤكد «سيف» أن هذه المشكلة واجهناها بمعظم القضايا، وهي سبب أساسي في العدد الضخم للمحاكمين عسكريا، ولو واجه هؤلاء محاكمات أمام القضاء العادي لاختلف الوضع، «فبالنسبة للقضاء العادي محضر التحريات هو قول مرسل على لسان قائله يحتمل الصدق أو الكذب ولا يصلح أن يكون بمفرده سندا للإدانة، على عكس ما يحدث في القضاء العسكري الذي كثيرا ما اكتفي بما قالته الشرطة، سواء عسكرية أو مدنية، في محاضرها لإدانة المتهمين، وهو ما يعكس هنا مشكلة حقيقية في حس العدالة لدى وكلاء النيابة والقضاة العسكريين، فبالنسبة لهم ما أتت به جهة رسمية هو دليل مُصدق لا يقبل التشكيك».

بعد رفع حالة الطوارئ

يقول «سيف» أن انتشار الجيش في الميادين والشوارع خلال الأشهر الماضية وقيامه بأعمال الضبط القضائي وتحرير المحاضر كان مبررا بالمادة ٤ من قانون الطوارئ، التي تعطي هذا الحق للقوات المسلحة حال الاستعانة بها أثناء حالة الطوارئ. لكن بعد رفع حالة الطوارئ في مايو الماضي لم يعد هناك ما يبرر قانونا إحالة المدنيين للمحاكم العسكرية، إلا في حالة الاعتداء على القوات المسلحة أو منشآتها ومعداتها، مما يضعنا في مأزق حقيقي.

ويفسر «سيف» ذلك قائلا «إذا استعان مرسي بالجيش لتأمين المستشفيات مثلا، ووقعت مشاجرة داخل المستشفى من أحد الأفراد واعتدى مثلا على العاملين بها، فالجيش هنا لا يحق له القبض عليه وإحالته للتحقيق، طالما أنه لم يعتدِ على قوة التأمين نفسها، وهذا معناه أن استمرار إحالة المدنيين للمحاكم العسكرية مرهون دائما بإضافة تهمة الاعتداء على القوات المسلحة لأي محضر يحرره ضباط الجيش، بغض النظر عن حدوث هذا من عدمه، فالشرطة العسكرية إذا حررت محضرا وأحالت المتهمين للقضاء العادي سيسهل الطعن على المحضر وإسقاط القضية لأن الشرطة العسكرية هنا ليست ذى صفة، أما القضاء العسكري فلن ينظر القضية إلا إذا تم توجيه إتهاما للمقبوض عليهم بالاعتداء على عسكريين، وهنا أصبح التوسع في المحاكمات العسكرية للمدنيين أمر غير قانوني أصلا».

ويرى أحمد راغب، المحامي الحقوقي والمدير التنفيذي لمركز هشام مبارك للقانون، «أن القانون العسكري يحتاج إلى تعديل بحيث يتم وقف المحاكمات العسكرية للمدنيين بشكل عام، تطبيقا لمبدأ أن المدنيين يحاكمون أمام القضاء العادي، والعسكريين يحاكمون أمام القضاء العسكري».

وفي هذا السياق أعد محامو مجموعة «لا للمحاكمات العسكرية للمدنيين»، مشروع قانون لتعديل القانون العسكري، ركزوا فيه على تعديل إختصاص المحاكم العسكرية، بحيث يتم إستثناء المدنيين من الوقوف أمام القضاء العسكري، بما فيهم المدنيين العاملين بالمصانع والمؤسسات التابعة للإنتاج الحربي ووزارة الدفاع، ويقتصر الأمر فقط على المدنيين الذين يخدمون بالقوات المسلحة في أوقات الحرب.

كما ركز مشروع القانون المقترح هنا على تحصين الأحداث «الأقل من ١٦ سنة» ضد المحاكمات العسكرية، فالقانون المعمول به حاليا يسمح بمقاضاة الأحداث أمام القضاء العسكري، وهناك عدد من الوقائع لمحاكمة قصّر أمام القضاء العسكري خلال العام ونصف الماضيين.

كما ينص مشروع القانون المقترح على إعادة محاكمة المدنيين المحاكمين عسكريا بعد ١٩٨١ أمام المحاكم العادية، وتشكيل هيئة قومية لضحايا المحاكمات العسكرية لتعويض المدنيين المحاكمين عسكريا.

وأن تتولى لجنة من قضاة التحقيق يتم تشكيلها بواسطة الجمعية العمومية لمحكمة استئناف القاهرة، تلقي الشكاوى والبلاغات في أي اعتداءات وقعت من أفراد من القوات المسلحة ضد مدنيين في الفترة من يناير ٢٠١١ وحتى إصدار القانون سواء أثناء محاكمتهم عسكريا أو أثناء فض اعتصامات أو مظاهرات بالقوة، والتحقيق في هذه الوقائع.

ويعود «راغب» ليؤكد هنا أن وقف المحاكمات العسكرية للمدنيين أمر يحتاج في كل الأحوال إلى «إرادة سياسية»، وضغط حقيقي ومستمر على صانعي القرار لإغلاق هذا الملف، وهو ما يراه «سيف» إحدى بؤر الصراع على السلطة في مصر في الفترة القادمة، وأن نتائجه ستكون رهن لنتائج هذا الصراع.

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية