بين ليلة وضحاها وبعدما كانت إيطاليا من أولى الدول التي سجلت حالات إصابة بفيروس كورونا وقامت بمحاصرته، بعزل المصابين الثلاث الذين تم الإعلان عنهم في شهر يناير الماضي، تحولت إلى الدولة الأكثر تسجيلا للإصابات والوفيات في العالم متفوقة على الصين مركز تفشي الفيروس،تعتبر إيطاليا هي الدولة الأكثر تضررا من فيروس كورونا المستجد بعد الصين، حيث يخضع 60 مليون مواطن إيطالي لحجر صحي بعدما ساءت الأحوال في البلاد جراء تفشي الفيروس.
وفي أقل من شهر ارتفعت نسبة الإصابة بفيروس كورونا من 3 حالات فقط إلى نحو 10،149 شخصا، فيما سجلت 631 حالة وفاة في 20 منطقة في مختلف أنحاء البلاد.
فما الذي حدث وكيف تدهورت الأحوال بهذه السرعة؟
في تقرير لصحيفة «الجارديان» البريطانية بعنوان «من الثقة إلى الحجر الصحي: كيف اجتاح كورونا إيطاليا»، والذي كتبته مراسلة الصحيفة في روما والتي قالت إن إيطاليا كانت مقدمة الدول التي شهدت ظهورا لكورونا خارج الصين، بعد اكتشاف ثلاث حالات، بما في ذلك سائحان صينيان في نهاية يناير، تم عزل المرضى في مستشفى في روما، وتم تتبع الاتصالات، وأصبحت الدولة واحدة من أوائل الدول في العالم التي قطعت روابط النقل مع الصين، وكان الشعور بالثقة ملموساً. تفاخر رئيس الوزراء، جوزيبي كونتي، في 31 يناير قائلاً: «إن نظام الوقاية الذي وضعته إيطاليا هو الأكثر صرامة في أوروبا».
ولكن في الواقع، كما سيتضح في فبراير، كان الفيروس ينتشر دون أن يلاحظه أحد في شمال إيطاليا عبر سلاسل محلية أخرى من العدوى، وسط جميع الاحتمالات بالإصابة بكورونا منذ منتصف يناير.
كما ظهر سوء فهم خطير آخر، هذه المرة بين الحكومة المركزية والمستشفيات في الشمال، يتعلق الأمر بالبروتوكولات المناسبة لاختبار الحمى غير المبررة والشكاوى التنفسية، وما إذا كان يجب اختبار الأشخاص الذين ليس لديهم اتصال واضح بالصين.
في 18 فبراير، مرض رجل في 38 عامًا، ليس له روابط واضحة بالصين، فذهب لزيارة طبيبه العام وزار مستشفاه المحلي عدة مرات، لكن أعراض كورونا لم يتم ظهورها.
عرف الرجل باسم المريض الأول من قبل وسائل الإعلام الإيطالية، عندما تم إدخاله أخيرًا إلى المستشفى، تم اختباره بعد تأخير لمدة 36 ساعة، قضاه خارج العزلة. وبحلول ذلك الوقت كان قد أصيب بعدد من الموظفين الطبيين والاتصالات الأخرى على مدى أيام.
وقبل تسجيل الإصابة الأولى في إيطاليا، كان هناك عدد كبير من حالات الالتهاب الرئوي الحاد قد تم تسجيلها في مستشفى كودونو في شمال إيطاليا، بحسب ما صرح به رئيس جناح الطوارئ ستيفانو باجليا، لصحيفة «لا ريبابليكا» الإيطالية.
ويرجح باجليا أنه تم معالجة مرضى الفيروس على أنهم مصابين بأنفلونزا موسمية، وربما أصبحت المنشآت الصحية التي تستضيف هؤلاء المرضى، مواقع لنقل العدوى، ما ساعد على انتشار الفيروس بشكل واسع.
وتأثرت المناطق الشمالية الإيطالية مثل لومباردي، وفينيتو، وإيميليا-رومانيا، بالفيروس بشكل كبير، حيث تعد موطنا للنسبة الأكبر من إصابات الكورونا في جميع أنحاء البلاد بنسبة 85 بالمائة، بل موطن أكبر معدل وفاة بنسبة 92 بالمائة حتى الآن.
ولفت تقرير لصحيفة «تايم» إلى أن كورونا المستجد أو كما يعرف بـ «كوفيد-19»، قد انتشر في مناطق إيطاليا العشرين كلها بشكل مؤكد. يعتقد مسؤولون أن سبب ارتفاع معدل الإصابات بالكورونا يعود إلى أن انتشار الفيروس لم يكن مرصودا في بادئ الأمر.
وتعيد الباحثة فلافيا ريكاردو سبب ارتفاع معدلات الإصابة في إيطاليا إلى أن «الأمر قد بدأ ولم يكن ملحوظا، ومع مرور الوقت أدركناه، كان هناك الكثير من سلاسل انتقال (الفيروس) تحدث». ويعتقد مسؤولون آخرون أن إيطاليا لديها عددا أكبر من الحالات مقارنة بأوروبا، نظرا لإجراء الحكومة فحوصات صارمة لكشف المرض، مقارنة بالدول الأوروبية الأخرى، حيث تم فحص 42 ألف شخص.
وبحسب المعهد الوطني للصحة، فإن إيطاليا لديها نسبة كبيرة من الوفيات بسبب الكورونا، نظرا لأن إيطاليا لديها المعدل الأكبر من كبار السن في قارة أوروبا.
وكانت دراسات قد أشارت إلى أن أكثر فئة عمرية معرضة للإصابة بالفيروس هم المتخطون حاجز الستين، فيما تصبح نسبة الوفاة أكبر لمن تخطى الثمانين.يمكن أن يكون متوسط العمر المرتفع لإيطاليا عاملاً في ذلك. من المرجح أن يكون لدى كبار السن ظروف موجودة مسبقًا، ويبلغ عمر ربع سكان إيطاليا تقريبًا (22.6 في المائة) 65 عامًا أو أكثر- وهو أعلى رقم في الاتحاد الأوروبي ومن بين أعلى المعدلات في العالم. تقول كابوا أن هناك اختلافات في كيفية جمع البيانات وعرضها في بلدان مختلفة، لذا فإن مقارنة الوفيات قد تكون مضللة.
ويرى خبراء أن حظر السفر قد شجع بعض المسافرين على الدخول في رحلات متصلة دون الكشف عن بلد المغادرة، فيما يعتقد آخرون أن المرض قد انتشر قبل أن تتخذ الحكومة إجراءات الوقاية، حيث انتشر بشكل غير مرصود في أنحاء البلاد.
وقال آدم كوتشارسكي، الأستاذ المساعد في كلية لندن للصحة والطب الاستوائي، ل«الجارديان» إن الانتشار الأولي للفيروس في إيطاليا «أظهر القدرة على أن يصبح هذا تفشيًا خطيرًا في وقت قصير جدًا.
وأضاف: «إن الرسالة هي، إذا كان لديك انتقال غير مكتشف، إذا لم يتم أخذ ذلك على محمل الجد، يمكنك الوصول بسرعة كبيرة إلى الأرقام التي يمكن أن تضع عبئًا على خدماتك الصحية بسهولة. تحتاج بشكل مثالي للكشف عن تفشي المرض في أقرب وقت ممكن».
وأشارت الصحيفة إلى أن الكثير مما نعرفه عن الانتشار الكبير للفيروس في إيطاليا لا يزال مؤقتًا كل ما يمكن قوله بأما كما قال رئيس الوزراء السابق ماتيو رينزي، هو أن إيطاليا أصبحت خنزير غينيا (المعروف بكونه مرتعا للعديد من الأمراض) في أوروبا.
في مواجهة انتشار العدوى الأولى في الشمال، اشتبهت السلطات الإيطالية في البداية في ارتباطهم بحالات السائحين الصينيين في روما الذين زاروا بارما. تحركت السلطات لإغلاق 10 بلدات مرتبطة بمجموعة الحالات الأولية في مقاطعتي لومباردي وفينيتو الشماليتين. وقد تم الترحيب بعمليات الإغلاق المحلية، التي بدأت في نفس اليوم الذي تأكد فيه إصابة المريض الأول، في بعض الأوساط في الوقت المناسب على أنها سريعة وحاسمة.
ووفقًا لبعض منتقدي النهج الإيطالي، فإن ما بدا وكأنه عملية صنع قرار سليمة في بداية الأزمة ربما أدى جزئيًا إلى المشكلات التي تواجهها البلاد الآن.
كتب الصحفى الايطالي سبيبي سيفيرنيني في مقالة افتتاحية لصحيفة نيويورك تايمز في 2 مارس: «ربما حدثت أخطاء في أواخر يناير»، «ربما نصحت إيطاليا بإيقاف الرحلات من وإلى الصين؛ كانت ستوفر هذه الرحلات إشارة واضحة إلى من سيصل من هذا البلد، مما يجعل الفحوصات الصحية أسهل.
بالنسبة لكريستيان ألتهاوس، الذي يرصد الأمراض المعدية في جامعة برن في سويسرا، قال إن قضايا إيطاليا قد تتوصل إلى أبسط تفسير: أنها كانت دولة سيئة الحظ.
قال: «يمكنك أن تجادل بأنهم لاحظوا ذلك في وقت متأخر، ولكن هذا يمكن أن يحدث في مكان آخر أيضًا، ومن غير الواضح ما إذا كان الإغلاق الأول قد قوضته الرغبة في تجنب القلق والتأثير الاقتصادي غير الضروري في المركز الصناعي في البلاد، والاعتقاد بأن الفاشية ظلت محدودة».
وأضاف في هذا الصدد، ربما كانت الرسائل السياسية المختلطة مخطئة أكثر من أي نقاط ضعف في النظام الصحي الإيطالي. نحن نعلم الآن أيضًا أن النطاق الجغرافي لتلك المحاجر الأولية كان محدودًا جدًا.
مع انتشار القلق إلى مدن أكبر، بما في ذلك المركز الصناعي لميلانو والمركز السياحي في البندقية، كانت الرسائل السياسية مربكة. ومن بين الذين يروجون لرسالة «العمل كالمعتاد» كانت نيكولا زينجاريتي، رئيس الحزب الديمقراطي يسار الوسط، الذي سافر إلى ميلانو للقاء واستقبال الشباب لتعزيز خطته، أعلن في نهاية الأسبوع أنه أثبتت إصابته بالفيروس.
المثير في «السيناريو الإيطالي» هو سرعة انتشار الفيروس مقارنة مع بلدان أوروبية كألمانيا وفرنسا، وكأن أشخاصا كثيرين أصيبوا بالفيروس دفعة واحدة. ما دفع الخبراء الإيطاليين لوصف الوباء بـ«تسونامي» وضع المؤسسات الاستشفائية في البلاد تحت ضغط غير مسبوق. والنتيجة كانت تضاؤل إمكانية معالجة الحالات الخطيرة بشكل جيد بسبب نقص الموارد، وبالتالي، فمن الأهمية بمكان تعبئة الدول لكل إمكانياتها بهدف إبطاء انتشار الفيروس تفاديا لـ«السيناريو الإيطالي».
في مقابلة مع دويتش فيله دعا الدكتور جياكومو جراسيلي، طبيب التخدير في جامعة ميلانو، ومنسق شبكة وحدات العناية المركزة في لومباردي، دول العالم إلى البدء في اتخاذ إجراءات جذرية من الآن لتجنب «السيناريو الإيطالي». وأكد أن «هناك خطر حقيقي للوصول إلى نقطة اللاعودة، لن تكون فيها الموارد كافية للجميع. حالة يكون فيها الطبيب مضطرا لإعطاء الأولوية في وحدات العناية المركزة للمرضى الذين لديهم أعلى فرصة للبقاء على قيد الحياة.»
ودعا جراسيلي دول العالم إلى توعية المواطنين بمخاطر الفيروس المستجد «بمجرد حصول الانتشار الأول، على الجميع تغيير سلوكهم وتغيير نمط حياتهم الاجتماعية. نظريا إذا بقي الجميع في المنزل لمدة ثلاثة أسابيع، فإن ذلك سيمنع من ظهور مصابين جدد».
ولكن من دون إغلاق كامل، ظل الإيطاليون في الشوارع. كل يوم، تظهر صور لمنتجعات التزلج المكتظة أو الأحداث الثقافية المجانية أو الأشخاص الذين يستمتعون بالمشروبات في الأماكن المزدحمة. يقول روسكوني: «لا بد أن هؤلاء الأشخاص اعتقدوا أنهم كانوا على متن التايتانيك، ولذا أمضوا وقتهم في شرب ورقص الفالس ورقصته أثناء غرق السفينة».أحد يستطيع أن يتعامل مع الطلب بعشر مرات أعلى من المعتاد».
كما أن نقص تمويل الخدمات الصحية الإيطالية ربما جعل الأزمة أسوأ، حبث يجب أن تعمل الخدمات الصحية الوطنية بنسبة 80 أو 90 في المائة من طاقتها، تاركة الباقي للتعامل مع حالات الطوارئ وذروة الطلب.
ولكن من دون إغلاق كامل في بداية التفشي، ظل الإيطاليون في الشوارع، فكل يوم، تظهر صور لمنتجعات التزلج المكتظة أو الأحداث الثقافية المجانية أو الأشخاص الذين يستمتعون بالمشروبات في الأماكن المزدحمة، ووصفت الصحافة الإيطالية الوضع قائلة: «لا بد أن هؤلاء الأشخاص اعتقدوا أنهم كانوا على متن التايتانيك، ولذا أمضوا وقتهم في شرب ورقص الفالس ورقصته أثناء غرق السفينة».
بحلول الوقت الذي قررت فيه الحكومة وضع لومباردي الأولى، ثم البلاد بأكملها تحت قفل جزئي (مع العلم إنها ليست صارمة مثل الصين، مع استمرار الإنتاج الصناعي والزراعة ونقل البضائع) في 8 مارس، زادت العدوى والعبء على الخدمات الصحية، ومات المئات في جميع أنحاء البلاد، حيث يبدو أن معدل الوفيات يصل إلى ثمانية في المائة في لومباردي، وهو أعلى بكثير من المعدل المسجل حتى الآن.
في 27 فبراير، اتخذت إيطاليا قرارًا باختبار الأشخاص الذين يعانون من الأعراض فقط، مما يعني أن البيانات الرسمية تكشف فقط جزءًا صغيرًا من المصابين. تقول كارتابيلوتا: «منذ ذلك الحين، نحن نراقب فقط قمة جبل الجليد». وبعبارة أخرى، إذا تمكنا من معرفة جميع الحالات الإيجابية، فإن معدل الفتك سينخفض.
وهذا يعني أنه من المرجح أن يكون الانتشار أكبر بكثير مما يبدو، وأن إيطاليا ليس لديها حاليًا 15113 حالة- ولكن ربما عدة آلاف أخرى. يمكن أن يحدث الشيء نفسه في دول أوروبية أخرى، والتي يبدو أنها تتبع منحنى العدوى في إيطاليا. تقول كارتابيلوتا: «سيكون لديهم عدد مماثل من الحالات». «نعتقد أنه قد يكون هناك انفجار في غضون أسبوع.»