حينـما تضطرب الأمور بالأمة، وتثور بها الأحداث وتتقاذفها الأمواج من كل اتجاه، يكون عليها أن تعود لتبحث فى تراثها عما عساها تلوذ به وتجد فيه السند الذى تلجأ إليه وربما يساعدها فى فهم حقيقة الأمور، واتخاذ القرار الصواب. وهنا فائدة علم التـاريخ، الذى نسيناه- للأسف – بل وشوهناه بما نفعله وحجبناه عن الأبناء والشبيبة، لذا تاهت الحقيقة وغيبت الأحداث الحالية وعى الناس بعد أن غاب الدليل.
واليــوم فى ظل الأزمة الحالكة والخانقة التى تمر بها الأمة، والتى يغيب فيها وعيها عن جهل أو تجاهل، تتطلع الأمة إلى هذا النوع من العلماء والمثقفين الذين ينيرون الطريق بأفكارهم وآرائهم. ونتلفت شمالا ويمينا فلا نكاد نلمس أثرا لأحدهم إلا بصعوبة. فنحن فى حاجة للمثقف الفاعل، الذى يأخذ بيد الآخرين، لا للمثقف الخامل المتكاسل، الذى يكتفى بالجلوس على المقاهى، ولعن الزمن، ولعن كل شىء. إزاء هذا الموقف لابد من العودة للتاريخ القريب للبحث عن المثال والنموذج وأخذ العظة من حياة أمثال هؤلاء المثقفين القادة، الذين حاولوا إنارة الطريق أمام الأمة. لعل أبرزهم: المفكر الثائر الذى لا وطن له إلا حيث توجد الحرية، الذى ملأ الدنيا كفاحا، وعلَم الثوار والمفكرون أساس الحرية والإصلاح، ووجوب الكفاح فى سبيل الحفاظ على ثوابت الأمة. إنه جمال الدين الأفغانى.
ومــا أشبه اليوم بالبارحة، فتكاد تكون الظروف التى نمر بها حاليا مشابهة –إلى حد كبير - للظروف نفسها التى مرت بها الأمة زمن الأفغانى. فمن يطالع «العروة الوثقى» يجد العديد من المقالات التى تطالب الأمة باليقظة والتنبه للمحاولات الاستعمارية الرامية لبث الفرقة بين المسلمين، ولزرع الدعاوى الوطنية والقومية الهادفة لتمزيق الأمة الإسلامية، والقضاء على مقوماتها، وذلك تمهيدا للسيطرة عليها ونهب خيراتها، فيما عرف بعد ذلك بالاستعمار، وهو فى حقيقة الأمر «استخراب» ودمار. وهو نفس ما يحدث حالياً، بل هو نفس الخطاب الاستعلائى الغربى الملتوى، الذى لا هدف له إلا القضاء على الثوابت، وهدم المعتقدات والمقدسات، وسيادة النموذج الغربى، بل وفرضه قسرا على الناس، وكأنهم –الاستعماريون- مبعوثو العناية الإلهية لإنقاذ وتمدين الأمة الإسلامية. وهى دعوى زائفة يتخفون وراءها لنيل أغراضهم الدنيئة0
ولـــد مفكرنا الثائر، على أرجح الأقوال، فى أكتوبر 1838م لأسرة عريقة ينتهى نسبها إلى الحسين بن على –رضى الَله عنه- ونشأ فى كابول، عاصمة أفغانستان –مطمع القوى الاستعمارية قديما وحديثا – وقد عمل البعض، وأشهرهم د.لويس عوض، على التشكيك فى نسبه إلى الأشراف، بل والتشكيك فى مذهبه الدينى. إذ ذكر هؤلاء –مستخدمين أدلة واهية لا ترقى للصدق –أنه إيرانى شيعى، قاصدين من وراء ذلك وصمه بالكذب، وهو الذى لصق باسمه «الأفغانى»، وفى أقواله وأفعاله أنه سنى المذهب، والغرض من ذلك تلطيخ سمعة الرجل والانتقام منه والقضاء على أفكاره، حتى لا تعود للنور، وإذا عادت فيحيطها ثوب من الشك والريبة التى تصرف الأنظار عن جوهرها الحقيقى. ونسى هؤلاء ما وجهه الأفغانى من سهام النقد اللاذع لأفعال الشيعة وانصرافهم عن جوهر الدين للاهتمام بأمور مظهرية مثل مأتم الحسين.
زار الأفغــانى معظم الأقطار الإسلامية من أفغانستان إلى الهند، العراق، مصر وإسطنبول، عاصمة الخلافة العثمانية. كما زار العديد من الدول الأوروبية، مثل إنجلترا وروسيا. وقارن وشاهد التخلف الشرقى فى جميع الميادين فى مقابل التقدم الأوروبى، وبخاصة فى الميادين المادية. غير أن أهم الزيارات التى قام بها، هى زياراته إلى مصر. وكانت الزيارة الأولى عام 1869م والتى لم يستقر فيها كثيرا ولكنه عاد إليها عام 1871م – وزيارته الثانية كانت حينما كانت القاهرة تموج بالصراعات بين التيارات الفكرية المختلفة :من التيار التغريبى الناشئ، والقادم بقوة، والتيار المحافظ الذى يتزعمه الأزهر، دون محاولة التجديد أو نفض الغبار الذى ران عليه.
تجمــع حول الأفغــانى عدد كبير ممن أصبحوا قادة الرأى والفكر وزعماء السياسة فى الوطن العربى وأخذ يبث أفكاره الإصلاحية الداعية إلى التحرر من ربقة الاستبداد الجاثم على النفوس، ومشاركة الشعوب فى الحكم، ولكن هذا لم يرض الخديو توفيق – حاكم مصر آنذاك- الذى تولى الحكم بعد عزل أبيه الخديو إسماعيل، وأصبح ألعوبة فى أيدى القوى الاستعمارية، لذا فقد أمر بطرد الأفغـانى على ظهر باخرة متوجهة إلى الهند.
حــدد الأفغـانى الأمراض التى يعانى منها العالم الإسلامى فى ثلاثة أمور هى:
1-استبداد الحكام والسلاطين.
2-الاستعمار الأجنبى الطامع فى العالم الإسلامى.
3-الفرقة بين البلاد الإسلامية. والتى تعطى للمستعمر الفرصة للانقضاض على الفريسة، ممثلة فى العالم الإسلامى.
لذلك تمثل الجهاد عنده فى العمل على نشر الوعى السياسى، وضرورة المشاركة الجدية للناس فى النشاط السياسى، عن طريق المشاركة فى صنع القرار، وإدارة شؤون البلاد، ونشر المجالس النيابية، مثل مجلس الشورى.
وآمــن بقوة الكلمة فى بث يقظة الأمة، فأوحى إلى عدد من أتباعه بإنشاء عدة صحف، لعل من أهمها صحف «أبونظارة» ليعقوب صنوع، والتى أغلقها الخديو إسماعيل ونفى صاحبها، فأصدرها فى الخارج، ثم هربت إلى مصر، كما أوحى لميخائيل عبدالسيد بإنشاء صحيفة «الوطن»، ولأديب أسحق بإنشاء عدة صحف. وفى هذه المرة لم يستطع الخديو إسـماعيل إغلاق أى منها، لعدة أسباب: 1-عدم قدرته على شراء ذمم أصحابها لوعيهم ومبادئهم.
2- إن معظم هؤلاء كانوا رعوية فرنسية، فهم بذلك يحتمون بالامتيازات الأجنبية.
ودعــا الأفغـانى للوحدة الإسلامية، ولجامعة الشعوب الإسلامية، وحدد السبب للفرقة فى: «جلب تنازع الأمراء على المسلمين يفرق الكلمة، ويسبب اشتقاق العصا، فلهو بأنفسهم عن تعرض الأجانب بالعدوان عليهم، ولكن ضرب الفساد فى نفوس أولئك الأمراء بمرور الزمان، وتمكن من طباعهم حرص وطمع باطل، فانقلبوا مع الهوى، وضلت عنهم غايات المجد المؤثل وقنعوا بألقاب الإمارة، وأسماء السلطنة وما يتبع هذه الأسماء من مظاهر الفخفخة، وأطوار النفخة ونعومة العيش مدة من الزمن، واختاروا موالاة الأجنبى عنهم، المخالف لهم فى الدين والجنس. ولجأوا للاستنصار به وطلب العون منه على أبناء ملتهم، استبقاء لهذا الشبح البالى والنعيم الزائل. كما أنه هاجم النزعة الجنسية التى عمل الغرب على نشرها بين المسلمين، لذا فقد كان يحز فى نفس الأفغــانى الخضوع والموالاة للمستعمر الغربى الطمع فى نهب خيرات المسلمين، كذلك كثرة الآراء، وتعدد الشيع والأحزاب التى تعكس الخلافات السائدة بين الأمة وتفرقها. ولــم يهمل الأفغـانى التقدم الغربى، بل دعا للأخذ بالوسائل اللازمة للحاق بركاب النهضة الصناعية الغربية، وعدم إهمال تلك الوسائل طالما لا تضر بثوابت الأمة.