x

محمد سلماوي يكتب: وصية الأستاذ

الأربعاء 29-08-2012 20:43 | كتب: محمد سلماوي |
تصوير : اخبار

رن جرس تليفون أحمد المحمول فنظر إلى شاشة الأرقام لكنه لم يجد رقم الطالب. من يا ترى صاحب هذا الرقم السرى؟ رد على المكالمة بسرعة فقابله صوت أجش سأله: «الأستاذ أحمد سليم؟» قال: «نعم»، فرد عليه: «أنا رئيس جهاز أمن الدولة». كاد التليفون يسقط من يد أحمد لكنه تمالك نفسه. أراد أن يرد لكنه لم يجد ما يقوله. جاءه الصوت من جديد: «نرجو أن تقابلنا فى تمام السابعة مساء اليوم فى المستشفى»، لم يفهم. أراد أن يستفسر لكن مرة أخرى لم تسعفه الكلمات. قال: «آلو» وكأنه يريد أن يبدأ المكالمة من جديد، فرد عليه الصوت وقد علت نبرته: «ألم تسمعنى؟» وقبل أن يرد أحمد بالإيجاب واصل الرجل حديثه: «سنكون فى انتظارك بمكتب مدير المستشفى». استجمع أحمد قواه وقال: «لماذا؟ أهناك شىء؟» فرد عليه: «نريد أن نتسلم منك الجثة»، هنا انطلقت الكلمات من فم أحمد بسرعة: «ماذا تريدون بجثمانه؟! إلى أين ستأخذونه؟!» قال له الصوت: «لم أقل إننا سنأخذها، ستسلمنا الجثة فقط لكنها ستظل بالمستشفى».

ظل أحمد مشغولاً بتلك المكالمة الغريبة ولم يتركه الشعور بالاضطراب طوال اليوم. كان أديب البلاد الأكبر قد وافته المنية فى اليوم السابق وسط حزن وأسى ألم بالبلاد على جميع المستويات وكأن قلب الأمة قد توقف فجأة أو ضميرها قد غاب، فقد كان هو صوت الشعب، صوت من لا صوت لهم، صارت كلماته هى معيار الحق وآراؤه هى التى تفضح الباطل.

بعد رحيله بساعات أعلن ديوان رئيس الجمهورية أن الأديب الأكبر ستكون له جنازة عسكرية تليق بمقامه الرفيع. ياله من نفاق! أين كان الاعتراف بذلك المقام الرفيع أثناء حياته؟! والآن ماذا يريدون؟! ومن هم هؤلاء الذين يريدون أن يتسلموا جثمانه الطاهر؟! وما علاقة أمن الدولة بذلك؟

كانت الاضطرابات السياسية والحركات الاحتجاجية تعم البلاد، وكان الجميع يتوقعون قيام الثورة فى أى لحظة. لم يكن يمر يوم إلا ويتم إلقاء القبض على مجموعة جديدة من الثوار الذين كانت توجه لهم اتهامات بالتآمر لقلب نظام الحكم، وكان الأديب الأكبر من أشد المؤيدين لحرية الشعب فى أن يثور على الطغيان وأن يختار حاكمه بحر إرادته. لم يكن يترك مناسبة إلا ويعلن انحيازه الكامل للحرية والديمقراطية، لكنه كان يشعر الآن بعجزه بعد أن طعن فى السن ففقد بصره وضعف سمعه.

كان أحمد التلميذ المقرب للأديب الأكبر الذى كان يأنس إليه ويثق فيه، وكثيراً ما كان يتحدث إليه بما يعتمل فى نفسه، فحين اندلعت مظاهرات الجامعة قال الكاتب الكبير لأحمد: لم يحدث أن ندمت على زوال صحتى وشبابى مثلما أنا نادم اليوم، صدقنى لو كنت بعافيتى لانضممت لهؤلاء الشباب. كم كنت أود أن أشاركهم اعتصامهم بالجامعة، فهم فى ثورتهم يطالبون بما ناديت به طوال عمري.. الحق فى الحرية والعدل والنور والجمال.

قال أحمد: «لكن الناس كلهم يعلمون أنك مع الحق ومع الحرية من قبل أن يسمع بها الشباب، كتاباتك على مدى السنين تجسد تلك المعاني، ولولا اسمك الذى يسطع فى الآفاق الدولية لنالوا منك منذ زمن».

ولم تمض أيام حتى تم القبض على الطلبة الذين قادوا المظاهرات بعد أن اقتحمت قوات الأمن حرم الجامعة بالمدرعات وعربات الأمن المركزى واعتقلت جميع المعتصمين، فطلب الأديب الأكبر من أحمد أن يكتب بياناً على لسانه يعلن فيه تأييده الصريح للطلبة ويطالب بالإفراج الفورى عنهم، وبعد أن أملاه البيان قام أحمد بتوزيعه على الصحف لكن أياً منها لم ينشره.

وحين ذهب أحمد للقاء أستاذه فى اليوم التالى وجده مكتئباً فحاول التهوين عليه قائلاً إنه أوصل بيانه للثوار وإنهم يشكرونه عليه. فقال الأستاذ: لكنه منع من النشر. فرد أحمد: لا يهم، لقد كان البيان موجهاً، كما قلت لى للثوار لنشد من أزرهم، وللسلطة عسى أن تراجع نفسها، ثم للرأى العام كى يسارع بتأييد حركة الثورة، وقد وصل البيان بالفعل إلى الثوار، كما علمت به السلطة وحظرته، ولا بد أنه سيصل إلى الرأى العام أيضاً فلا شىء يبقى سرّاً فى البلاد. سرعان ما سيتناقل الناس كلماته فى مجالسهم.

وتصور أحمد أنه بهذه الكلمات المطمئنة سيشعر أستاذه بأنه قام بواجبه على أكمل وجه، لكن الأستاذ قال: إن ما نعيشه اليوم لم نشهده تحت أى من الأنظمة السابقة، لقد اختصرت كل مسؤوليات الدولة فى الحفاظ على أمن الحاكم، لقد تم تسخير الدولة المصرية لتناسب الاحتياجات الأمنية لحاكم طاغية فصار الأمن هو الذى يحكم البلاد وهو الذى يوجه كافة السياسات، لقد تحولت الدولة إلى مخفر كبير للشرطة.

كانت تلك من بين الكلمات التى وردت فى البيان، والتى ربما أراد الأستاذ بتكرارها أن يتحدى قرار حظرها، أو أنه فى سنه المتقدمة قد نسى أنه أملاها من قبل على أحمد.

وساءت الحالة النفسية والصحية للأديب الأكبر وبدأت حالته الصحية تتدهور مما استدعى نقله إلى المستشفى، فصار أحمد يمضى معظم وقته معه يخفف عنه آلامه بأحاديث بعيدة عن السياسة. كان يحدثه عن الأدب والفن والثقافة، وفى أحد الأيام اصطحب أحمد معه فى زيارته اليومية للأستاذ أحد شباب الثورة ممن كان قد أفرج عنهم أخيراً.

قال أحمد للأديب الأكبر: «لقد أحضرت لك معى صديقى عمر الذى أفرج عنه أمس فقط، فأراد أن يقوم بزيارتك ليطمئن على صحتك». ابتسم الأستاذ بينما انحنى الشاب على يده يقبلها وهو يقول: «إن الكلمات التى خطتها هذه اليد الطاهرة على مدى السنين مازالت تلهمنا»، فرد الأستاذ: «الكلمات لم تعد لها الآن قيمة، لقد ناضلت بقلمى طوال العمر.. ضد الإنجليز، ثم ضد الطغيان، لكن ها هو العمر قد مضى ومازال الطغيان هو الطغيان. ما قيمة أن تتحرر البلاد لكن يظل أهلها محرومين من حريتهم. حين تصل الأمور إلى هذا الحد لا يكون الخلاص بالقلم والكتابة وإنما بالحديد والنار».

كانت كلماته مقتضبة لكنها حادة كالطلقات. صمت بعدها قليلاً وظل شاخصاً ببصره إلى سقف الحجرة، فلم يتكلم أحمد ولم يتكلم عمر احتراماً للرجل إلى أن عاد يقول: «إننا فى مرحلة ينادينا فيها الوطن كى ننقذه حتى لا يباع فى سوق الرق ويورث كالمتاع دون أن تكون لأهله كلمة أو رأى».

هنا قال عمر: «إن كلماتك هذه هى التى دفعتنا للثورة وروائعك الأدبية هى التى علمتنا قيمة الإنسان ونبل المثل التى يحيا بها، والآن جاء دورنا نحن لنطبق ما ناديت به».

رفع الأستاذ يده وهو ممدد على الفراش وقال: «الأدوار لا تنتهي، وإننا الآن فى وقت يجب أن تتحد فيه كل الجهود، لكنى للأسف لم أعد قادراً فى سنى هذه على شىء، حتى جسدى لم يعد ملكاً لى بعد أن أنهكه المرض».

نظر عمر إلى الرجل الذى تخطى التسعين وقال له: «إننا أبناؤك يا أستاذ، قل لنا ما تريد أن تفعله ونحن نفعله لك».

ابتسم الأديب الأكبر وقال: «ما أريده الآن لا يستطيع أن يفعله أحد نيابة عنى. لو كنت شاباً قادراً على الحركة لربطت حزاماً من الديناميت الناسف حول خصرى وقمت بما ينبغى عمله كالفدائى الفلسطينى الذى يهب حياته من أجل الوطن، لكن العافية ذهبت، والعمر أوشك على الانقضاء وصار ما تبقى لى يحسب بالساعات».

ربت الشاب على يدى الأستاذ الممدة على الفراش وقد دمعت عيناه، فأشار إليه أحمد بأن ينهى المقابلة حتى لا يزيد من انفعال الأستاذ.

فى اليوم التالى مباشرة أسلم الأديب الأكبر الروح لبارئها فى هدوء فنزل خبر رحيله على الناس حزناً مقيماً، ساهم فى تأجيج الشعور بالغضب تجاه الاستبداد والطغيان اللذين كانت ترزح البلاد تحت نيرهما.

ومع تصاعد حدة الغضب جاء الإعلان بأن رئيس الجمهورية أصدر تعليماته بأن يشيع جثمان أديب البلاد الأكبر فى جنازة عسكرية أسوة بالقادة والرؤساء فازداد الناس غضباً على غضب، فالأديب الراحل لم يكن من فصيل الحكام وكبار المسؤولين المسموح لهم بحضور الجنازات العسكرية، إنه أصدق من عبر عن البسطاء فى أحيائهم الفقيرة فلماذا لا تخرج جنازته من الحى الشعبى الذى ولد به؟! ثم ها هم الآن يطلبون تسلم جثمانه الطاهر. ماذا سيفعلون بالجثمان؟ ماذا يريدون به؟! ظل أحمد يسائل نفسه.

وصل أحمد إلى المستشفى فى تمام السابعة فتوجه مباشرة إلى مكتب المدير حسب التعليمات الصادرة له فوجد معه ثلاثة رجال فى انتظاره. حيا مدير المستشفى الذى كان يعرفه من زياراته المتكررة للأستاذ، فسأله أحد الرجال الذى كان الشيب قد غزا رأسه: «أنت أحمد سليم أليس كذلك؟»، كان أحمد يود أن يقول له: «نعم أنا هو فمن تكون أنت؟»، لكن الرجل لم يكن ينتظر ردّاً فقد واصل حديثه: «إننا نعلم أن الأستاذ لم يكن له أبناء ومعلوماتنا أنك كنت الأقرب إليه، لذلك اخترناك أنت حتى لا نحيد عن الأصول».

هنا وجد أحمد لزاماً عليه أن يسأل: «اختارتونى لأى شىء؟» فرد الرجل: «لكى تسلمنا الجثة». بدأ أحمد يتعرف على صوت الرجل. إنه هو الذى حدثه بالتليفون: «قلت لى فى التليفون إنكم لن تأخذوا الجثمان من هنا»، فرد عليه الرجل: «هذا صحيح». ثم أخذ الرجال الثلاثة يتحدثون فيما بينهم، وقد علم أحمد خلال المقابلة أن محدثه هو بالفعل رئيس جهاز أمن الدولة، نظر أحمد إليه مليّاً. كان ضخم الجثة بعكس زميليه الآخرين. لا بد أنه كان بطلاً رياضيّاً فى شبابه. هل كان مصارعاً أم ملاكماً؟ أما الآخران فكان أحدهما نحيفاً كعود الغاب، وعلم أحمد أنه رئيس إدارة مكافحة المفرقعات، والثانى، مسؤول أمن رئيس الجمهورية، كان أصلع يميل للبدانة.

كان رئيس أمن الدولة هو المتحدث الوحيد مع أحمد فى هذا اللقاء، أما الآخران فلم يتبادلا الكلمات إلا فيما بينهما.

بعد أن انتهى الحديث بين الرجال الثلاثة نظر رئيس أمن الدولة لأحمد وقال: «أنت إنسان ناضج يا أستاذ أحمد وتعرف طبعاً أن العمل عمل، وعملنا هو تأمين سيادة الرئيس من المخربين الذين تدفع بهم بعض القوى الخارجية لزعزعة استقرار البلاد».

لم يرتح أحمد لهذا الحديث فرد بسرعة: «وما علاقة هذا بالأستاذ؟» رد عليه الرجل وقد قطب حاجبيه: «إن واجبنا هو ضمان سلامة الرئيس. علينا أن نؤمن الجثة قبل أن تتم مراسم الجنازة فى الصباح». قال أحمد فى انزعاج: «تؤمنونها كيف؟» قال الرجل فى هدوء وكأنه يتحدث عن عملية إجرائية تحدث كل يوم: «عن طريق جهاز المفرقعات، يجب أن نتأكد من سلامتها ثم..» فقاطعه أحمد: «وهل تتصورون أن تكون هناك مفرقعات داخل جثمان الأستاذ؟»

علا صوت الرجل وهو يقول: «ليس لك أن تتدخل فى عملنا ولا داعى للانفعال. قلت لك إن الشغل شغل». ثم أضاف: «إنها إجراءات أمنية لا يمكن تخطيها»، فقال أحمد: «أليس للأموات حرمة؟».

رد الرجل بقدر من الصرامة: «لا يمكن أن نترك أى شىء يقترب من سيادة الرئيس دون أن نؤمنه، خاصة فى الظروف الحالية التى تمر بها البلاد. إن الرئيس سيكون فى مقدمة المشيعين ولن يكون بينه وبين الجثة إلا بضعة أمتار».

قال أحمد: «ولكن..»

فقاطعه الرجل بالسؤال: «من الذى سيحضر الغسل فى الصباح؟»

قال أحمد: «أنا»

قال الرجل: «إذن ستسمح لنا بتفتيشك قبل أن تدخل على الجثة»

فرد أحمد: «افعلوا بى ما شئتم، ولكن الجثمان..»

لم يرد عليه الرجل، فسكت أحمد وقد لاحت فى ذهنه بعض الأفكار المجنونة والتى لم يقطع تدفقها إلا صوت الرجل وهو يقول: «ستأتى معنا الآن إلى الثلاجة لنتسلم منك الجثة، وسنقوم بتأمينها فى وجودك، وبعد ذلك ستظل الجثة فى حوزتنا».

سأل أحمد: «كيف بحوزتكم؟» رد الرجل: «سنضع عليها الحراسة اللازمة ولن يصبح من حق أحد أن يقترب منها بعد ذلك، ثم سنسلمها لكم بعد انتهاء الجنازة ومغادرة سيادة الرئيس».

فى تلك الليلة لم ينم أحمد، فحين وصل إلى البيت بعد ذلك اللقاء الذى أثقل عليه عصبيّاً ونفسيّاً وجد أن عدداً من شباب الثوار الذين لم يكونوا يستخدمون التليفونات بسبب انتشار المراقبة، قد مروا عليه بالمنزل وتركوا له تعازيهم، فأدرك أحمد أن وراءهم شيئاً. خرج على الفور متوجهاً لبيت عمر ومكث معه ومع رفاقه بضع ساعات عاد بعدها إلى المنزل منهكاً، وغير قادر على النوم. ظل طوال الليل يتقلب فى فراشه يفكر فيما حدث بالمستشفى وفيما سيحدث فى اليوم التالى.

فى الصباح الباكر كان أحمد فى المستشفى قبل الموعد. طلب منه المدير أن يجلس فى مكتبه حالما يصل المكلف بتغسيل الجثمان. لم يتأخر الرجل كثيراً، فما هى إلا دقائق ودخل عليه رجل بدين يرتدى جلباباً أبيض، يخيل إليك للوهلة الأولى أنه جزار.

هبط أحمد و«المغسل» سلم المستشفى متجهين عبر سرداب طويل إلى غرفة الثلاجة فى الدور الأسفل. نظر المغسل للحراسة التى على باب الثلاجة وقال لأحمد: «ما شاء الله! أول مرة أجد مثل هذه الحراسة على ميت. كان رجلاً عظيماً الله يرحمه». ود أحمد أن يقول له إن تلك الحراسة لا تخص الميت من قريب أو بعيد إنما هى لرئيس الجمهورية، لكنه لم ينطق.

على باب الثلاجة تم تفتيش أحمد والمغسل الذى ظل يردد: «كان رجلاً عظيماً الله يرحمه»، ثم مروا على جسد كل منهما بجهاز كشف المفرقعات اليدوى، الذى لم يفارق عينى أحمد منظره البغيض الليلة السابقة وهو يمر كالدنس فوق جثمان الأستاذ. ظل الجهاز يطلق صفارته المقيتة كلما اقترب من جسد أحمد، فأخذ أحمد يخرج من جيوبه تارة مفاتيحه وتارة قلمه وتارة العملات النقدية، إلى أن هدأ الجهاز فعاد أحمد يجمع حاجياته بسرعة من يدى أفراد الحراسة كى يدخل غرفة الثلاجة لإنهاء مراسم الغسل والتكفين قبل موعد الجنازة.

فور انتهاء الإجراءات خرج أحمد من الغرفة فوجد سيارة أمن بالخارج وبها النعش الذى سيحتوى الجثمان، وعلى جانبيه وقف جنديان يحرسانه، فساعد مع المغسل فى وضع الجثمان فى الصندوق الخشبى، ثم ركب معهما فى السيارة التى انطلقت فى شوارع القاهرة إلى مكان الجنازة.

فى الطريق أخذ أحمد يتحدث مع الجنديين الشابين ويروى لهما عن مآثر الأديب الراحل. ظل يجهد نفسه فى محاولة استرجاع كل ما يمكن أن يروق لهما من قصص وحكايات. ثم أخذ يسرد لهما بعض نوادر الأستاذ وسرعة بديهته وخفة ظله، وهما يستمعان فى سرور، تارة يضحكان وأخرى يبديان إعجابهما.

تحين أحمد الفرصة وقال: «لقد كان للأستاذ رغبة أوصانى بها قبل وفاته، وهى أن ندفن كتبه معه»، وعلق أحد أفراد الحرس: «وصية غريبة»، ورد الثانى وكأنه على دراية بتلك الأمور: «كتب الأديب دائماً عزيزة عليه، لا يحب أن تفارقه». فقال أحمد: «للأسف لم يكن هناك وقت قبل الجنازة لتحضير الكتب، لكنا سنتدارك ذلك»، ثم شرح لهما أن صديقاً له من تلاميذ الأستاذ ينتظرهم فى الطريق حاملاً معه كتب الأستاذ، فقال له أحد جنود الحراسة: «ذلك بعد الجنازة إن شاء الله، فليس لدى أمر بالتوقف فى الطريق مهما كانت الأسباب». فرد عليه أحمد: «كانت وصية الكاتب الكبير أن نضع الكتب مع الجثمان»، رد عليه الجندى: «ليكن ذلك بعد الجنازة»، فقال أحمد: «لن يكون هناك وقت للعودة لأخذ الكتب، إننا سننطلق بعد الجنازة مباشرة إلى المدفن دون الدخول ثانية إلى وسط المدينة»، لكن الجندى قال: «إن أى توقف فى الطريق قد يعطل وصول الجثمان عن الموعد المحدد»، فقال له أحمد: «سأتسلم الكتب من زميلى دون أن أنزل من السيارة، سيناولها لى من النافذة. ذلك لن يستغرق ثوانى معدودات».

كانت السيارة قد وصلت إلى ناصية الشارع فنظر أحمد من النافذة، فوجد عمر واقفاً ومعه لفافة كبيرة مغلفة بورق الهدايا ومربوطة برباط محكم، فقال للجندى هذا هو زميلى عبدالرحمن ومعه الكتب سيناولها لى من الشباك»، فى تلك الأثناء توهجت إشارة المرور فجأة كلهب أحمر فتوقفت جميع السيارات فى مكانها. اتجه عمر بسرعة إلى أحمد وناوله اللفافة من النافذة فى الوقت الذى تحولت الإشارة إلى لون السكينة الخضراء، فعاد سيل السيارات يتدفق فى مجراه كالنهر المنساب، لكن الجندى لم يعجبه ما حدث وقد بدت عليه بعض علامات الغضب: «إن الكتب هذه أكبر مما توقعت ولن أستطيع أن أصل إلى مكان الجنازة لأسلم الجثمان ومعى بالسيارة هذه اللفافة»، فذكره أحمد بأن وصية المتوفى واجبة التنفيذ، فقال له الجندى: «قلت لك أن يتم تنفيذها بعد الجنازة»، فرد عليه أحمد: «لكن ها هى معنا بالفعل»، ثم اقترح عليه أن يتم وضع اللفافة مع الجثمان فى الصندوق حتى إذا انتهت الجنازة لا يتم فتح الصندوق ثانية إلا فى المدفن».

كانت السيارة قد اقتربت من مكان الجنازة، ففتح أحمد الصندوق بسرعة، ووضع اللفافة بصعوبة عند قدمى الجثمان، فقد كان حجمها كبيراً بالفعل وشعر أحمد الذى أصر على حملها بنفسه بثقلها البالغ، ثم تم إحكام الصندوق كما كان، وبعد دقائق وصلت السيارة إلى المكان المخصص للجنازة. كان الرجال الثلاثة الذين قابلهم بالمستشفى فى انتظار الصندوق، فتم إنزاله وتسلمته قوات الأمن التابعة لهم، واتجهت به على الفور إلى عربة مدفع تجرها أربعة خيول فوضعوا رأس الجثمان فى المقدمة وقدميه فى اتجاه المشيعين الذين اصطفوا خلف عربة المدفع يتقدمهم العسكريون وكبار رجال الدولة، فى انتظار وصول رئيس الجمهورية، بينما تم اقتياد أحمد إلى مؤخرة الجنازة.

خلال دقائق قليلة سمعت صفارات سيارات أمن الرئاسة ووصلت سيارة الرئيس السوداء المصفحة تسبقها وتتبعها سيارات الحراسة، فتوقفت عند مقدمة الجنازة ونزل منها رئيس الجمهورية فترجل بضع خطوات متجهاً إلى الصف الأول خلف الجثمان مباشرة. لم يكلم أحداً. دقت الموسيقى العسكرية، فتحرك المشهد من سكونه فى إيقاع جنائزى فخيم يتقدمه الجنود حاملين أوسمة الأديب الراحل الدولية والمحلية على وسادات مخملية، وبدا المشهد كله ذا جلال وهيبة، وقال أحد الحضور لزميله: لو كان الأستاذ على قيد الحياة لثار لوجود الرئيس على رأس المشيعين، وما إن أكمل جملته حتى سمع دوى انفجار هائل وصل صداه إلى جميع أرجاء الحى، فطار معه غطاء الصندوق وانفجر الجثمان كجسد استشهادى شاب ربط أصابع الديناميت حول خصره، وصهلت الخيل التى كانت تجر عربة المدفع وخرت نافقة، أما الرئيس فتناثرت أشلاؤه فى الهواء ولم يعثر له على جسد ولا كانت له جنازة.

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية