إذا أخبرت أحد أصدقائك في هذا الصباح أن «مايكل كلارك دنكان» قد توفى، فإن الاسم لن يترك في أذنه أي رنين، ربما يظن فقط أنه أحد لاعبي كرة السلة في دوري المحترفين الأمريكي، لكن لو أخبرته المعلومة بشكلٍ آخر، وقلت له إن «الرجل الأسود الضخم في فيلم The Green Mile قد توفي» فإنه سينتبه لجملتك ببعض الحزن.
من النادر أن يحقق ممثل احترف التمثيل في مرحلة متأخرة من حياته، وظل دائماً في الظل، تِلك الشهرة والمحبة الحقيقية في قلوب الجماهير بدورٍ واحد، ربما لأن هذا هو الدور الذي يحتاجه «دنكان» ليعكس مسيرة حياته كلها.
الطفل الذي وُلِد في شتاء ديسمبر عام 1957 لأسرة فقيرة بولاية «كاليفورنيا» لم يحتج الكثير من السنين كي يُدرك أنه سيكون المسؤول المباشر عن أسرته الصغيرة المكونة من أمه وأخته، وذلك بعد وفاة والده وهو لم يزل طفلاً، الأم حاولت تحمُّل المسؤولية، العمل كـ«خادمة» في بيوت «الأسياد البيض» كمهنة وحيدة متاح لسيدة أربعينية سوداء في ستينيات أمريكا العنصرية، لكن سقوطها بمرض السرطان منعها حتى من ذلك، ليصبح «دنكان» أمام المصير المُقدَّر له.
ترك دراسته الجامعية، وقرر العمل ليتحمل أعباء الأسرة، في البداية كان يُريد أن يصبح لاعباً لكرة القدم الأمريكية، لكن والدته التي كانت –وظلّت- الشخص الأهم في حياته رفضت هذا الأمر بشكل حاسم خوفاً من إصابته وفقده، ولذلك تخلّى عن حلمه الأول وفكّر في مطاردة حلمه الثاني أن يصبح ممثلاً في عصر ما بعد «مارتن لوثر كينج» الذي منح السود الحق في الحياة و«سيدني بواتيه»، الذي رَفع سَقف أحلامهم لحد أن يصبحوا نجوماً في السينما، لكن مرة أخرى وقفت الأم أمام حُلم «دنكان» لأنه كان خيالياً بالنسبة لها إلى حد غير مقبول، أشبه بمُطاردة ضال في صحراءٍ بعيدة، وكان الأقرب هو دَفع الابن الباقي إلى خيارات «عادية».
و«دنكان» قرر أن يجعل الأمر حُلماً مؤجلاً، وأن يرضخ لذلك الواقع الفاتر إرضاءً للشخص الأحب إلى قلبه، استغل جسده القوي والضخم في أن يعمل حَفّاراً في أحد المناجم، أو حارسا بملهي لَيلي، يَعول الأسرة ولا يُبقي للحُلم في نَفسه إلا الذهاب في عُطلة نهاية كل أسبوع إلى دور السينما، يشاهد أفلام «دينزل واشنطون» و«مورجان فريمان» و«إيدي ميرفي» و«جيمس إيرل جونز»، ويفكَّر –كل مرة- أنه كان يستحق فرصة.
وفاة الأم جعلت «دنكان»، بعد تجاوز الحُزن، يَفتح الباب لكل الأحلام المؤجلة، رَجُل أسود ضخم في السابعة والثلاثين من عمره، لكنه يقرَّر - في هذا الوقت تحديداً- بدء حياته بالانتقال إلى هوليوود، كان يُفكّر حينها أنه بحاجة إلى فرصة، ولو لم يحصل عليها فعلى الأقل يجب أن يُطاردها.
وفي هوليوود مُنتصف التسعينيات، لم يجد له مكاناً إلا في مسلسلات رَخيصة وفي أدوارٍ ثانوية، يتم استغلاله فقط في أدوار الحارس الشخصي دون أن يعرف أيا ممن حوله ما يحمله هذا الرجل بداخله، ثلاث سنوات تَمر ويبدو اليأس شديد القرب، لولا مُكالمة في عيد ميلاده الأربعين من أحد الأشخاص يعمل في مكتب مخرج الحركة «مايكل باي»، الذي يطلب مقابلته من أجل دور في فيلمه الجديد Armageddon، فرد ضمن فريق من أحد عشر شخصاً يقوده «بروس ويلس» و«بن أفليك» من أجل حماية الأرض، سيكونان في الواجهة والجميع في الظل، لكن «دنكان» كان راضياً، ليست تِلك هي الفرصة التي ينتظرها حتماً، لكن للمرة الأولى سيرى نفسه على الشاشة في دورٍ من عدة مشاهد، ما يكفي بالنسبة له كي يشعر أن حلماً قد تحقَّق.
ما لم يعرفه «دنكان» حينها أن بانتظاره ما هو أعظم كثيراً من كل ما مضى، المكافأة الحقيقية على كل ما عاناه وعاشه في حياةٍ جَعل أغلبها لوالدته وما تبقى منها كان يكفيه، المكافأة التي أدركها حين قرأ لأول مرة سيناريو فيلم The Green Mile، وشخصية «جون كوفي» التي رشحه لها المخرج «فرانك درابونت»، في فيلمه الثاني المقتبس عن رواية للكاتب الكبير «ستيفن كينج» بعد The Shawshank Redemption، صاحب النجاح المذهل عام 1994.
«جون كوفي» بدا وكأنه انعكاس في مرآة لحياة «دنكان» كلها، في رواية «كينج» كان «كوفي» صورة جريئة لمسيحٍ جديد أسود اللّون، صاحب قدرة خارقة في إشفاءِ المَرضى بمجرد لَمسهم، يشعر بالتعب من قسوةِ البشر وكل تلك الشرور التي قابلها في حياته، لكنه يستمر في التحَمل، تلك الروح العظيمة في الشخصية حافظ عليها «درابونت»، والفضل الأساسي في ذلك هو أن أوجد «كوفي» في صورة مُجسّدة للرجل الضخم الذي لن يُنسى بعد ذلك.. «مايكل كلارك دنكان».
كان الفيلم واحدا من أنجح أفلام عام 1999، كلاسيكية حقيقية بالنسبة للجمهور الأمريكي، أما الحصاد بالنسبة لـ«دنكان» فكان عشر جوائز في دوريات وجمعيات سينمائية مُختلفة، وترشيحه للأوسكارالذي خسره أمام الكبير «مايكل كين» في أحد أهم أدوار التسعينيات المُساعدة، وفوق كل هذا كان حصوله على الأهم: «الخلود»، بقي في ذاكرة الجميع بهذا الدور الذي يُعبر عنه تماماً، تحقيق حلمه الأكبر.. ربما ليس بأن يكون نجماً سينمائياً.. لكن «ممثلاً لن يُنسى».
ورغم ثلاثة عشر عاماً منذ ذلك الحين لم يقدم فيها «دنكان» عملاً مهماً، إلا أن جميع مُحبي السينما حول العالم قد تذكَّروه في هذا الصباح الذي أعلنت فيه وفاته بأزمة قلبية، ربما لم يعرفوا «مايكل كلارك دنكان» لكن فور أن يتذكروا «الرجل الضخم الذي يُشفي المرضى» فإنهم يشعرون بالحزن، ويأملون في أن يكون تَعَبُه قد خَف، ويرتاح في الجَنّة.