منذ عام وبضعة أيام، والمجلس الأعلى للقوات المسلحة يتولي إدارة شؤون البلاد، إثر خطاب اللواء عمر سليمان، نائب رئيس الجمهورية وقتها، في 11 فبراير 2011، الذي أعلن فيه «تخلي الرئيس حسني مبارك، عن منصبه، وتكليف المجلس بهذه المهمة». وجاء رد المجلس العسكري في شكل «بيان» أعلن فيه قبوله المسؤولية، مؤكدًا إنه «ليس بديلاً عن الشرعية التي يرتضيها الشعب» (بيان المجلس رقم 3 ).
وطوال هذه الفترة، أنشأ «العسكري» قنوات للتواصل الإعلامي مع جموع الشعب المصري، يعلن من خلالها عن تعهد، أو يوجه مطلب، أو يوضح موقف، أو يرد على اتهام. وهي القنوات التي كان بعضها تقليديًا مألوفًا مثل المؤتمرات الصحفية والخطابات والتصريحات التلفزيونية والبيانات التي تنشر بالجريدة الرسمية، وغيرها مستحدثاً تمثل في تدشين صفحة للمجلس على موقع التواصل الاجتماعي«فيس بوك»،يوجه من خلالها رسائل عديدة بلغت 98 رسالة يوم 10 فبراير 2012.
وعبر كافة تلك القنوات، التقليدية وغير التقليدية، وجّه المجلس رسائلاً إعلامية مثلت في مجملها خطابا يوضح كيف يرى صاحب الخطاب «المجلس العسكري» ذاته ودوره، وكيف ينظر للآخرين.
ونحن هنا نقدم قراءة تحليلية لـ 125 مادة، انقسمت إلى 7 بيانات، و99 رسالة على «فيس بوك»، و10 مؤتمرات صحفية لأعضاء المجلس، و9 خطب وكلمات وتصريحات رئيسية للمشير محمد حسين طنطاوي، وذلك في الفترة الممتدة من 10 فبراير 2011 حتى 10 فبراير 2012، لنحاول معرفة «كيفية تقديم المجلس الأعلى للقوات المسلحة لنفسه من حيث الصفات والأدوار»، و«الإطار الذي قدم فيه الفاعلين الآخرين داخل خطابه الإعلامي». كما سنتعرض بالتحليل، للمقولات الرئيسية التي قدمها ذلك الخطاب، والبراهين التي ساقها للتدليل على الأحكام أو التفسيرات أو التعهدات، التي تضمنها خطابه.
أولاً ـ كيف يقدم المجلس نفسه:
تكشف كيفية تقديم المجلس لنفسه عبر خطابه الإعلامي الرسمي، عن القناعات الرئيسية لطبيعة الدور الذي يؤديه وعلاقته بالفاعلين الآخرين، وهو ما يفسر العديد من الإجراءات أو القرارات التي يتخذها بناء على ذلك، ويظهر تحليل هذا الخطاب التماهي الشديد بين القوات المسلحة والمجلس العسكري، ورفض الأخير أي فصل في الوصف أو الدور بينهما، وهو ما جاء صراحة على لسان المشير طنطاوي، في الفيوم، 2 أكتوبر الماضي، عندما أكد أن المجلس العسكري «جزء لا يتجزأ من القوات المسلحة».
ولعل ذلك يعكس إصرار المجلس على تقديم صفته العسكرية كمجلس أعلى للقوات المسلحة، على صفته السياسية كحاكم لمصر يمثلها رئيسه في كافة المحافل المحلية والدولية، ويفسر مطالبته المنتقدين لقراراته بمراجعة مواقفهم الوطنية، طالما أن المجلس والقوات المسلحة، التي هي «درع وحصن الأمان لهذا الشعب»، باتا كياناً واحداً لا يتجزأ.
ووفق النتائج التي أسفر عنها تحليل الخطاب الإعلامي الرسمي للمجلس، وأخذاً في الاعتبار حالة التماهي المذكورة، يمكن تحديد ثلاثة أدوار رئيسية للمجلس قدمها لنفسه من خلال خطابه الإعلامي
1ـ حامي الثورة:
حرص المجلس الأعلى للقوات المسلحة في بيانه الأول يوم 10 فبراير الماضي، على إعلان تأييده لمطالب الشعب المشروعة، وهو ما تكرر نصًا في بيانه الثاني، وكذلك في أول رسالة أطلقها على موقع فيس بوك يوم 17 فبراير الماضي، التي تحدثت عن «دور القوات المسلحة الرائد في حماية المتظاهرين».
ففي الرسائل الإعلامية المبكرة للمجلس، تم وصف القوات المسلحة بـ«الحامية والضامنة لأهداف ومطالب هذه الثورة العظيمة»، وهو الدور الذي تم تحديد معناه في «موقفها المنحاز للثوار منذ بدء الثورة والتعامل، والتعهد بعدم التعامل، بأي صورة من صور العنف مع أبناء هذا الشعب العظيم» (رسالة 24 – 26 فبراير 2011)، حتى أصبحت «حماية الثورة» لازمة متكررة في خطاب المجلس الإعلامي ليبلغ إجمالي عدد الإشارات إليها «31»، مرة خلال فترة الدراسة.
واتبع خطاب المجلس لهجة عنيفة عند التشكيك في ولائه للثورة واتهامه بالضلوع في «ثورة مضادة» ضد الثورة، وهو ما رد عليه المجلس برسالة، في 18 فبراير الماضي، اتهم فيها مرددي هذه «التعبيرات المستحدثة» بـ«محاولات إحداث الفتنة بين النسيج الوطني لهذه الأمة»، واصفًا إياها بـ«مخططات لا تتفق مع أخلاق وعادات أبناء هذا الوطن الغالي».
وعلى الرغم من تصريح المشير محمد حسين طنطاوي، أثناء حفل تخريج دفعة استثنائية من أكاديمية الشرطة، 16 مايو الماضي، بإنه «لم يطلب مننا في القوات المسلحة أو المجلس الأعلى للقوات المسلحة، لم يطلب أحد مننا استخدام النيران علشان دي شهادة حق وشهادة صدق ربنا هيحاسبنا عليها»، وتكراره لنفي إصدار القيادة السياسية أي أوامر بإطلاق النيران على المتظاهرين إبان الثورة، في الفيوم، 2 أكتوبر الماضي، مؤكداً صدقه في ذلك من منطلق شخصيته كقائد ومقاتل، إلا إن الخطاب الإعلامي للمجلس ظل يؤكد على دور «حماية الثورة»، ليس فقط في البيانات الصادرة عن المجلس وإنما في كلمات المشير نفسه، وفي نفس الكلمة التي تضمنت نفي أوامر إطلاق النار، في أكاديمية الشرطة، حيث تحدث عن تكليف القوات المسلحة بنزول الشارع لـ«مساعدة الشرطة»، لافتًا إلى إن «كل المجموعة بتاعت المجلس الأعلى للقوات المسلحة كان القرار بتاعها عدم فتح النيران على الشعب».
وليس وجه التناقض في هذا الشأن نفي صدور أوامر بإطلاق النار على الثوار والحديث عن تأييد القوات المسلحة للثورة، وإنما تمثل وجه التناقض في النفي ثم الحديث عن «اتخاذ قرار» بعدم إطلاق النار عقب مشاورات داخل المجلس أو حماية القوات المسلحة للمتظاهرين، إذ ينتفي الرفض بانتفاء الطلب وتنتفي الحماية بانتفاء الخطر، الأمر الذي يعكس قدرًا من عدم الاتساق داخل النص الإعلامي الموجه للجمهور، بما يؤدي للارتباك في فهم المعنى.
والجدير بالذكر هنا، إن التأكيد على دور المجلس والقوات المسلحة في حماية الثورة، كان يستفيض ويتعاظم داخل خطاب المجلس عند مواجهة اتهامات عنيفة كالتي واجهها إثر أحداث شارع «محمد محمود»، إذ خصص المشير 598 كلمة من إجمالي 874 كلمة، هي إجمالي خطابه، أي أكثر من 68%، للحديث عن حماية القوات المسلحة للثورة وما تعرضت له من تجريح ومزايدة وما واجه المجلس من عقبات لم تخلو من التخطيط المغرض، في سرد تخلله ذكر الثورة 3 مرات، مرتان منهما لدى التأكيد على دور القوات المسلحة في حمايتها واتخاذ قرار بعدم إطلاق الرصاص.
2ـ درع الوطن الذي ينأى بنفسه عن الصراع:
ظل الخطاب الإعلامي للمجلس يؤكد على دوره الوطني كحامي ومنقذ وليس طرفًا في الصراع، ذو مصلحة أو يسعى لسلطة، فهو «يستمع، ويتحاور، ويتواصل ويبذل الجهود»، «لا يطمح في الحكم ولا يبغي إلا وجه الله والوطن» (خطاب المشير، 22 نوفمبر الماضي)، وهو درع الوطن وحاميه والشعب المصري «ليس له سند وليس لمصر سند ولا توجد قوة تحمي مصر الآن من كل ما يوجه لها من تهديدات ومؤمرات إلا القوات المسلحة» (اللواء مختار الملا، مؤتمر صحفي، 24 نوفمبر الماضي).
ومن منطلق هذه المهمة الوطنية، أكد المجلس، في رسالة رقم «59»، يوم 29 مايو الماضي أنه «لم ولن يقفز على السلطة في مصر، احترامًا للشرعية والتزامًا بمبادئ وقيم المؤسسة العسكرية العريقة”، وإنما يعمل «بكل جدية وإخلاص من أجل إنهاء الفترة الانتقالية لتسليم البلاد إلى سلطة مدنية منتخبة بشكل ديمقراطي من الشعب».
واتجه المجلس، من منطلق دوره كمظلة وطنية، إلى توجيه الإرشادات، في رسالته رقم 59، يوم 29 مايو الماضي، إلى تلك القوى المتناحرة لـ«نبذ الخلافات وتوحيد الجهود والإيمان بأن الرأي النهائي دائما للشعب» ولتأكيد أنه غير طرف صراع وحامي للوطن يتعهد بإن« القوات المسلحة لن تسمح لأي من كان بالقفز على السلطة دون موافقة الشعب».
قدم المجلس نفسه باعتباره غير طرف في صراع، وإنما مظلة وطنية تسعى للتوافق في فترة أزمة وصراع وخلاف، «يتواصل مع أبنائه» كما جاء في رسالته رقم 2، يوم 17 فبراير الماضي، و«يتابع كافة تساؤلات الشعب المصري وشباب ثورة 25 يناير»، بحسب رسالته رقم 6، يوم 21 فبراير الماضي، ويتعامل «مع كافة القوى الوطنية للشعب المصري دون انحياز أو إقصاء لأيًا منها»، كما أكد في رسالته رقم 59 يوم 29 مايو الماضي، من أجل «تحقيق التوافق الوطني خلال هذه الفترة التاريخية» (رسالة رقم 60 – 30 مايو 2011).
وحدد «العسكري» دوره في المرحلة الانتقالية، عبر الرسالة رقم «31»، 2 إبريل الماضي، باعتباره دورًا وطنيًا محضًا يرتكز على «المحافظة على تماسك نسيج هذا الوطن بكل فئاته وأطيافه دون تحيز أو تمييز وبما يضمن الحفاظ على سلامة مصرنا الغالية داخليًا وخارجيًا»، وبذلك فإن هذا الدور الوطني ينأى عن التصارع أو التمسك بسلطة من منطلق إن «القوات المسلحة ليست ولا يجب أن تكون طرف يستعدى أحد، ولكنها مصرية مؤسسة وطنية شريفة تعهدت بتحمل المسؤولية للانتقال بهذا البلد لتحقيق أهداف الثورة العظيمة وليس لها أهداف غير هذا إطلاقا، ومن يزايد على هذا فعليه أن يراجع موقفه الوطني لأنه يحتاج إلى المراجعة»، كما قال اللواء محمود حجازي، في مؤتمر صحفي، عقده 12 أكتوبر الماضي.
وظل المجلس يؤكد على هذا «الدور الوطني» في احتواء الأطراف المختلفة، حتى الرسائل الأولى في عام 2012، حينما أكد المجلس، في الرسالة رقم «1»، يوم 21 يناير، أن «عقولنا تتسع لكل الأفكار والآراء، وأن قلوبنا تسع كل أبناء مصر وفي الصدارة منهم شباب الثورة النقي الطاهر دون إقصاء لحركة أو إئتلاف ، ودون إنتقاء أو استثناء»، ووصولاً إلى آخر الرسائل التي شملتها الدراسة، والذي سمى السلطة فيها بـ«الأمانة»، وتتضمن صياغات ذات طابع عاطفي، عن موقف «الجيش» الذي كان «سندا قوياً للشعب وعمادا وحيدا للوطن عند مفترق طرق حاسم بين الصمود والانتكاس حين غاب الأمن وعز الأمان وانفتحت السجون وعربدت جماعات الإجرام حين تداعت مؤسسات الدولة الدستورية وتفككت أجهزة الأمن والنظام وفرض القانون»، رسالة «5»، يوم 10 فبراير الجاري.
ولعل ذلك يفسر اعتبار المجلس أي اتهام له بالاعتداء على المتظاهرين أو الطمع في السلطة أو سوء إدارة الفترة الانتقالية بإنه نوع من الإساءة للسمعة والتجريح والتخوين، من منطلق الدور الوطني الذي يقدم نفسه من خلاله، بل إنه تم التعبير عن ذلك صراحة بالتساؤل، علي لسان اللواء عادل عمارة، في مؤتمر صحفي، 12 أكتوبر الماضي: «كيف يمكن أن يوجه الاتهام للمجلس الأعلى للقوات المسلحة وهو على رأس هذه المؤسسة العظيمة اللى حمت مصر وحمت الثورة فى 25 يناير من بدايتها ولولا وجود هذه المؤسسة العظيمة وهذا المجلس العظيم ما كانت الأحوال تبقى فى مصر فى الشكل اللى احنا موجودين فيه إن شاء الله فى المستقبل، وإنتوا شايفين العالم كله شكله ايه»
3ـ مصدر الحقائق:
دائما ما يصف «العسكري»، ما يوجه إليه من اتهامات بـ«الشائعات، والأكاذيب»، فيما يصف ما يعلنه من معلومات وتصريحات، لم تخلو في كثير من الأحيان من اتهامات لأطراف مجهولة أو معلومة، بـ«الحقائق التي لا تقبل الشك».
ففي أحداث ماسبيرو، ورغم إذاعة تسجيلات مصورة لدهس المتظاهرين، عقد المجلس مؤتمرًا صحفيًا في 12 أكتوبر الماضي، اتهم فيه اللواء عادل عمارة، عضو المجلس، البعض بالانحراف عن «المسار الطبيعى، المؤدى للحقائق الكامنة للأحداث التي وقعت وبشكل لا يخلو عن سوء النية»، معلنًا إنه سيرد على ذلك «من خلال الأرقام والبيانات بكل دقة وشفافية».
وعند النظر إلى مضمون المؤتمر، الذي استهل بالإعلان عن اعتزامه إعلان «حقائق» من «أرقام وبيانات» نجد إنه حدد تلك الحقائق في عدم تسليح عناصر التأمين بذخائر، ووجود دعوات للتحريض قبل وبعد المظاهرة، ثم استخدام عناصر داخل التظاهرات لسيوف وأنابيب بوتاجاز وسنج وإشعال الحرائق في سيارات القوات المسلحة، استنادًا إلى تسجيلات مصورة تم عرضها في المؤتمر.
ولم يقدم المؤتمر تفسيرًا واضحًا لدهس المتظاهرين بالمدرعات، بل وشهد حالة من عدم الاتساق بين الإعلان عن إحالة الأمر للتحقيق، والجزم بأن القوات المسلحة لم تقتل المتظاهرين بل واعتبار اتهامها بذلك نوع من «الجحود» لدورها في تأمين المنشآت الحيوية، ثم سرد «عمارة»، مجموعة من التقييمات الذاتية عن الحالة النفسية التي قد تنتاب الجنود وقد تؤثر على قيادتهم للمدرعات.
وتكرر نفس الموقف في الأحداث التالية بشارع محمد محمود ومجلس الوزراء، التي سرعان ما يتم فيها كيل الاتهامات للمتظاهرين «الذين لا يمكن أن يكونوا من شباب 25 يناير الأطهار»، والحديث عن المؤامرات الرامية لإسقاط الدولة، وتبرير أي اعتداء ترتكبه قوات الجيش والشرطة، وهو الأمر الذي سيتم عرضه بشيء أكثر تفصيلاً لاحقًا.
ويمكن القول إن الافتقاد للتوازن في تقييم الأحداث يتعارض بشكل كبير مع الصورة التي يقدمها المجلس لنفسه باعتباره المظلة التي تحتوي كافة المواطنين وتتعامل مع الجميع دون تمييز وتقف على مسافة واحدة من كافة القوى. إذ إن القيام بهذا الدور لا يتطلب منه فقط الحديث بعض الحقائق، وإنما ينبغي عليه ذكر الحقائق كاملة دون تشويه.
ثانيًا ـ كيف يرى المجلس الثورة؟:
تضمنت كافة المواد الإعلامية الصادرة عن المجلس أوصافًا بالغة الإيجابية عن ثورة 25 يناير باعتبارها «من أعظم ثورات هذا العصر قياسًا لما ارتبط بمناخها من سلام وتسامح ورصيد عظيم من الحب لهذا البلد يؤهلها للانطلاق نحو آفاق مستقبل مشرق وواعد بإذن الله»، كما جاء في رسالته رقم 51، يوم 13 مايو الماضي، وإنها «وحدت الشعب المصري رجالاً ونساءً ، شباباً وشيوخاً ، مسلمين ومسيحيين ، تحت راية الوطن في ثورة سلمية كانت مثار إعجاب كل الأحرار في العالم»، رسالة «1»، 21 يناير الماضي،، أو على الأقل نفي السلبية عنها بأن «الهدف من الثورة لم يكن هدف سيء»، (كلمة المشير في تخريج دفعة استثنائية من أكاديمية الشرطة، 16 مايو 2011).
وأصبحت ثورة 25 يناير رمز طالما تم استدعائه في خطاب المجلس الإعلامي عند توجيه مطالب للجمهور بـ«الهدوء» وحفظ الأمن، أو عند الإعلان عن خطوات إيجابية اتخذها المجلس كحفظ التحقيق مع الرائد أحمد شومان (رسالة فيس بوك رقم 4)، أو قرار إعادة الإجراءات القانونية الخاصة بمحاكمة شباب الثوار أمام المحاكم العسكرية (رسالة رقم 50)، في تأكيد لجهوده من أجل تحقيق أهداف الثورة، أو الاعتذار عن «الاحتكاكات» مع المتظاهرين (رسالة 22).
وعلى النقيض من إيجابية الأوصاف المنسوبة لحدث الثورة ذاته، إلا أن أوصافًا سلبية سادت ما أعقبها من أحداث، حيث «كان في الأول فيه حماس وثورة.. ما حدث بعد ذلك في الشهور التالية حدث بعض السلبيات»، و«لم يكن لدينا فتنة طائفية وانما حاليا فيه في بعض المواقف نرى اننا لو استمرنا على ذلك، سيكون الموضوع في منتهى الخطورة على مصر» (كلمة المشير 16 مايو)، فـ«بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير التى فجرها شباب مصر، وحمل لواءها الشعب، وحمتها وتحافظ عليها القوات المسلحة، اختلفت الآراء وتشتت وظهرت أصوات التشكيك فى النوايا، وصاحبها بعض الأزمات والمخاطر على كافة الأصعدة وخاصة الأمنية والاقتصادية» (خطاب المشير في ذكرى 6 أكتوبر 2011).
ورغم إن هذا التعاقب لا يتضمن السببية المباشرة بين الثورة وتدهور الأوضاع، إلا إنه على الأقل يتضمن قدرًا من «الظرفية» بينهما، وهو ما يتضمن قدرًا من الإيجاز المخل الذي يوحي بتمام الأوضاع واكتمال انضباطها قبل الثورة، ثم انهيارها وتفككها عقبها.
كما تحدث المجلس عن الثورة باعتبارها امتداد تاريخي لكفاح طويل كان للقوات المسلحة دور بالغ فيه، وهو ما ظهر بوضوح في خطاب المشير بمناسبة ذكرى ثورة 23 يوليو، حينما ربط بينها وبين ثورة 25 يناير في إشارة لاعتبار الأخيرة امتداد لذلك الكفاح.
ثالثًا ـ كيف يرى الثوار؟:
الفصل بين شباب الثورة والمتظاهرين في الفعاليات الاحتجاجية التي أعقبتها، إذ تم التمييز بين ثلاث فئات رئيسية من المتظاهرين.
الأولى:هم «شباب الثورة الذي يتمتع بالوعي والوطنية وهو على دراية بحجم المسؤوليات الملقاة على عاتق القوات المسلحة التي أيدت مطالبه المشروعة منذ اللحظة الأولى»، (رسالة فيس بوك رقم 24 – 26 فبراير 2011)، و«رووا بدمائهم شجرة الحرية والديمقراطية»، (رسالة 89 – 4 ديسمبر)، و«واجهوا القمع الوحشي بصدورهم» (رسالة 1 – 21 يناير).
الثانية:هم المشاركون في الفعاليات الاحتجاجية للعمال والموظفين أو ما أطلق عليها «الاحتجاجات الفئوية»، التي تم اتهامها بالتعامل بمنطق «التكية» متسببة في تراجع عائدات السياحة (تصريحات المشير في الفيوم، 2 أكتوبر 2011)، كما تم اعتبارها السبب المباشر في «تراجع الاقتصاد في مصر الذي يعاني معاناه كبيرة جدًا» وإنها تعطي «فرصة لمجموعة في منتهى الخطورة تسمى بالبلطجية - يركبوا فوق عملية الاعتصامات والإضرابات - لكي يوصلوا البلد لتحقيق أهدافهم غير الشرعية وغير المنطقية» (خطاب المشير، 16 مايو).
الثالثة:هم متظاهرون «اساءوا استخدام الديمقراطية»، وهم من نفى عنهم خطاب المجلس صفة الثورية، لأن «كل من يخرب في البلد ليس ثائر ومحتاج يراجع موقفه الوطني»، والذين تراوحت أفعالهم بين أنشطة إعلامية على القنوات التلفزيونية حتى تعطيل المصالح العامة، وفق ما أشار إليه اللواء محمود حجازي، عضو المجلس العسكري، في مؤتمر صحفي يوم 12 يوليو بقوله: «من يخرج يقول ايه في القناة واللى بيقطعوا الطريق واللى بيعطل حركة ايه هذا ليس ثائر يكدر الحياة العامة ويهدد مصالح الدولة».
وبعد ذلك اتجه المجلس إلى الحديث عن عدم تمثيل التحرير لكل الشعب المصري، فـ«إذا نظرنا لمن هم موجودين في التحرير أيًا كان عددهم فهم لا يمثلون كل الشعب المصري.. ميدان التحرير هو اللى بنستقبل منه التعبيرات». (اللواء مختار الملا، في مؤتمر صحفي، 24 نوفمبر الماضي).
الرابعة:«عناصر مدسوسة تحاول إفساد الثورة وإثناؤها عن أهدافها وإحداث الوقيعة بينها وبين القوات المسلحة» (رسالة فيس بوك رقم 24 – 26 فبراير)، حيث تم التأكيد على التفرقة بين هذه الفئة، وهم عادة المشاركين في فعاليات احتجاجية سياسية أعقبت الثورة وعارضت سياسات المجلس العسكري في فعاليات شهدت اشتباكات مع الأجهزة الأمنية، وبين الثوار، بل ودعوة شباب الثورة إلى مقاومة نشاطات هذه الفئة وإجهاضها حفاظًا على أمن وسلامة مصر (رسالة 65 – 29 يونيو).
ولا يمكن القول إن تلك الفئات الأربعة مثلت تطورًا في وصف خطاب المجلس الإعلامي للمتظاهرين، وإنما كانت تستخدم كلها بالتزامن، بل وداخل الرسالة الإعلامية الواحدة.
وظلت رسائل المجلس تتوجه إلى شباب الثورة، حتى مطلع فبراير 2012، حينما اختفت الجملة الشهيرة التي كانت تتصدر كافة الرسائل السابقة «استمرارًا للتواصل مع الشعب المصري العظيم وشباب الثورة»، وتم توجيه الحديث إلى «شعب مصر العظيم»، وانتقل توجيه الحديث من شباب الثورة إلى القوى الوطنية والسياسية (رسالة 3 – 3 فبراير الجاري). وانتقل الحديث من تحقيق أهداف الثورة وحمايتها إلى الحديث عن مكتساباتها (رسالة 4 – 6 فبراير 2012). ولعل ذلك يثير التساؤل عما إذا كان المجلس قد اتجه إلى اتباع خطابًا جديدًا مع انتقاله لعام جديد، يقصر الحديث عن الثوار على 25 يناير فقط، دون غيرها من الفعاليات التي يصف منظميها بالمتظاهرين أو البلطجية؟ وما إذا كان يتجه إلى استبدال توجيه الحديث إلى شباب الثورة بتوجيهه إلى إلى القوى السياسية في ظل استبدال من يمثل الشعب من قوى التحرير إلى قوى البرلمان؟ ولعل الرسائل الإعلامية القادمة هي التي قد تكشف عن مدى تحقق ذلك.
رابعًا ـ كيف يقيم دور القوى السياسية؟:
لم يرد ذكر أو دور واضح للقوى السياسية في خطاب المجلس الأعلى للقوات المسلحة، إلا بمطالبتها بالحوار وإنكار الذات وإعلاء المصلحة العليا للوطن في مواضع مختلفة من بياناته ورسائله، أو الحديث عن مساندة المجلس للقوى السياسية وحواره معها و«معاونة هذه التكتلات الموجودة منهم من أنشأ أحزاب والقوات المسلحة تحملت تكاليف انشاء الاحزاب ومنهم من القوات المسلحة بتقدم لهم المساعدة عشان يكون له تواجد في الشارع»، (اللواء ممدوح شاهين، في مؤتمر صحفي، 24 نوفمبر).
وفي المقابل وجه المجلس عدة رسائل تراوحت في درجة صراحتها وعنفها يعبر من خلالها على عدم الرضا عن بعض المواقف التي تتخذها بعض القوى السياسية، وكانت أقوى تلك الرسائل وأكثرها صراحة، الرسالة رقم 69 – 22 يوليو الماضي، التي وجه فيها المجلس اتهامات صريحة لحركة 6 إبريل بأن لها «أجندات خاصة» وتحرض «لزرع الفتنة بين الشعب والقوات المسلحة»، مع التحذير من «الانقياد وراء هذا المخطط المشبوه الذي يسعى إلى تقويض استقرار مصر والعمل على التصدي له بكل قوة».
كما وجه المجلس تلميحات أقل حدة في رسائل تالية، إذ تحدث عن «دعوات تحريضية لمهاجمة وحدات القوات المسلحة ووزارة الداخلية وتم نسبها إلى عدد من القوى»، وهو ما اعتبره «محاولة للتشكيك في النزعة الوطنية لهذه القوى وهو ما يضعها أمام مسؤوليتها التاريخية أمام الشعب» (رسالة 74 – 7 سبتمبر)، أي إنه يرسل بإشارات ضمنية إلى القوى السياسية التي قد تدعوا أو تساند فعاليات احتجاجية أمام المنشآت الأمنية إلى مراجعة موقفها مع تحميلها المسؤولية عن ذلك.
وكما سبق الحديث، فقد تبدل خطاب المجلس إلى الإشارة لإيجابية الدور الذي يمكن أن تقوم به القوى السياسة والوطنية عقب بدء أعمال مجلس الشعب، سواء بمناشدة «كافة القوى الوطنية والسياسية من أبناء هذا الوطن العظيم إلى سرعة المبادرة الإيجابية وتحمل دورها الوطني والتاريخي.. وتفويت الفرصة على المغرضين في إحداث المزيد من الخسائر سواء في الأرواح أو الممتلكات العامة أو الخاصة» (رسالة 3 – 3 فبراير الماضي)، أو الحديث عن تسليم سلطة التشريع لمجلس الشعب وفاء بتعهد تسليم السلطة لسلطة مدنية (رسالة 5 – 10 فبراير الماضي)
وقد تكون تلك الرؤية باستبدال قوى الثورة بالقوى السياسية أو قوى البرلمان، رؤية غير صحيحة في ظل توجيه المجلس خطابه إلى «القوى السياسية والوطنية»، بيد إن ما دفعنا إلى تقديم هذا الاستخلاص هو الاختفاء التام لمخاطبة شباب الثورة كعادة خطاب المجلس على مدار عام كامل، ثم الحديث عن دور القوى السياسية في تفويت الفرصة على المغرضين في إحداث المزيد من الخسائر (رسالة 3 – 3 فبراير)، واقتصار حديثه عن الشباب على ما فعلوه إبان الثورة وتضحياتهم من أجلها (رسالة 5 – 10 فبراير).
خامسًا ـ قوات الشرطة:
حرص خطاب المجلس على توجيه عبارات داعمة لدور رجال الشرطة، والتخفيف من تحملهم المسؤولية الكاملة عن حالة الانفلات الأمني التي شهدتها البلاد أو ما سماه المشير في كلمته في حفل تخريح دفعة استثنائية من طلبة كلية الشرطة يوم 16 مايو الماضي، «شئ من الضغط على الأمن»، معتبرًا إنه «مش من رجال الشرطة» الذين كانوا «مجروحين بس اللى حصل مش بايدهم»، مشيرًا إلى إن «الأغلبية العظمي من وحدات الأمن والشرطة شرفاء وكانوا يقومون بواجبهم على أكمل وجه وعلى أحسن صورة»، واصفًا ما حدث بوزارة الداخلية بـ«الشرخ»، الذي ينبغي سرعة تضميده.
وعلى مدار فترة الدراسة، وبالرغم من تكرر الأحداث التي شهدت «احتكاكات» بين الشرطة والمتظاهرين، حرص المجلس على التأكيد على عدم تحمل رجال الشرطة مسؤوليات القتل والاعتداءات أو على الأقل البدء في تلك الاعتداءات.
ففي أحداث شارع محمد محمود والتي شهدت سقوط نحو 40 قتيل و1500 مصابًا، أصر المجلس على تبرئة الشرطة من أية اعتداء، بل والحديث عن أي اتهام باعتباره شائعات وأكاذيب رغم تسجيلات الفيديو التي أظهرت استخدام العنف والخرطوش إزاء المتظاهرين وسقوط العشرات بين قتيل وجريح.
وأصر «العسكري»، على أن «المسؤول عن القتل هم البلطجية» (اللواء سعيد عباس، عضو المجلس العسكري، مؤتمر صحفي، 21 نوفمبر)، وأن «الشرطة لم تستخدم ذخيرة حية ولم تستخدم خرطوش، وطلع البعض وقال انهم استخدموا غازات سامة والبعض قال دا غاز الخردل والبعض قال ان الغاز طالع من محطات المترو كل واحد عمل قصة ونشرها عن الشرطة انا لا أدافع عن الشرطة انا بتكلم كلام حقيقي» (اللواء مختار الملا، مؤتمر صحفي، 24 نوفمبر).
وفي أحداث مجلس الوزراء، التي شهدت ذات الاعتداءات وسط سقوط عشرات الضحايا، وضع خطاب المجلس الإعلامي الشرطة في موضع المفعول به حيث لم يتم نسبة أي فعل بالاعتداء أو التجاوز إزائها، وإنما هي مدعى عليها ويصطدم بها من قبل متظاهرين أو على الأقل مدنيين «أساءوا استخدام الديمقراطية» أو مجهولين يسعون للتخريب، وبالمقابل فإن «جندي الأمن المركزي لا بيضرب ولا بيستخدم عنف ولا يكرر سياسات قديمة إحنا رفضناها» وإنما هو «يؤمِّن وزارة الداخلية»، (اللواء عادل عمارة، مؤتمر صحفي، 19 ديسمبر).
وحرص المجلس في العيد الأول للثورة، على الإشادة بدور رجال الشرطة، بل والحديث عن عودتهم بفكر جديد يحترم القانون والمواطن (كلمة المشير، 24 يناير 2012)، وهو الحديث الذي تزامن مع حالات عديدة للسطو والعنف، وأعقب اشتباكات عديدة شهدت اعتداءات من رجال الشرطة مع المدنيين، مع إعلان إحالة هذه الحالات للتحقيق دون أي إعلان عن نتائج أي من هذه التحقيقات.
ولا يقتصر تأثير هذا الخطاب الإعلامي الذي يقوم على تبرئة قوات الشرطة من أي تجاوز، مع إحالة أي اتهام إلى لجان تحقيق لا يصدر عنها أي نتائج، في التأثير سلبًا على خطط تطهير جهاز الشرطة فقط ـ وهو ما لسنا بصدد الحديث عنه هنا، ولكنه يؤثر في مصداقية الخطاب برمته، في ظل مشاهدة الجمهور لمشاهد الاعتداءات في وسائل الإعلام المختلفة، التقليدية وغير التقليدية، وسقوط ضحايا من شيوخ الأزهر وطلبة الجامعات والأطباء وغيرها من الأشخاص الذين لا ينطبق عليهم أوصاف البلطجة والتخريب التي ينسبها الخطاب الإعلامي لهم.
فهذا التناقض بين ما يتضمنه الخطاب، وما يشاهده الجمهور في وسائل الإعلام، يخلق حالة من اللبس التي قد تفضي إلى افتقاد الثقة في المعلومات الصادرة عن المصدر الرسمي الأول في فترة انتقالية تعاني العديد من الأزمات، تجعل من المواطنين بحاجة ماسة إلى المعلومات المدققة.
في الجزء الثاني نحلل تفسيرات «العسكري» للمواقف المختلفة:
هكذا تكلم «العسكري».. قراءة في تحولات خطاب المجلس الأعلى خلال عام من الحكم «2-2»