x

جينات الفوضى

الأحد 07-02-2010 00:00 |

ليس سهلاً أن أعترف بأننى أكاد أصل إلى قناعة ضد ما تتمناه النفس بأن المصرى يولد وتولد داخله جينات الفوضى. ليس سهلاً أن أعترف بذلك، لا لأننى مصرى وحسب، بل أيضاً لأن ما يتعلق بالعلوم الاجتماعية وبالنفس البشرية يرفض الخضوع للتعميم وينفر من حماقة التبسيط، وأيضاً لأن من الظلم إغفال تأثير عوامل البيئة.

غير أن تساؤلات قاسية تواجه الإنسان من وقت لآخر وتضعه أمام المرآة وترفض أن تمر هكذا مرور الكرام، وربما يكون هذا من حسن الحظ.. لماذا يفصح المصرى عن طاقاته حين يكون «مضطراً» أكثر منه حين يكون «مختاراً».. ولماذا ينبسط حين يكون «مسيراً» أكثر منه حين يكون «مخيراً».. ولماذا يعتدل حين «يقال له» أكثر منه حين «يستشار».. ولماذا ينضبط حين «يرى» عصا أكثر منه حين «يسمع بها»؟

سيكون من السذاجة افتراض أن ثمة سبباً واحداً بعينه يقف وراء ذلك، لكن علماء الأنثربولوجيا - وهؤلاء منا الذين احتكوا بثقافات مختلفة وسافروا كثيراً وعاشوا فى بلاد متنوعة - سيقدمون لك جملة من التفسيرات، من أبرزها مثلاً انخفاض مستوى التعليم ومن ثم انخفاض مستوى الوعى ومن ثم انخفاض القدرة على الاندماج فى مجتمع مدنى يسوده القانون، لكننا نرى فى الوقت نفسه أن بعضاً من أسوأ مَن تنطبق عليهم التساؤلات السابقة بلغوا من درجات العلم الحد البعيد.

إذا وضعنا جانباً لحظات الانفعال الجماعى (اليوفوريا والغوغائية مثالاً) التى تصيب الشعوب من وقت لآخر لسبب معروف أو لآخر، سنسهل الأمور على أنفسنا إذا حاولنا أولاً أن نجيب عن هذا السؤال: لماذا يكون المصرى عادة أكثر التزاماً وأكثر إنتاجاً خارج مصر عنه داخل مصر؟

تقودنى تجربتى الشخصية إلى اعتقاد بأن الإجابة تكمن فى تلك السلسلة الطويلة المتدرجة التى تبدأ عادة بغياب الإحساس بالعدالة؛ فالذى لا يشعر بأن الذى سيصل بعده لن يقف وراءه فى الطابور، لن يتطوع هو نفسه بالوقوف فى الطابور إن لم يدفعه ذلك فى الواقع إلى محاولة انتزاع دور هذا الذى وصل قبله. وعلاج هذا يكون إما بانتفاضة حضارية شعبية لا وجود لها على أى حال إلا فى يوتوبيا أفلاطون، أو بما فطن إليه الأولون: القانون العادل الذى يتم تطبيقه بشكل عادل. بعبارة أخرى: الدولة.

ما يزيد المشكلة تعقيداً فى حالتنا، نحن المصريين، هو تلك الفجوة المخيفة من انعدام الثقة العامة الناتج عن ذلك الإرث الطويل من الشك والشك المضاد بين الشعب المصرى وحكومته عبر مختلف العصور.. وهى المشكلة التى أدت فى رأينا - فيما أدت - إلى ظهور شخصية الفهلوى الذى يمكن أن «يخم» الآخر «بصنعة لطافة»، وإلى شيوع الاعتقاد المدمر بأن الضعفاء فقط هم المضطرون إلى الالتزام بالقانون، وإلى أن يركبنا ألف عفريت حين نرى شرطياً فى الشارع على عكس ما يحدث فى العالم كله، وإلى كل ذلك القبح الذى نراه فى شوارعنا وفى واجهات منازلنا وعلى أعتاب بيوتنا، لأن ذلك كله ينتمى إلى الحكومة.. ينتمى إلى «العدو».

أجد بعض العزاء فى حقيقة أن المصرى، بشكل عام، حين يخرج من مصر لا ينخرط بسهولة فى أتون الحضارة وحسب، بل إنه «يستمتع» وقد أتيحت له فرصة عادلة للتعبير عن نفسه ولإثبات ذاته.. لكننى لا أجد كثيراً من العزاء فى إهمال الدولة حتى اليوم فى التصدى لمشكلة كبرى لاتزال تصيب المجتمع كله فى مقتل.

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية