أحد أعمدة الفكر الإسلامى والعربى، استهواه التراث، فغاص فى ثناياه، باحثاً ودارساً وناقداً ومنظراً، قاد مشروع التجديد والحداثة فى فهم التراث العربى، حيث عكف عليه أوائل الثمانينات وتجسد فى كتاب «نحن والتراث»، معتمداً فيه منهجاً تحليليلاً متميزاً، تحليل العقل اللغوى والعقل الفقهى والعقل السياسى العربى. ولد «الجابرى» سنة 1935، بمدينة فكيك بالمغرب، ودرس بها ثم غادرها إلى مدينة الدار البيضاء. فى سنة 1967، حصل على دبلوم الدراسات العليا فى الفلسفة، ليعمل بكلية الآداب بالرباط كأستاذ مساعد. ويعد «الجابرى» واحداً من أشرس الذين خاضوا معركة التعريب بالجامعة المغربية، خصوصاً فى شعبة الفلسفة، وكان ذلك تحدياً كبيراً لدعاة الفرنسية آنذاك، وفى سنة 1970 حصل على شهادة دكتوراه الدولة فى الفلسفة، وكانت لجنة المناقشة مزدوجة (مغربية - فرنسية.(
الحداثة عند الفيلسوف محمد عابد الجابرى، لا تعنى رفض التراث، ولا القطيعة مع الماضى، بقدر ما تعنى الارتفاع بطريقة التعامل مع التراث إلى مستوى ما نسميه المعاصرة، أى مواكبة التقدم الحاصل على الصعيد العالمى. أثارت كتاباته جدلاً ونقاشاً، فى الساحة الثقافية العربية، لما تفجره من أسئلة معرفية وفلسفية جريئة.
سُئل «الجابرى» ذات مرة: لماذا علينا أن نهتم بالتراث بكل ما يعنيه من ردة للوراء؟
فأجاب إن الذين يقولون هذا يشتكون من أن الاهتمام بالتراث وقضاياه يصرف عن الاهتمام بالحداثة ومتطلباتها. إنهم يتخيلون أن التراث العربى الإسلامى هو، ككل تراث، مجرد بضاعة تنتمى إلى الماضى ويجب أن تبقى فى الماضى، لكن الحداثة لا تعنى رفض التراث ولا القطيعة مع الماضى بقدر ما تعنى الارتفاع بطريقة التعامل مع التراث إلى مستوى ما نسميه المعاصرة، أى مواكبة التقدم الحاصل على الصعيد العالمى. صحيح أنه ما من شأن الحداثة أن تبحث عن مصداقية أطروحاتها فى خطابها نفسه، خطاب «المعاصرة» وليس فى خطاب «الأصالة»، الذى يعنى بالدعوة إلى التمسك بالأصول واستلهامها، ولكن صحيح أيضاً أن الحداثة فى الفكر العربى المعاصر لم ترتفع بعد إلى هذا المستوى، فهى تستوحى أطروحاتها وتطلب المصداقية لخطابها من الحداثة الأوروبية التى تتخذها «أصولاً» لها.
«الجابري» هو مؤسس المنهج الفلسفى فى جامعات المغرب منذ الستينيات من القرن الماضى، وخاض من أجل ذلك معارك متعددة مع المعارضين لمشروعه، وكما يقول المفكر عبدالسلام بن عبدالعالى: كان يشعرنا أن الأرض مازالت خلاء، وأن علينا أن نؤسس الأمور من جذورها كما أن الفلسفة وتدريسها وتعريبها فى المغرب قامت على أكتافه. وفى سنة 1997، أصدر مع الأخوين محمد إبراهيم بوعلو، وعبدالسلام بن عبدالعالى، مجلة «فكر ونقد» التى تولى فيها مهمة رئيس التحرير.
ورحل عن عمر يناهز 75 عاماً، قضى معظمه فى البحث والإنتاج، مثرياً المكتبة العربية بأعمال فكرية وفلسفية مهمة، مثلت مدرسة قائمة بذاتها.