9 آلاف كيلو متر قطعتها «المصرى اليوم» ذهاباً من القاهرة وإياباً من مدن الحدود باتجاهاتها الثلاثة، فى رحلة متواصلة استغرقت نحو الشهرين، رصدت خلالها أوضاع تلك المدن بقراها ونجوعها مترامية الأطراف، وعاشت مع سكانها أوجاعهم وهمومهم التى تطابق الكثير منها رغم الاختلافات الجغرافية والديمجرافية، والعرقية.
«الثورة لم تصل بعد».. جملة وجدتها الأكثر دقة فى وصف ما شهدته من أحوال معيشية لأبناء الأطراف، والتى شابه بعضها مجاعات الصومال، وجاوز البعض الآخر حياة عصور ما قبل الميلاد، ببدائيتها وجهلها وجاهليتها، وجميعها عوامل تنذر بانفجار جديد قد تدفع مصر ثمنه غالياً، لأن تجاهل الأطراف يعنى فتح الأبواب على مصاريعها أمام الطامعين فى بلادنا، وما أكثرهم.
«الإهمال والفقر والعنصرية» كانت العامل المشترك لأوجاع أبناء حدودنا الشرقية والغربية والجنوبية، على حد سواء، فكثير منهم دفع حياته ثمناً للجوع والعطش، بل لرشفة دواء لم يجدها فى ذروة مرضه، وجميعهم أدخلونا دائرة التصنيف العنصرى، بعد أن سبقونا إليها بفعل الغباء الأمنى والتخاذل الإعلامى، فانقسم المصريون فى نظرهم إلى «البدوى» و«البحراوى» أو «ابن الوادى»، وهى مصطلحات توحدوا عليها دون اتفاق مسبق، لكونها خلاصة تمييز صنعته الدولة منذ عقود طويلة، ليكتووا هم بناره، ويتجرعوا مرارته دون أن يسمع بصراخهم أحد.
رحلتنا الطويلة لم ترصد الحالة الإنسانية فحسب، وإنما دفعتها المصادفة «أحياناً» وحب المغامرة «عادة» إلى التطرق لظواهر غاية فى الغرابة، وملفات كادت تكلفنا الحياة، لتكون المحصلة رصداً صحفياً نطرحه أمام المسؤولين فى 7 حلقات، مغلفاً بتحذير يحمل خلاصة المعايشة: «احذروا انفجار حراس مصر».
«السلوم».. مدينة فقدت الهوية بفعل فاعل.. و«التهريب» سبيلها الوحيد للحياة
ما معنى «السلوم»..؟ سؤال رأيت أنه من البديهى البحث عن إجابة له قبل التوجه إلى المدينة الحدودية التى تحمل هذا الاسم، فى أولى رحلاتى لرصد أوضاع وأوجاع أبناء الأطراف «المدن الحدودية»، وبقليل من البحث وجدت روايتين، الأولى متعلقة بالاسم نفسه وهو «سلوم» الذى يعنى السلام أو السليم الخالى من العيوب، بينما كانت الثانية تقول إن سلوم هو اسم فخذ أو قطب عربى يدعى أبوسلوم، وهو من الأيوبيين ذوى الأصول السورية، ثم جاءت سلالته وامتد نسبه لتصبح عشيرة تحمل اسم «آل سلوم».
والسلوم مدينة تقع فى الطرف الغربى لمصر، حيث تبعد عن القاهرة بنحو 752 كيلو متراً، وهى عبارة عن خور فى قلب البحر المتوسط، يحدها من الشرق الساحل ومن الشمال هضبة السلوم الموجود بها المنفذ البحرى الرابط بين مصر وليبيا الشقيقة، أما عن مساحتها الكلية فلا تتعدى 35 كيلو متراً، وتتبعها قريتان هما بقبق وأبوزريبة، كما يقطنها قرابة 111 ألف نسمة وفق آخر إحصاءات الدولة الرسمية، فيما تؤكد تقديرات صادرة عن مركز المدينة أن عدد السكان تجاوز 12 ألفاً و700 نسمة.
«سجن بلا قضبان».. أدق وصف يمكن أن يتفتق عنه ذهنك لجغرافيا السلوم، بمجرد أن تطأ قدماك هذه المدينة «المتهاكة» ستشعر أنها فعلاً أشبه بسجن كبير، يحيطه من الشرق ساحل البحر المتوسط، ومن الغرب جبل شاهق الارتفاع وشديد الوعورة، إضافة إلى هضبة السلوم «الحدودية» شمالاً، و«كمين» كمدخل المدينة جنوباً، وإذا أردت أن تطلق العنان لنظرك، فلن ترى سوى الأطراف الأربعة، يتوسطها منازل متفاوتة الاتساع والرقى تدل على غنى فاحش ممزوج بفقر مدقع، ومهما امتد بصرك فلن ترى زراعة ولا صناعة ولا حتى صيداً!
«وابل من الطوب والحجارة».. هكذا يستقبل أطفال السلوم أى غريب يجوب شوارعهم ذهاباً وإياباً، أكثر من مرة فيألفون وجهه، وهذا ما حدث معى عشية أول أيام زيارتى للسلوم، حيث تعرضت لهجوم «حجرى» أمام الفندق الذى كنت نزيلاً به أسفر عن تحطم محدود فى لافتة الفندق، وهو أمر اعتاد عليه موظفو الفندق، وفق ما أكده لى أحدهم ويدعى «عبد ربه»، وصدق عليه أحد أصدقائى «السلوميين» ويدعى ربيع عبد اللطيف، موظف بالشؤون الاجتماعية، وملقب بين مثقفى المدينة بـ«الأبنودى».
«العويل هنا مسلوب الطفولة».. بهذه الجملة علق «ربيع» على عنف الأطفال، مرجعاً انتهاجهم العنف والغلظة مع الدخلاء، لكونهم تربوا منذ نعومة أظافرهم على كونهم رجالاً يتحملون المسؤولية ويعملون ويأتون بالعائد السخى، ولذلك لا تجدهم يلهون اللهو البرىء- والكلام لربيع- ولا يقبلون الآخر، بل يضربون بعضهم البعض ويقذفون من لا يعجبهم بالحجارة، كما أنهم لا يرغبون فى التعليم، لأنهم لا يتحملون عناء التوجيه ولا يطيقون أن يعلمهم أحد، فكيف يتعلمون وهم يعلمون كل شىء وفق مخيلاتهم. أولى جولاتى فى المدينة قررت أن تكون عشوائية ودون اصطحاب أحد ممن أعرفهم من أبناء السلوم، وكان هدفى الخروج بانطباعات عامة عن المدينة وأهلها وحياتها، فكانت البداية صادمة بعض الشىء فبمجرد نزولى الشارع الرئيسى للمدينة والذى يمتد بطولها ويتوسط السوق التجارية، فوجئت بأناس، رغم بشاشة وجوههم، يعانون غلظة وحدة فى التعامل حتى مع بعضهم البعض، كما لاحظت للوهلة الأولى وجود فجوة اقتصادية محدودة بين أبناء هذه المدينة، تجلت لى من اختلاف المسكن والملبس، ناهيك عن حالة الغلاء الفاحش المستحكم فى هذه المدينة «الحبيسة» بدءا من أسعار السلع الغذائية، وانتهاءً بأسعار الأدوات المكتبية، وهى مأساة دفعت البعض لتسمية السلوم«الخليج» خاصة أن أكثر الذين يذوقون مرارة الغلاء فى هذه المدينة هم الدخلاء عليها من موظفين وعمال لا دخل إضافياً لهم.
«جعلونى مهرباً».. هذه العبارة هى لسان حال غالبية من يقطن مدينة السلوم بمختلف أعمارهم، كما أنها جملة تفسيرية لإجابة موحدة «غير متفق عليها» لسؤال توجهت به للعشرات من سكان هذا البلد المترامى الأطراف، بعد ساعات قليلة من وصولى إليه، هذا السؤال نصه «ماذا تعملون»..؟ فبمجرد طرح هذا السؤال «غير البرىء» على أى «سلومى»، لا تنتظر إجابة بديهية بسيطة، بل عليك بتوخى الحذر لأنك قد تواجه قنبلة من الغضب تنفجر فى وجهك، وكأن السؤال نزع فتيل تهمة مقنعة، فإذا بمن تسأل يغمرك بسيل من التبريرات والأعذار، ويشهدك عليها فتضطر لأن تصبح «شاهداً ماشافش حاجة»، وتوافقه الرأى أو حتى توحى له بذلك، وإلا اعتبرك عدوه الذى جاء ليحاربه فى مصدر رزقه «الذى لم يفصح عنه فى الأساس»!!
حينما يطمئن لك البدوى فلن يناقشك حتى إذا قبضت روحه.. هذه الطبيعة أعلمها علم اليقين بحكم تجارب عديدة سابقة، ولهذا سعيت منذ وصولى إلى هذه البلدة للحصول على «صك الأمان» من سكانها، وبعد نجاحى ولو جزئياً فى ذلك أصبحت أجوب المدينة بحرية تامة وبترحاب شديد، أحادث من أشاء وأجالس من يروق لى، وأسأل من أرى أنه سيجيب، فقررت العودة لسؤالى الأول «ماذا تعملون»..؟
«التجارة هى باب الرزق الوحيد لهذه المدينة».. بهذه الجملة بدأ الدكتور فؤاد الزوام، وهو طبيب صيدلانى تعرفت عليه عبر صديق مشترك من واحة سيوة، إجابته على سؤالى، موضحاً أن جغرافيا المدينة جعلتها بلا رقعة زراعية ولا صناعية، كما أن التشديد الأمنى قضى على مهنة الصيد، ومن ثم لم يكن أمام أكثر من 80% من سكان السلوم سوى العمل فى التجارة عبر المنفذ الحدودى مع ليبيا وبعيداً عن المنفذ ايضاً، وما لم يذكره الدكتور فؤاد الملقب بـ«فيلسوف السلوم» هو أن التجارة ليست سوى وصف مقنن لـ«التهريب».
فيم يتاجر أهل السلوم؟.. هذا كان سؤالى البديهى الثانى، فهذه المدينة مغلقة أو حبيسة وليس أمامها سوى منفذ حدودى يحتاج عبوره إلى تأشيرات وتصاريح وجمارك، فهل التجارة التى يقصدونها هى الاستيراد والتصدير؟.. هريدى المرازيقى، أحد تجار السلع الغذائية بالسلوم، قدم لى تفسيرات وافية لما سألت، قائلا: التجارة لدينا تقوم على جلب البضائع من ليبيا، خاصة أن كافة أبناء محافظة مطروح يتمتعون بأحقية دخول الأراضى الليبية دون الحاجة لتأشيرة أو تصريح، فقط يدفعون رسم عبور يقدر بسبعة جنيهات مصرية، ومن ثم فهم يستطيعون دخول ليبيا وشراء البضائع والعودة بها إلى السلوم.
«العصا والجزرة».. بهذه الجملة وصف الدكتور فؤاد التعامل الأمنى مع أبناء السلوم فى عملية التجارة، موضحاً أن جهاز أمن الدولة المنحل كان يسيطر على مجريات الأمور فى المدينة ومنفذها الحدودى، فكان حينما يرضى على الناس يتركهم يمارسون تجارتهم، ولكن حينما يغضب يكون إغلاق المنفذ أمام التجارة والرزق وسيلته العقابية الأسهل والأقوى مفعولاً.
«حدثنى عن مجتمعكم؟».. هذا السؤال عدت به إلى صديقى «ربيع» أو أبنودى السلوم، فبدأ إجابته بتقسيم فئوى يعكس عنصرية داخلية تحدث عنها بمرارة قائلاً: «مجتمعنا ينقسم إلى فئتين، الأولى أقصى اليمين وهى فئة المتعلمين والذين لا يزيد عددهم على 180 فرداً، من أصل 12 ألف نسمة قابعين فى أقصى اليسار، حيث الحياة الجامدة والطباع القاسية الغليظة، التى لولا الاحترام والالتزام القبلى لتحولت إلى قاتلة». ويضيف «ربيع»: المتعلمون أو المثقفون فى هذه المدينة تجدهم يعيشون عزلة فرضت عليهم بحكم أنهم أقلية، ولأن القاعدة العريضة غير متعلمة ولا تقبل بآرائهم وتعتبرها غير سديدة ومخالفة للأعراف، لدرجة أنك قد تجد رئيس المجلس الأعلى للمدينة غير متعلم، بينما أعضاء المجلس من حملة الشهادات العليا مثلاً، وهذا بحكم القبيلة ويتم بالتزكية ولا خلاف عليه بيننا، لأنها عادات تربينا عليها ونحترمها.
«البطالة أكبر مشاكل القلة المتعلمة».. بهذه الجملة انضم عبد الباسط ذكرى، الذى يعمل موظفاً بمجلس المدينة والحاصل على ليسانس آداب، إلى حديثنا عن فئات المجتمع السلومى، موضحاً أن متعلمى المدينة يعانون البطالة بسبب حرص الدولة على منح الوظائف الشاغرة فى المدينة لـ«أبناء الوادى» وهو أبناء المحافظات الأخرى وخاصة محافظات الدلتا.
عبدالباسط يقول: «هذا التمييز غير المقبول أصاب المدينة ومثقفيها فى مقتل، لأنه رسخ لدى أولياء الأمور دوافع كبيرة لعدم تعليم أبنائهم، فلماذا يعلمونهم ويهدرون وقتهم الذى يجلبون فيه الكثير من المال عبر التجارة، مقابل شهادة أشبه برخصة البطالة تضعهم فى بوتقة التكبر على العمل بالتجارة وتحمل السخافات والإهانات التى قد يواجهونها خلال عملهم فى المنفذ».
«زيارة السيد كوسوفو وراء تجميل المدينة».. بهذه الجملة أجابنى الدكتور «الزوام» على سؤالى حول بقايا الحداثة التى أرى أطلالها فى الكثير من جنبات هذه المدينة، وخاصة فى شارع الكورنيش الذى وجدته أكثر متنفسات العالم «اختناقاً»، فمن هو السيد كوسوفو هذا؟ ولم جملت المدينة بسببه..؟ وكيف تحول التجميل إلى قبح لا يطاق؟
يقول «الزوام»: «مع بداية العام 2006 لاحظ جميع أهالى السلوم زيارات مكثفة واهتماماً غير عادى من قبل مسؤولى المحافظة وقيادات عليا فى الدولة بهذه المدينة الصغيرة، أثمرت عن عمليات ومشروعات مكثفة لتجميل السلوم، وفى البداية ظننا أن المسؤولين أيقنوا أخيراً أننا بشر يستحقون الحياة، لكن ما أجهض هذا الظن هو أن عمليات التطوير كانت آناء الليل وأطراف النهار، كما أنها كانت شكلية، بل وجبرية فى أحيان كثيرة، وحينما سألنا عن السبب علمنا أنه فى التاسع والعشرين من مارس 2006، ستشهد مدينتنا ظاهرة طبيعية تكون محط أنظار العالم، هى كسوف الشمس، وقتها أيقننا أن السيد «كوسوفو» وهو اسم أطلقته على هذه الظاهرة لأهميتها وتأثيرها الإيجابى فى المدينة، سيزور المدينة رغما عن أنف المسؤولين الذين لم يفاجئهم الحدث فحسب، بل فوجئوا بأن الرئيس السابق نفسه سيأتى إلى السلوم لمشاهدته على الطبيعة، وهو ما دفع قيادات المحافظة برئاسة المحافظ الأسبق الفريق الشحات أو الحاكم بريمر كما كان نلقبه، إلى مواصلة الليل بالنهار لتجميل السلوم ولو حتى ظاهرياً لحين إتمام هذه الزيارة، فتم إنشاء الكورنيش وترميم المنازل ودهان الواجهات بلون موحد، بجانب التخطيط والتشجير وإنشاء موقف نموذجى للسيارات والأتوبيسات، فشعرنا جميعاً فى أسابيع معدودات بأننا أصبحنا مواطنين مصريين حتى ولو بالصدفة».
«لأن التجميل لم يكن لنا لم نرحب نحن به».. هكذا فقط التقط الحاج عليوة، أحد أبناء السلوم وتجارها، أطراف الحوار الخاص بأسباب تحول هذا التجميل والتطوير إلى أطلال رغم قصر المدة الزمنية، موضحاً أنه بمجرد مغادرة مبارك السلوم بعد زيارة قام بها لمتابعة كسوف الشمس دون أن تطأ قدماه أرض المدينة أو حتى يسأل عن أحوال سكانها، انصرف الجميع أيضا عن السلوم تاركين لأبنائها تطويراً قشرياً غير مخطط له، ارتبط بين الناس بذكرى مهينة، فكان من الطبيعى جداً أن يمحوا آثار هذه الذكرى، فتحول الكورنيش مثلاً إلى مقلب للقمامة، وقام الأطفال بخلع بلاطه، وتم هدم الأرصفة، وعاد موقف السيارات إلى حالته اللا إنسانية وانطفأت الكشافات ليتسلم الظلم مأواه الأبدى بيننا».
«زيارة واحدة تكفى للوقوف على بؤس الحالة التعليمية فى السلوم».. لأن التعليم هو مقياس أو بوصلة تقدم الشعوب، توجهت بزيارة إلى إحدى مدارس السلوم الابتدائية باعتبارها المفرخ الرئيسى لأجيال هذه البلدة، فكانت الفجيعة.. بمجرد دخولى مدرسة السلوم الابتدائية فوجئت بأطفال مكتظين فى فناء متناهى الصغر بينما الفصول خاوية على عروشها، فتوجهت إلى مدير المدرسة لأجده مختفياً بين أكوام من الورق فى مشهد أعادنى إلى موظفى عصور أفلام الأبيض والأسود، بينما كان المدرسون كل يبكى على ليلاه فى أحاديث جانبية قطعتها بسؤال مباشر عن أوضاع المدرسة بتلاميذها ومدرسيها ومجراها التعليمى، فجاءتنى الإجابة سريعة ومباشرة، بل بصوت رج أركان الحجرة «زى الزفت».. هذه الإجابة لم تخرج على لسان المدرسين أو المدير أو حتى التلاميذ، لكنها جاءت على لسان عم مصطفى، فراش المدرسة أو بوابها، فهو من أبناء السلوم ويدين له العاملون بالمدرسة بفضل الدفاع عنهم وصد أى هجوم من أولياء الأمور أو حتى التلاميذ أنفسهم.
خرجت من هذه المدرسة عاقداً العزم على سماع المزيد من أساطير التعليم فى الألفية الثالثة فذهبت إلى إحدى المدارس الفنية بالمدينة، لأجدها وكراً للأشباح لم يطأه بشر منذ بداية العام الدراسى إلا قليلاً، اللهم إلا بعض المدرسين كانوا فى طريقهم لباب الخروج، ومدير يائس يعيش فى الحجرة المخصصة لحارس المدرسة، فتوجهت إلى المدرسة الثانوية فلم أجد أحد.
«التعليم كالماء والهواء».. جملة تتضمن ثالوث الحياة فى المجتمعات المتحضرة، لكن فى السلوم التعليم يرثى له، والهواء خانق كثانى أكسيد الكربون بفعل القمامة المتراكمة فى غالبية الشوارع، فماذا عن الماء..؟.. للمياه فى السلوم قصة تاريخية يرويها عبدالباسط ذكرى، الموظف بمجلس المدينة قائلاً: «كنا فى القدم نشرب من مياه النيل التى كانت تصل إلى المدينة بقطار متهالك من الإسكندرية، ليفرغها فى خزانات مركزية كانت غاية فى التلوث ومشبعة بالطحالب، ثم يتم يتوجيهها عبر مواسير إلى مكان مركزى تملأ منه عربات المياه الأشبه بعربات الكسح، وتذهب بها إلى المواطنين كل حسب حصته نصف الشهرية». ويضيف «ذكرى» رغم هذه المعاناة، كنا سعداء جداً لكوننا نشرب من النيل، وكانت أزمتنا الوحيدة، حينما يتعطل القطار، فكنا نلهث عطشاً، إلى أن سعت الدولة لحل هذه الأزمة فأنشأت محطة لتحلية مياه البحر، وتوقف القطار وانقطعت عنا مياه النيل وأصبحنا نشرب مياهاً محلاة، لكنها لا تصلح حتى للاستحمام بشهادة الكثير من المتخصصين.
«المستشفى مبنى وطبيب.. والعلاج جواب تحويل إلى مطروح».. هكذا تحدث أحد أطباء المستشفى، مؤكداً أنهم يخشون حتى إجراء عمليات الولادة خوفاً من أى مضاعفات قد تواجه الحوامل، والتى لا يستطيعون اجتيازها مثلا لعدم وجود بنك دم.
آخر ليلة قضيتها فى السلوم لبيت خلالها دعوة لزيارة «وكر» الأقلية المثقفة بالسلوم، وهو «روف» أو سطح لمنزل أنيق أشبه بفيلا يغلب عليها الطابع السيوى أو البدوى، هناك التقيت 7 رجال تجاوزوا العقد الرابع من أعمارهم، وتحدثنا عن أوضاع مصر الثورة، وهو الحديث الذى حوّلت مساره إلى «السلوم- الثورة»، وذلك عبر سؤال مباشر وجهته للجميع، هو لماذا ثُرتم، وما الحصاد الذى تنتظرون؟
«العنصرية أهم الأسباب».. إجابة قطعت سؤالى من سرعتها، فوجهت نظرى للمجيب لأجده الحاج عليوة قدورة، الذى زاد بالقول: «أنا لا أحب أبناء الوادى، وهذا الشعور بالتأكيد ستجده راسخاً لدى غالبيتنا، وأسبابه تكمن فى كونه رد فعل لكرههم لنا وسخريتهم منا». ويضيف: «لرئيس السابق نفسه كان حينما يأتى فى زيارة إلى مطار برانى مثلاً، يجد فى استقباله أعضاء مجلس الشعب وقيادات المدينة، فكان دائماً يسخر منهم ويشكك فى انتمائهم بالقول إيه أخبار الراجل بتاعكم قاصداً القذافى».
أخذ الحديث عن الهوية والانتماء وقت اللقاء تقريباً، وبعد هذه الجلسة لم يكن أمامى سوى حزم حقائبى وشد الرحال إلى طرف جديد من أطراف مصر، وفى قلبى وجع قررت أن أتناساه ليتسع المجال للمزيد من الأوجاع فى باقى المدن الحدودية.
تلال القمامة ومخلفات ذبح الطيور «متحللة» بطول الشاطئ
«هذا التحذير لا يحمل أدنى مبالغة، لأنه خلاصة تجربة خضتها عبر محاولات مريرة للسير على كورنيش هذه المدينة الذى يبدو للوهلة الأولى سياحياً، لكن بمجرد الاقتراب منه ستجد يدك تسد أنفك لا إرادياً لتمنع عنك رائحة قذرة نفاذة مصدرها مخلفات وتلال قمامة تحللت بطول الشاطئ، وأحشاء وريش طيور تتراقص مع الأمواج، فى مشهد وبائى لا تستطيع الصمود أمامه سوى دقائق معدودات». النظافة سلوك بشرى فى الأساس، لكنى أضعها فى مقدمة الخطوط العريضة لإدارتى للمدينة بهذه الجملة حدثنى عبدالفتاح الغفار الملاح، رئيس مجلس مدينة السلوم عن تدنى أوضاع النظافة فى المدينة، لافتاً إلى أن الناس والمسؤولين فى هذه المدينة لم يعتادوا على النظافة إلا قبل أن يأتى المحافظ لزيارتهم فقط. و«الملاح» الذى يعد أول رئيس «مدنى» للمدينة، بل من أبنائها أيضاً يقول: «من أكبر وأخطر العقبات التى أواجهها منذ أن توليت هذا المنصب هى النظافة، فالناس هنا تلقى بالقمامة على الكورنيش، وهو ما يفعله الحلاقون وأصحاب محال الطيور، لأنه لم يكن لديهم أى مكان آخر يجمعون فيه القمامة، لكننا الآن بدأنا فى توفير صناديق للقمامة المجمعة.
الناس فى «عزبة عمر».. هجروا العمار «مجبرين».. والرعى مهنتهم
على بعد 40 كيلو متراً من السلوم بموازاة الشريط الحدودى الغربى، يقطع لوحةالصحراء الانسيابية ومترامية الأطراف، عشرات الخيام وعشش الصفيح تناثرت على مسافة امتدت بطول أقرب للكيلو مترات الأربعة، فى تجمع سكنى عاد مئات السنين للوراء، حيث الجاهلية وعصور ما قبل الميلاد، أطلق عليه قاطنوه «عزبة عمر» نسبة إلى كبيرهم الذى رحل عنهم ليخلفه ولده فى حكمهم.
بمجرد وصولى هذه الرقعة غير المتصلة تماماً بالوطن، وقبل نزولى من السيارة، شاهدت أطفالاً يلهون مع الشاة وكأنها إحدى فقرات السيرك، وآخرين فى سن الرضاعة يحبون فى اتجاهات مختلفة حول العشش، ووسط الرمال، دون اكتراث من ذويهم بما تحويه الصحارى من زواحف قاتلة.
«احنا عايشين هنا ببركة ربنا».. إجابة فطرية تحمل الكثير من علامات الرضا، جاءت على لسان شاب فى منتصف الثلاثينيات، يدعى عوض حسان، راعى غنم، رداً على سؤال غير دبلوماسى بالمرة وجهته إليه منفعلاً «كيف تعيشون هنا؟؟»، مؤكداً أنه يعيش فى هذا المكان منذ مولده، دون أن يشهدوا أى مسؤول أو تغيير فى حياتهم، منعدمة الخدمات والأساسيات.
ويقول عوض الذى يعول زوجة و5 أطفال بجانب والدته: «منذ أن هجّرنا الجيش من أراضينا بهضبة السلوم دون أن توفر لنا الدولة البديل، لم يكن أمامنا سوى اتخاذ هذه الأرض مسكناً ومحلاً للعمل حيث نعمل جميعاً إما فى رعى الأغنام للغير أو فى الزراعة».
وعن أوضاعهم الاقتصادية والخدمية، تحدثت «أم عوض» التى انضمت لحديثنا قائلة: «لو توافر معنا المال نرسل بعضنا لشراء الأرز والسكر والجبن والدقيق من سيدى برانى، أما إذا شحت النقود نكتفى بأكل العيش والبطيخ، الذى نزرعه ونخزنه ليبقى لدينا طوال العام».
هنا تدخل الشيخ على عمر، عمدة العزبة قائلاً: «الخيام دى بتبقى شديدة الحرارة فى الصيف وقاسية البرودة فى الشتاء، كما أنها لا تقينا من السيول، التى عندما تهب علينا نتجمع كلنا فى مكان واحد لنحتمى ببعضنا البعض، حتى توقف الأمطار، والعام الماضى تسببت الرياح والسيول فى إصابة أحد أطفالنا بالشلل، كما أصيب آخر بالصمم».
وعن طبيعة حياتهم، قال الشيخ على، المتزوج من اثنين، والذى يعول 20 ولداً وبنتاً: «ماننام فيه نصبح عليه، فحياتنا بلا جديد نحن نخرج فى النهار للرعى أو الزراعة، ونعود قبل حلول الظلام لنأكل وننام وحينما يكبر أولادنا نفرش لهم خيام لنزوجهم فيها»، وحينما سألته عن التليفزيون قال: «سمعت عنه فى إحدى المرات وأنا فى السلوم».