تفرض حادثة مسرح بني سويف علينا، إحترامًا لذكراها، أن نفتح ملف السياسات الثقافية في مصر. فلم يكن ما حدث مقطوع الصلة بمسيرة طويلة من التحيز الثقافي ضد الأقاليم لصالح أضواء المدن الكبرى وقيم تسليع الثقافة والمظهرية الكاذبة. فلولا الانتقال المؤلم من منظور «الثقافة للشعب» إلى منظور «الثقافة للنجوم»، لما كان مسرح بني سويف قد وصل إلى هذه الحالة المزرية من الإهمال. ولولا فساد نظام بأكمله، لما كان الفاعلون الأصليون في جريمة بني سويف طلقاء حتى يومنا هذا يمارسون إجرامهم الثقافي على أبناء شعبنا المظلومين.
من ناصر إلى مبارك
شهدت السياسة الثقافية فى مصر تغيرات جذرية على مدار الستين سنة الماضية ارتبطت بشكل أساسي بالتحولات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي شهدتها البلاد خلال تلك السنوات.
فخلال الفترة الناصرية، التى شهدت إنشاء أول وزارة للثقافة عام 1958 باسم «وزارة الثقافة والإرشاد القومى»، كان هناك اهتمام كبير بإنشاء بيوت للثقافة في مختلف المحافظات تطبيقًا لسياسة «الثقافة للشعب» التي كانت سائدة آنذاك. كذلك حرصت المؤسسات الثقافية تحت إشراف الوزارة الجديدة على الاهتمام بالتراث الشعبي عبر تشجيع المشاريع والفرق الفنية ومن أشهرها فرقة رضا للرقص الشعبي.
طبعًا كان الثمن هو «تأميم الثقافة» التي أصبحت واحدة من أدوات الدولة في توحيد الشعب وراء خط النظام بلا أي مساحة للنقد أو المعارضة. وهكذا أصبح المثقفون، بشكل متزايد عن أي فترة سابقة، عمالًا لدى الدولة ينشطون في إطار خططها ويعملون في سياق منظومتها.
ثم جاءت فترة الانفتاح فى عهد السادات، تلك الفترة التي شهدت تحولًا جذريًا ليس فقط فى التوجهات السياسية للنظام الحاكم، وإنما فى المجتمع المصرى بأسره من حيث انتشار الفكر السلفي الوهابي القادم من السعودية فى مواجهة مع التيار اليساري، فى الوقت الذى شجع فيه الحكم على نظام السوق الحر في كل المجالات ومنها الثقافة، فانتشرت مثلًا المسارح السياحية الصيفية التي قدمت أردأ أنواع الفن لتسلية الأثرياء العرب في مصايفهم.
وبتولى مبارك الحكم فى عام 1981، رسخت سياسة الخصخصة والليبرالية الجديدة وامتدت آثارها إلى كل الأصعدة. حيث حرص النظام بكافة مؤسساته على تحويل الخدمات الأساسية، ومن بينها الثقافة، إلى مجرد وسائل ترفيه لقلة لا تتعدى 2% من المجتمع، مقابل تهميش باقى الطبقات، فأصبحت الثقافة سلعة تباع للنخبة أو من يطلق عليهم «كريمة المجتمع».
وهكذا أصبحت الثقافة بعيدة عن الشعب، ليس فقط لأنها أصبحت سلعة تقدم فقط لمن يمتلك ثمنها، ولكن أيضًا لأن مجتمع الليبرالية الجديدة فرض على الكادحين وعيًا رجعيًا يزدري الإبداع ويشكك في منتجيه.
فقر المال وفقر الفكر
تكشف دراسة قام بها مجموعة من الباحثين فى إطار مشروع «السياسات الثقافة بالدول العربية» الذي أطلقته «مؤسسة المورد الثقافى» عن عدد من الحقائق المفزعة التي تتعلق بالثقافة في مصر. فميزانية الثقافة لا تزيد على 0.4 % من إجمالي الموازنة العامة للدولة، وهو رقم هزيل إن قورن بمثيله في عدد من البلدان، ومن بينها بلدان تنتمي إلى العالم الثالث.
يتم صرف ميزانية وزارة الثقافة على 11 قطاع ثقافي تابع لوزارة الثقافة منها المجلس الأعلى للثقافة، المجلس الأعلى للآثار، والهيئة العامة لقصور الثقافة، وغيرها من الهيئات والمؤسسات. لكن قليل من الفحص يكشف لنا أن توزيع تلك الميزانية يعكس احتقارًا تامًا من قبل الدولة لمنظور «الثقافة للشعب» الذي تم تطبيقه جزئيًا وبشكل مشوه في سنوات الستينيات. فمخصصات هيئة قصور الثقافة التى طالما لعبت دورًا كبيرًا فى نشر وإيصال الثقافة لمحافظات وقرى مصر لم تزد في عام 2001 /2002 المالي عن 13.3% من إجمالي الميزانية الثقافية، وهو ما عنى أن نصيب الفرد من الشعب العادي من الخدمة الثقافية الحكومية لم يزد عن ما بين جنيه إلى جنيهن على مدار السنة.
قلة الموارد المتاحة انعكس بدوره فى انخفاض عدد قصور وبيوت الثقافة من 527 عام 1995 إلى 428 عام 2008، وذلك رغم التزايد الرهيب في أعداد السكان.
ومن ناحية أخرى، فإن النسبة الأكبر من ميزانية الثقافة في كافة المجالات يتم صرفها على أجور الموظفين وليس على ممارسة النشاط الثقافي، ورغم ذلك فإن الأوضاع الاقتصادية للعاملين بالثقافة سيئة إلى أبعد حد. فعلى سبيل المثال، يشير بيان الإنفاق للبيت الفنى للفنون الشعبية لعام 2009 /2010 أن إجمالي أجور العاملين بلغ 18,881,000 جنيهًا من إجمالى إنفاق قدره 31,295,000 جنيهًا، أي أكثر من النصف بكثير.
والأنكى أن موظفي وزارة الثقافة، في أغلبهم، غير مؤهلين للقيام بأدوارهم «التنويرية» الخطيرة. فبدءًا من عصر عبد الناصر، ومرورًا بعصر السادات، وانتهاءً بعصر مبارك، كانت السياسة الثابتة هي توزيع الخريجين على الوزارات بدون أي معايير. فتحول العمل في وزارة الثقافة إلى مجرد وظيفة لا تتطلب توفر المعرفة والوعى الثقافى والرؤية لإحداث تغيير. وهو ما نتج عنه جيش من الموظفيين يذهبون يوميًا إلى أعمالهم البيروقراطية، ولا شيء أكثر من ذلك.
عصر فاروق حسني
تولى فاروق حسني وزارة الثقافة لأكثر من عشرين عامًا. وخلال تلك السنوات، التي اشتهر فيها بأنه من محاسيب «الهانم» سوزان مبارك، عمل حسني على ترسيخ مفهوم «الثقافة كسلعة». إذ أصبح جزءًا كبيرًا من ميزانية الثقافة يصرف على أمور شكلية تضمن تحقيق الربح من ورائها.
تذكر دراسة السياسات الثقافية أنه فى عام 1997 تم ترميم ما يقرب من 186 أثرًا إسلاميًا وقبطيًا. وبغض النظر عن شبهات الفساد المصاحبة للعملية، فإنه لم يتم أي جهد مواز لتطوير البناء الإداري للمؤسسات الثقافية الحكومية لتحويل هذا الجهد في الترميم إلى ذخيرة لتطوير وعي الشعب التاريخي. فقط كان الترميم عملًا من ضمن أعمال التعامل السياحي مع الآثار بوصفها سلعة قابلة للترويج عالميًا.
كذلك اعتمدت الوزارة على سياسة الشو الإعلامي كأساس لمنهجها في التعامل مع الملف الثقافي. فقامت بإقامة عدد كبير من الفاعليات والمهرجانات بالعاصمة أو بمحافظات سياحية مثل الإسكندرية دون الإهتمام بإقامة أنشطة ثقافية فى باقى المحافظات، وهو ما انعكس في فقر ثقافي مدقع في الأقاليم ترجم نفسه، من ضمن ما ترجم، في كارثة مسرح بني سويف.
ضوء كاشف
دفع مبدعو مصر وفقراؤها ثمن سياسات مبارك-حسني الثقافية. فمن ناحية المبدعين، كان الهم الأكبر للوزارة هو إيواء المثقفين في «حظيرة» الدولة من خلال سياسات الجزرة والعصا، تارة بالمناصب وتارة بالنشر وتارة بغيرها من الأدوات التي تتحكم فيها وحدها الدولة. أما من ناحية الكادحين، فقد تركزت الأنشطة الثقافية في المناطق السياحية والعاصمة وأصبحت الثقافة أحد مظاهر الوجاهة لحرم الرئيس، ولم يترك متنفسًا ثقافيًا واحدًا للفقراء.
من هنا يصح القول أن حادثة مسرح بنى سويف مثلت مجرد ضوءًا كاشفًا فضح ما وصلت إليه حالة الثقافة من ترد على المستوى السياسي والإدارى والخدمى. كذلك عبرت الحادثة عن أزمة حقيقة لدى المبدعين فى التعامل مع بيروقراطية الدولة. إذ يمكننا القول، آسفين، أن المبدعين شاركوا، دون وعي، في ارتكاب جريمة قتلهم، وذلك بقبولهم العمل فى ظروف غير آدمية أجبروا فيها على المخاطرة لتقديم فنهم.. فكان الموت هو الضريبة التي دفعوها لقاء إبداعهم.