x

«شوفنا يوم القيامة».. حكايات أهالي عزبة الزرايب عن «جحيم السيول» (تقرير)

الإثنين 16-03-2020 09:45 | كتب: محمد القماش |
نواب وقساوسة ومسؤولون حقوقيون يستمعون لمشكلات المتضررين نواب وقساوسة ومسؤولون حقوقيون يستمعون لمشكلات المتضررين تصوير : أيمن عارف

رعب يطل من أعين الصغار والكبار، الحفارات تغوص بين مياه مخرات السيول في عزبة الزرايب بمنطقة 15 مايو بحلوان، نبضات القلب تعلو والأنفاس تحبس مع كل صعود للحفارات من قلب المياه، يظن الواقفون أنها لجثمان أحد ذويهم المفقودين في حادث السيل الذي أودى بحياة 12 شخصًا حتى الآن، يتكرر الحال منذ وقوع الحادث عصر الخميس الماضى.
جرفت مياه السيل، الذي بلغ ارتفاعه نحو 4 أمتار، جثث الضحايا، كما جرفت ذكرياتهم بالعزبة، ومنازلهم البدائية المبنية من طابق واحد بالطوب اللبن، لم يُعد لتلك المنازل ذكر، جميعها استوى بالأرض، وأصبح نسيًا منسيًا.
داخل كنيسة البابا شنودة الثالث بالمنطقة، وبمسجد الرحمة الملاصق للكنسية، مع نهنهات البكاء على فقيد لم يعثر عليه، أو ضحية دفن جثمانه للتو، تسمع حكايات عن ذكرياتهم التي كانت، حتى ذكرياتهم مع السيل الأول الذي اقتحم المنطقة قبل 10 سنوات، يؤكدون: «السيل بتاع يوم الخميس دا عمرنا ما شوفنا زيه، دا إحنا شوفنا يوم القيامة، إعصار عصف بنا».
القس أثناسيوس رزق، أدى صلاة الجنازة على المسيحين بالكنسية، وشارك في جنازة المسلمين، ممن عثر عليهم في مياه السيول، والتف حوله العشرات، وهو يردد: «الكارثة لم تفرق بيننا، وعلينا التكاتف معًا»، وبوصول المسؤولين ومسؤولى المنظمات الحقوقية، شرح لهم «رزق» أن «السيول اللى جت لم نعهدها منذ سنوات طويلة، والمياه ارتفعت لـ4 أمتار عن منسوب الأرض، فأدت لتدمير كل منازل المنطقة، ومصرع 12 شخصًا، وعدم العثور على 25 شخصًا آخرين حتى الآن».
وتابع أن تلك المنطقة عشوائية يقطنها الأهالى منذ 40 عامًا، إذ تسكنها 750 أسرة، ونحو 3 آلاف شخص، جميعهم يعملون في حرفة جمع القمامة، وكنّا خلال تلك السنوات نسعى لتمكين الأهالى من الأرض.
وقف أمام المنازل المتهدمة، التي تحرسها الشرطة، وبنبرة حزن وعين تلمع بها الدموع لما آلت إليها الأحوال، يحكى «رزق» الذي تحرك إلى موقع الحادث فور وقوعه، إذ شارك الأهالى في إنقاذ المنكوبين: «السيول أدت إلى وقف الحياة تمامًا، وأن مخر السيل الموجود بالمنطقة لا يفى باستيعاب السيول التي جرفت كل بيوت المنطقة، رغم أن مخر السيل لم يمر على بنائه أكثر من عام، بتكلفة بلغت 17 مليون جنيه».
نيفين قباج، وزيرة التضامن الاجتماعى، حضرت مرتين إلى موقع الحادث، وكان القس «رزق»، في استقبالها، واستمع إلى وعودها للأهالى: «كل أسرة متضررة ستعوض بـ5 آلاف جنيه، وتمكين كل أسرة من وحدة سكنية، وإعادة تخطيط المنطقة على أسس سليمة»، لكن وعود الوزيرة، حسب «رزق» لم تنفذ، وهى «سبب حيرة وقلق أهالى الضحايا، لأنها وعود بلا تنفيذ».
كانت ملابسه ملطخة بالطين، وعيناه جاحظتين، إثر البكاء الذي بدا على وجهه المنتفخ، أحزانه لم تكتمل بعد، جاء إلى مستشفى الكنيسة، باحثًا على جثث لذويه، إذ عثر على جثتى حفيدتيه «ليالى»، 6 سنوات، وشقيقتها الرضعية «خديجة»، عامين، ولم يعثر على أم الطفلتين وشقيقهما «رضوان»، 3 سنوات، يذكر جمال أحمد، الرجل الستينى، جد الضحيتين لأبيهما، أنه يوم الحادث كان بمنزله ابنه «مصطفى»: «لينزح المياه بمنزلى بعد المطر»، وفجأة حدثت السيول، وتوجه وابنه إلى منزل الأخير، لكن تيار السيول كان أسرع منهما، فحصد أفراد أسرة ابنه الذي يعمل سائقًا «على سيارة نقل» بمنطقة التجمع الخامس، ويوم الحادث، الابن كان في إجازة «المطرة كانت مغرقة الدنيا، وكان بيقول السيول ممكن تقتحم التجمع، قام السيل جه لحد مننا».
«أحمد» يحاكى المشهد، كأنه حدث قبل قليل، يشير بيديه إلى الأمام بينما يؤكد سرعة تيار السيل، الذي سمع أنه بلغ 200 كيلومتر/ ساعة: «خرجت أنا وابنى والمياه وصلت لحد رقبتنا، وكنّا هنغرق لولا ناس سائقين سيارات حملونا بصعوبة، ولما وصلنا قرب منطقة جبلية، شوفنا منزل ابنى والمياه قد غطته».
لطم الابن لـ«أحمد» وجهه، وهال الطين على وجهه وجسده: «العيال يا أبويا ومراتى شكلهم راحوا»، يصف الرجل، حال ابنه، وهو يطمئنه: «يا ابنى يمكن حد أنقذهم، مين عالم».
مع وصول سيارات الحماية المدنية، عثر على جثتى «ليالى»، و«خديجة»، هنا أدرك والدهما أن طفلتيه وزوجته صارعن الموت، لكنه هزمهن في النهاية، كان تيار المياه شديدًا، بحيث لم تستطع أجسادهن الواهنة مقاومة التيار.
منذ وقوع الحادث، والجد وابنه يبحثان عن المفقودين، ويبكى رب الأسرة المنكوبة: «خلاص بيتى اتخرب، دا مراتى بنت عمى، حب عمرى، وحياتى انتهت فقدت أولادى كلهم»، يقطع كلامه بأنين بكاء، ثم يواصل: «حاولت أروح البيت أجيب هدومهم، بعد شفط المياه، لم أجد شيئًا، حتى ريحتهم.. عرقهم.. ذكرياتهم.. فقدتها».
كان الجد ينتظر دائمًا حفيدته «ليالى» بعد عودته من المدرسة، كل يوم: «كانت في أولى ابتدائى، ودى أول حفيدة لىّ تروح المدرسة»، بعد الحادث لم ينتظرها مرة أخرى، يناجيها: «يا ليالى كنت هوديك وأجيبك من المدرسة زى ما وعدتك آخر مرة»، ينبه الجميع إلى وصول جثمانها وشقيقتها للمسجد «تعال نصلى على الطفلتين».
على مقعد خشبى داخل كنيسة البابا شنودة، جلست حلاوتهم يوسف، السيدة الثلاثينية، متشحة بالسواد، مُحاطة بأولادها الـ4، جميعهم يبكون رب الأسرة سمعان عطا، الذي جرفته المياه أمام أعينهم، ذاكرتهم تأبى نسيان لحظات غرقه لثوانٍ معدودات، تقول الزوجة وهى تحتضن أولادها، كأنها تطمئنهم أن أحوالهم ستكون بخير بعدما فقدوا العائل الوحيد لهم: «لما جه السيل كلنا جرينا، حملت ابنى شنودة، 5 سنوات، وأمسكت بيدى ابنى كرولس، 8 سنوات، وبنتى ديمانا، 13 سنة، وجرينا ناحية بيتنا جارنا أبوجرجس، علشان نحمى نفسنا من المياه الجارفة».
وحين نظرت «حلاوتهم» خلفها بعد وصوله إلى منزل جارهم عند قمة جبل، شاهدت زوجها «سمعان»، وهو يصارع الموت، فلم يستطع اللحاق بهم، فنادته وأولادها: «اجرى.. اجرى»، فكما تقول «زوجى مُصاب بتشنتجات عصبية، وحركاته ضعيفة قوى، وفى الأيام الأخيرة مكانش بيعرف يشتغل في جمع القمامة».
منذ 20 عامًا، وتقطن أسرة «سمعان» بالمنزل المنكوب، والمكون من طابق واحد، كحال باقى المنازل، تذكر «حلاوتهم»، تاريخ مجيئهم من سوهاج، إلى عزبة الزرايب، وتحكى أن الضحية هو ابن عمومتها وحبيبها الذي لم تستطع الاستغناء عنه لو لساعة واحدة، باكية: «فقدته طول العمر، دا لما كنت بأسافر البلد يومين، كان كل شوية يتصل عليّا، ويقول لىّ: «البيت من غيرك مش نافع، وكنت باجى على طول».
حين حضرت «دينا»- 18 عامًا-، وهى ابنه الضحية سمعان، إلى الكنيسة، لتشييع جثمان والدها، أمسكت بالنعش، ورددت كلمات، كأنها تتحدث إليه ويسمعها: «يا حبيبى يا أبويا، مش انت قلت لىّ هتعمل سبوع بنتى لما أولد بعد شهر، ليه تسيبنى وتمشى، مش تشوف أول حفيدة لك»، تٌصاب بإغمائه، ثم يفيقها الناس: «هو شهيد، إهدى علشان اللى في بطنك».
وبينما تتوقف الابنة عن البكاء، تصرخ عمتها ثينا، وتسرد اللحظات الأخيرة في حياة أخيها سمعان، بمزيد من الأسى: «كان عندى يوم الطوفان، وشرب الشاى، وقلت له: اقعد شوية معايا، فقال لى: هروح أشوف العيال، وبعد نصف ساعة سمعت خبره».
جالسة على دكة خشبية بالكنيسة، تردد أدعية دينية، وتطلب النجاة لكل الناس، وتسبق كلماتها الدموع، وهى تواسى الجميع، كانت قمرة زكى يعقوب، السيدة السبعينية، ضمن المتضررين جرّاء الحادث، والقدر أنقذها وزوجها سمير وجيه، ونجلهما شنودة، من ذوى الإعاقة الذهنية، تحكى العجوز: «لما جه الطوفان، لقينا ناس دخلت شالتنا وجريوا بينا على هنا».
منذ وقوع الحادث، تنام العجوز وزوجها وابنهما بمقر الكنيسة، بعد انهيار منزلهم، فهى تشكر القدر لإنقاذهم من موت محقق: «دا ربنا اللى رأف بينا، إحنا التلاتة عاجزين عن الحركة»، تشير إلى نجلها «شنودة»: «ده لا يدرك شىء، ممكن يشوف الميه جايه عليه، ولا يفهم الخطر».
يقول الزوج «سمير» إنه يعمل بمجال جمع البلاستيك ويمتلك عربة كارو «راحت في السيول»، وأنه لا يملك مصدرًا آخر للكسب، ورغم سنه الكبيرة إلا أنه العائل الوحيد لأسرته «إحنا ناس غلابة، ولو قعدت يومين نموت من الجوع، الناس فاكرة أهل العزبة أغنياء من جمع القمامة».
«هى الوحيدة التي كانت بالمنزل، كلنا كنّا في الكنيسة»، قالها جميل لطيف، الرجل الستينى، صاحب كشك بيع الحلوى داخل كنيسة البابا شنودة، قبل أن يضيف: «مراتى سهير ظريف، الطوفان جرفها، وهىّ قاعدة في البيت، وماتت ومش لقينا جثتها لحد دلوقتى».
ليلة الحادث، يذكر «جميل» بأسى: «ابنى صبرى، ومؤمن، كانوا معايا في الكنيسة بيصلوا، وزوجة ابنى المتوفى ميريان ميلاد، كانت بتصلى، وتركنا مراتى في البيت لأنها عاجزة عن الحركة».
فوجئ «جميل» أثناء وقوفه بالكشك بحالة هرج ومرج، وناس تصرخ وتستغيث، ويقولون: «إلحقوا الطوفان»، ارتاب وخفق قلبه، وهو يهرول ناحية منزله: «يارب جيبها سليمة وتكون مراتى بخير»، وأثناء سعيه إلى المنزل، سقط على الأرض، ووسط المياه 3 مرات «الموت كان بيلاحقنى، ولما وصلت قرب البيت، الناس حملونى للكنسية تانى، وعرفت إن مراتى غرقت».
يذكر الرجل الستينى، حياته مع زوجته المفقودة: «عايشة معايا بقالها 40 سنة، دا بنت عمى ومراتى، وكل حاجة في دنيتى»، تنتابه حالة هستيرية: «إيه فايدة كل الكلام دا، عاوز مراتى».
على بوابة مستشفى الكنسية، وقف جميل ثابت، يبكى أخته «مريم» التي فقدت جراء السيول، وابنتها مهرائيل بولس، 14 سنة، التي لقيت مصرعها، وقبل تشييع جثمان الأخيرة، تعالت أصوات والدها الذي أنقذه الأهالى من موت مؤكد: «يا بنتى ليه سبتينى أنتٍ وأمك، أنا متعذب من غيركم».
كان الشاب «جميل» يميل على زوج شقيقته، ويحاول مواساته، لكنه سرعان ما ينهار مرة أخرى، ويحكى مأساة الحادث: «الناس أنقذوا زوج أختى وحملوه الشباب لما شافوه لأنه عارفين أنه عاجز عن الحركة لإصابته بغضروف»، ليشير إلى أن رب الأسرة الناجى من الموت، لم يستطع لمرضه أن يحمل زوجته وابنتهما، ويلوذ بهما من السيل العارم.
«فقدت مبلغ 100 ألف جنيه، وسيارتين بمبلغ 200 ألف جنيه»، يقول جرجس نصير إنه خسر كل أمواله جراء السيل، وإنه مدين لأحد التجار بـ75 ألف جنيه «ممكن اتحبس في أي لحظة»، لكن كل هذا لم يساو شيئًا في مأساته الحقيقية «فقدت أغلى ما أملك، حفيدتى بنت ابنى عمرها 6 سنوات، ومش لقيناها لحد دلوقتى».
الأطفال والرضع وكبار السن، كانوا يفترشون الأرض، والدكك الخشبية، كل يغط في نومه، بعد ساعات عديدة من البحث عن المفقودين، ولايزال رجال الحماية المدنية يواصلون أعمالهم بالمنطقة المنكوبة، للبحث عن المفقودين بين مخر السيول، فيما تلاحقهم أعين الأهالى المتضررين.
الأهالى أشادوا بما سموه «الدور البطولى» للقس «رزق»: «منع وقوع كارثة، أول ما السيل حدث، جرى على الأهالى، وقال لهم تعالوا كلكم الكنيسة».
على الجانب الآخر من المأساة، تتوافد مساعدات من الجمعيات الخيرية وغيرها للأهالى المنكوبين، والذين ينامون داخل كنيسة البابا شنودة، ومسجد الرحمة، ووزعت سيارات تابعة للقوات المسلحة والشرطة الإعانات العينية على الأهالى المتضررين.

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية