خلف نافذة زجاجية وقفت بجسدها النحيل تسترق النظر إلى رفيقاتها يلعبن بالكرة، تتعالى ضحكاتهن، تنظر إليهن بشغف، تسرع إحداهن إليها لتدعوها للعب، تصمت وتتذكر لحظات لهوها مع قريناتها فى الشارع، أوقات جميلة مضت لم تعد إلا مجرد ذكرى، لينقطع حبل ذكرياتها على صوت أمها تهمس فى أذنيها «لازم ننام بدرى يا حبيبتى علشان ورانا جلسة بكرة الصبح». تنحنى بانكسار وتلقى نظرة على آثار عملية قسطرة أجرتها فى رقبتها ويدها اليمنى.
هنا فقط تتذكر نبيلة أحمد أبوراية، بنت الحادية عشرة مشوارها الطويل الذى يبدأ بخروجها من منزلها بقرية «محلة دياى» التابعة لمركز دسوق بمحافظة كفر الشيخ، مع أول شعاع من ضوء النهار، متجهة إلى محافظة الإسكندرية، تسير بجوار أمها وتصعد سيارة أجرة اعتادت ركوبها منذ ما يقرب من العام، تصل إلى مبنى ضخم مزدحم لترقد فى حجرة ضيقة على سرير تتشابك فوقه أسلاك الكهرباء، ترقد عليه ثلاث ساعات كاملة لينتهى يومها بتعب شديد وعدم قدرة على السير فتحملها أمها بين ذراعيها وسط دعاء المارة لها بالشفاء.
تسافر «نبيلة» إلى مستشفى التأمين الصحى بالإسكندرية ثلاث مرات أسبوعياً لإجراء غسيل كلوى بسبب إصابتها بفشل كلوى مزمن، وهى ليست وحدها المصابة بالفشل الكلوى فى قريتها «محلة دياى»، وإنما أصبحت القرية، التى يقطنها ما يزيد على 50 ألف نسمة، والتى تشتهر بالثروة الحيوانية وزراعة جميع المحاصيل الزراعية وتربة خصبة للأمراض، فلا يخلو منزل فيها من مصاب واحد على الأقل بمرض يسببه تلوث المياه، من نزلة معوية إلى فشل كلوى، أقعده فى منزله ما بين أسبوع وشهر، يتنقل فيها ما بين الوحدة الصحية بالقرية وأطباء مركز دسوق.
كان من الصعب توجيه أصابع الاتهام إلى أى جهة دون الاستناد إلى دليل، لذلك انتقلت «المصرى اليوم» إلى القرية لتقف على حقيقة تلوث مياه الشرب بها، وأخذنا 3 عينات من مياه الحنفيات الواصلة لثلاثة منازل غير متجاورة لا تعتمد على تخزين المياه فى خزانات أعلى أسطحها، وتم سحب العينات حسب المواصفات القياسية لمعمل التحاليل الدقيقة، أى فى زجاجة مياه كبيرة يتم حفظها فى درجة حرارة منخفضة لمدة 24 ساعة، واتجهنا بها إلى معمل تحاليل بجامعة القاهرة الذى أثبت بعد إجراء التحاليل المعملية أن زجاجات المياه ملوثة وتحتوى على مادة «السيانيد» التى تؤدى إلى الوفاة فى حالة امتصاصها فى الأمعاء، إلى جانب بكتريا مسببة للأمراض، ونسبة مرتفعة من البكتريا والطحالب.
عدنا للقرية مرة أخرى، بعد الانتهاء من التحاليل إلى منزل نبيلة أبوراية، بيت من
طابق واحد، يشترك فى سكناه الإنسان والحيوان، اعتادت أسرة أحمد أبوراية، أحد أهالى القرية، على أسلوب حياة لا يتغير، فالأم التى فقدت زوجها منذ عشر سنوات أصبحت تلعب دور الأم والأب فى وقت واحد، لتقوم بتربية أبنائها الخمسة بمعاش شهرى لا يتجاوز 130 جنيهاً، بجانب تربية عدد من الماشية لأهالى القرية تتحصل منها على بضعة جنيهات إضافية. ووسط هذه الظروف الصعبة فاجأ المرض الأسرة المنكوبة دون استئذان العام الماضى.
لم يمنعها يقينها بأن تلوث مياه الشرب هو السبب الرئيسى وراء إصابة ابنتها بالفشل الكلوى من الاستمرار هى وأسرتها وحتى طفلتها المريضة فى شرب المياه القاتلة، فأصبحت إضافة إلى مآسيها تنتظر متى سيطرق المرض بابها مرة أخرى، فهى لا تستطيع الانتقال للحياة فى قرية أخرى أو شراء مياه شرب نظيفة لأبنائها. لكن الأمل لم يفارق أم نبيلة.. تقول: «عندنا أمل إن حالنا يتغير، إحنا مش طالبين نعيش حياة كريمة زى باقى الناس، بس نفسنا فى شربة مياه نظيفة».
وأكد الدكتور ممدوح أحمد عبدالرحيم، أستاذ بكلية العلوم، نائب مدير مركز البحوث الدقيقة بجامعة القاهرة من واقع أوراق التحاليل الرسمية تلوث مياه الشرب بقرية «محلة دياى»، قائلا إنها تحتوى على مادة «السيانيد» التى تمنع مرور الدم فى الجسم، وهى من المواد التى تتسبب فى إحداث الوفاة فى حالة امتصاص الأمعاء لها، مشيراً إلى أنه يمنع الفنيين من التعامل مع هذه المادة داخل المعامل فى حالة إصابة الفنى بأى جرح، لأنها تتعامل مع الحديد الموجود فى دم الإنسان وتسبب الوفاة.
انحناءة ظهره وصعوبة سيره تجعله يبدو أكبر من سنه بكثير. لم يتجاوز جمعة أبو عميرة أحد أهالى القرية، الستين من عمره، لكنه مصاب بتليف فى الكبد وفشل كلوى أقعده عن العمل منذ سنوات. يصف «أبوعميرة» معاناته من شرب المياه الملوثة قائلا: «المية بشربها وأنا نفسى قرفانة منها، بقالنا 3 سنين مش عارفين نشرب مية نظيفة، إحنا غلابة ولا نملك ثمن فلتر ننقى به المياه، نتركها ترَقَدْ فى الزير لمدة يومين (لتترسب الشوائب).
ولمزيد من التأكد اصطحبت الصحيفة الحاج جمعة أبوعميرة واثنين من أهالى القرية يمثلون ثلاث شرائح عمرية مختلفة إلى «الهيئة العامة للمستشفيات والمعاهد التعليمية» بكفر الشيخ، والتى تبعد عن القرية 30 كيلومتراً، لتوقيع الكشف الطبى عليهم والتأكد من سبب إصابتهم، وعما إذا كان مرضهم ناتجاً عن مياه الشرب الملوثة، أم أنه يعود لأسباب أخرى لا تتعلق بالمياه.
الأول كان الحاج «جمعة»، الذى يبلغ من العمر 55 عاماً، يبدو نحيفاً ويعانى من الوهن، الفقر والتعب والإعياء أهم ملامح يمكن أن تقرأها بسهولة على وجه الرجل الذى يعول 5 أبناء وأحفادهم الـ«7».
التقينا الدكتور على السيد، الطبيب المختص بالمعهد، ولم نخطره بأننا صحفيون، وطلبنا منه بشكل طبيعى أن يوقع الكشف الطبى على الحاج «جمعة» ويحدد أسباب المرض، فأمر بإجراء بعض الأشعة والفحوصات لاستبيان طبيعة المرض وأسبابه، قبل أن يطلب عودتنا مرة ثانية بعد اجراء الأشعة.
وبالفعل توجهنا إلى قسم الأشعة بالمعهد القومى للكلى والمسالك البولية بنفس المعهد، وخضع المريض للفحوصات بعد تسديد الرسوم الخاصة، وبعد يومين خرجت الأشعة والفحوصات وكشفت عن إصابة المريض بالفشل الكلوى.
حملنا الأشعة وتوجهنا إلى الطبيب والذى أكد أن المريض يحتاج إلى عمليات غسيل كلوى بشكل دورى وأن السبب وراء ذلك هو المياه الملوثة، ونصحه الطبيب بألا يشرب من مياه الحنفية.
كررنا نفس التجربة مع «بُشرى رشاد»، 45 عاما، توجهنا بها إلى طبيب ثان بالمعهد الحكومى يدعى الدكتور أحمد مراد، وأخبرناه أن السيدة تعانى من آلام فى البطن وتشتكى طويلا، فوقع الكشف الطبى عليها، وطلب فحوصات وأشعة. وتوجهنا إلى معمل تحليل ثان حاصل على شهادة ضبط الجودة البريطانية ويديره الدكتور سعد الصياد، وأجرينا الفحوصات وخرجت النتيجة تؤكد أن السيدة تعانى من فشل كلوى وفيروس سى، ووصف لها الطبيب بعض الأدوية، واعتقد أننا أبناؤها فقال لنا إنها تحتاج إلى عملية جراحية، وسألناه عن سبب إصابتها بالفشل الكلوى فرد بشكل قاطع: «أكيد من المياه الملوثة أو المأكولات التى لا تغسل بشكل جيد».
التجربة الثالثة كانت للشاب «عادل يوسف»، لم تتجاوز سنه الثلاثين عاما، ولكن ملامحه توحى وكأن عمره تجاوز الخمسين، توجهنا به إلى طبيب ثالث، وطلبنا الكشف على الشاب، فطلب أيضا أشعة وفحوصات، وذهبنا إلى مركز تحاليل ثالث، وأجرينا الأشعة والتحاليل التى أثبتت إصابته بالفشل الكلوى الذى نسبه الطبيب إلى المياه الملوثة.
الدكتور محمد جمال السعدى، أستاذ أمراض الكلى بقصر العينى الفرنساوى، أكد أن نتائج تحليل عينات المياه فى قرية محلة دياى بكفر الشيخ تحتوى على نسبة من المواد الكيماوية والأملاح الثقيلة التى تؤدى إلى قصور فى وظائف الكليتين والتهاب فى نسيجهما، ويتم ذلك من خلال تخلل السموم والبكتريا إلى الكلى عن طريق شرب المياه الملوثة وهو ما يؤدى لزيادة نسبة الإصابة بالفشل الكلوى.
ولم يستبعد «السعدى» أن يكون وجود هذه المواد فى العينة ناتجاً عن اختلاط مواسير الصرف الصحى بمواسير شرب المياه بالقرية، مطالبا بالإسراع بمعالجة مياه الشرب فى أقرب وقت «لأن التراخى لن يؤدى فقط لزيادة حالات الإصابة بالفشل الكلوى، وإنما سيمتد لأمراض الالتهاب والتليف الكبدى، وتحديداً فى صفوف الأطفال نظراً لضعف أجهزتهم المناعية».
جملة «السعدى» فتحت الطريق لزيارة مدرسة «محلة دياى» الإعدادية المشتركة حيث يغطى العفن والفطريات اللون الأبيض لأحواض المياه بطبقة خضراء، تنبعث منها رائحة كريهة تزكم الأنوف.
لا يمر يوم واحد إلا وتذهب بأحد أبنائها إلى طبيب الوحدة الصحية، فإصابة أبنائها بنزلة معوية من حين لآخر لم تعد أمراً يصدمها بسبب تلوث مياه الشرب، التى تكلفها فاتورة علاج قد تتخطى معاش زوجها الذى لا يفى باحتياجاتها الأساسية.. هى أم هدير، الزوجة الشابة التى توفى زوجها منذ عدة سنوات تاركاً لها حملاً ثقيلاً من ثلاثة أبناء فى أعمار مختلفة.
وحول محاولاتها تنقية المياه تقول أم هدير: «أحاول تنقية المياه من خلال ملء القلل فى المساء من أجل ترسيب المياه، ورغم ذلك تظل رائحة المياه كريهة ولونها متغيراً إلا أنها الوسيلة الوحيدة أمامى، وحتى بعد غلى المياه لا يتغير لونها، فقمت بالاتصال بالخط الساخن للمياه، وأخبرت أحد المسؤولين عن شكوكى باختلاط مياه الشرب بالصرف الصحى، وبعد زيارة للقرية والحصول على عينة من مياه الشرب، نصحنى بعدم الشرب منها أو استخدامها فى طهى الطعام، لأنه مهما حاولت تنقيتها من خلال غليها فلن يفيد ذلك بشىء».
«بطنى وجعتنى من المية، ونفسى أشرب كوباية مية نظيفة» بهذه الكلمات عبرت إسراء مهدى، بنت التاسعة، عن مدى اشتياقها لشرب كوب ماء نظيفة من صنبور منزلها لتقول بكلمات عفوية: «المية ريحتها وحشة، وأنا دايما أشوفها معكرة، وبموت من العطش فى المدرسة بس بخاف أشرب علشان ميجليش تيفود زى صحابى وأروح المستشفى».
وأرجعت فيفى محمد، طبيبة الوحدة الصحية بالقرية، أسباب انتشار الفشل الكلوى والتيفود والصديد إلى تلوث مياه الشرب قائلة: «يتوافد العشرات من أهالى القرية يومياً على الوحدة الصحية لصرف أدوية لعلاج أمراض ناتجة عن شرب المياه الملوثة مثل النزلات المعوية الحادة، وأقوم بتحويل مصابى الفشل الكلوى إلى المستشفيات العامة، لأن العيادة الخارجية لا تصرف أدوية الأمراض المزمنة، على الرغم من مناشدتنا وزارة الصحة بصرف هذه الأدوية بسبب تزايد أعداد المرضى بالقرية يوماً بعد يوم».
قال أبو المكارم محمد، أحد أهالى القرية، موظف بوزارة الشباب: «أمرض كثيراً، وكل مرة تبدأ معاناة المشاوير بين التأمين الصحى بالقرية ومركز دسوق والأطباء بمحافظة الإسكندرية، أنفق على علاجى من راتبى الذى لا يتعدى 800 جنيه فقط، إضافة إلى جميع التحاليل والتى لا يتحمل منها التأمين الصحى شيئاً سوى تحليل صورة الدم فقط». وشكا من أن «شركة المياه كانت السبب فى مرض أهالى القرية ولم تتوقف عند هذا الحد بل قامت بزيادة الرسوم إلى الضعف منذ أربعة أشهر، وياليتهم قطعوا المية عن القرية بدلاً من تركها ملوثة كنا وقتها اتصرفنا واشترينا المية بالفلوس».
وتابع «أبوالمكارم»: «نعيش على شرب مياه ملوثة منذ سنوات ولكنها لم تكن ملوثة إلى حد اختلاطها بمياه الصرف الصحى، وهو ما حدث قبل نحو 3 سنوات عندما قررت شركة مياه الشرب تحديث مواسير المياه، ومع الأيام الأولى لتركيب المواسير الجديدة فوجئنا بانسدادها بالرمل والزلط والمخلفات، مما دفع العمال بشركة مياه الشرب التوقف عن العمل لحين تنظيفها من جديد ولم يتغير الأمر منذ لحظتها».
تلوث المياه بقرية «محلة دياى» روج لمشروعين الأول هو تجارة «الزير» و«القلة»، فأمام كل منزل داخل القرية ترى زيراً ضخماً مغطى بقطعة من الشاش، فهو الحل الأرخص لمواجهة تلوث المياه فى القرية، يقوم أهالى القرية بتخزين المياه فيه لمدة يومين من أجل «ترقيد» الشوائب.
طالما راودته فكرة تنقية مياه الشرب لأبنائه بطريقة غير مكلفة، فلم يجد أمامه سوى «زير.. لقاطة، وهى قطعة من الفخار تحتجز الشوائب العالقة فى المياه.. خرطوم.. حنفية» هى مقومات الحاج مغازى البشبيشى، أحد أهالى القرية، بعد تجاهل المسؤولين فى المحافظة وشركة مياه الشرب أزمة تلوث المياه بقريته على حد قوله، فقرر الاعتماد على نفسه فى تنقية المياه.
المشروع الثانى لمواجهة الأزمة يبدأ بلافتة تغطيها عوادم السيارات فى مدخل القرية، عبارة عن دعوة من أحد الأهالى بنسيان دور الحكومة فى توفير مياه نقية، والاعتماد على أنفسهم من خلال مشروع أهلى يوفر لهم كوب ماء نظيفة. دعا أحد سكان القرية للمشروع الذى يتلخص فى جمع 35 جنيهاً شهرياً من كل منزل مقابل حصول كل مشترك على 20 لتراً من المياه النظيفة يومياً.
أما شركة المياه الحكومية، التى يلقى عليها الأهالى باللوم فيما وصل إليه حال المياه، فقد رد رئيسها، اللواء محمود فؤاد عبدالرحمن، رئيس مجلس إدارة شركة مياه الشرب والصرف الصحى بمحافظة كفرالشيخ، الاتهام إليهم مرجعاً تغير لون المياه ورائحتها الكريهة إلى «إلقاء الأهالى الأسماك والحيوانات النافقة فى الترع والمصارف»، وعندما واجهناه بالقول إن الأهالى لا يشربون المياه من الترع والمصارف، غير اتجاه الحديث قائلاً: «المحافظة كانت تعانى فى الفترات الماضية فى الحصول على مياه شرب نقية بسبب طبيعتها الخاصة دون باقى محافظات الجمهورية لكونها تقع على نهايات الترع والمصارف، الأمر الذى يتطلب مراحل تنقية أكثر للمياه».
وحول اتهام أهالى قرية «محلة دياى» الشركة بعدم القيام بواجبها فى تنقية مياه الشرب، الأمر الذى تسبب فى انتشار الأمراض بالقرية، نفى «عبدالرحمن» ذلك الاتهام مؤكداً أن الشركة قامت باستبدال محطة مياه الشرب القديمة بالقرية وأقامت محطة جديدة، التى كان من المفترض افتتاحها منذ عدة أشهر، إلا أن خطأ مهنياً فى العمل من جانب المقاول تسبب فى تأخير تشغيل المحطة، وتم التعامل مع هذا الخطأ، ويعتمد الأهالى حالياً على خط مياه من قرية مجاورة، مؤكداً أنه سيتم افتتاح المحطة فى القريب العاجل، لكنه لم يحدد متى يكون هذا القريب العاجل.