بين أمل العودة واليأس جراء المحاولات مازالت تنتظر ابنها محمد صديق، عقب رحلات طويلة استمرت إلى نحو عام ونصف من البحث عنه فى المستشفيات، والأقسام، والسجون المدنية والعسكرية، منذ بدء أحداث الثورة، الأم الثكلى صباح عبدالفتاح محمد، والدة الشاب محمد صديق، ذى الأربعة والعشرين عاماً وقت اختفائه يوم جمعة الغضب. على الرغم من تنصل أوراق المحاضر والبلاغات المقدمة منها من اسم محمد إلا أن قلبها مازال يؤكد أن ابنها متواجد بأحد السجون، بحسب قولها، لا سيما بعد المكالمة التى رد عليها محمد يوم 11 فبراير ليخبرها بحروف لم تسمعها جيداً، لكن المكالمة كانت دليلاً أكثر على أنه مازال حياً، بالإضافة إلى 5 رسائل «كلمنى شكرا» إلى ابن عمه صباح اليوم نفسه.
تشير السيدة صباح عبدالفتاح إلى الدافع وراء مشاركة ابنها فى الثورة، منذ أن كان عضواً فى حزب «الكرامة» يتردد على الحزب دوماً، والعمل على جمع توكيلات للحزب، حتى إصراره على المشاركة يوم جمعة الغضب، فمثله مثل كثير من الشباب.
تخرج محمد صديق فى كلية التجارة الخارجية بإحدى الجامعات الخاصة قبيل الثورة. الظروف الاقتصادية ونشأته فى منطقة طومان باى، التى تتفاوت فيها الطبقات الاجتماعية بشكل لافت، كانت الدافع وراء اعتياده العمل منذ أن كان صغيراً ليساعد أمه وأخواته البنات الثلاث بعد وفاة والده، الذى كان عضوا مؤسسا فى حزب «الكرامة»، وهو أحد الأسباب الرئيسية فى دخول الابن العمل السياسى.
تضيف السيدة «صباح»: «محمد مكانش بيحب يقعد فى البيت، وكان بيشتغل أى حاجة، كانت ظروفه تعبانة وبيتعرض للإهانة فى شغله طول الوقت، وآخر شغل ليه كان فى المواتير، والتبريد والتكييف».
وتحكى الوالدة منذ يوم الثلاثاء 25 يناير، حين عاد محمد صديق صباح اليوم التالى الأربعاء 26 يناير، محمرة عيناه من أثر قنابل الغاز، وبدت على ملابسه ابتلالها ليلة أمس، وحكى لها «قعدوا يرموا علينا قنابل مسيلة للدموع، ويرشونا بخراطيم المياه، وروحنا دوران شبرا، وأنا جاى ماشى من التحرير»، تكمل السيدة «صباح»: «بعدها نزل يوم الخميس قابل أصحابه ورجع بدرى على غير عادته، وقالى إنه نازل بكره، أنا مرضتش أصحيه بصراحة، مع إنى كل جمعة بصحيه، عشان الصلاة».
واستيقظ محمد فى الساعة 11 ثم نزل بعد أن توضأ وكوى ملابسه وذهب ليصلى الجمعة، وأخذ بطاقته وكارنيه الجامعة وهاتفه المحمول، بالإضافة إلى 45 توكيلاً لحزب «الكرامة»، كان قد أخبر والدته أنه سيحاول أن يجمع توقيعاتهم كاشتراكات فى الحزب.
تصمت والدة محمد قليلا فتتذكر يوم أن قال لها «أنا مش راجع البيت إلا لما مبارك يمشى، وهنفضل قاعدين فى التحرير زى يوم الثلاثاء لغاية ما يمشى».
تسرد السيدة «صباح» رحلة البحث عن ابنها، طيلة الـ18 يوماً التى شهدت اعتصام ميدان التحرير، حيث بدأت بذهابها إلى أماكن: الشرطة العسكرية، و«س 28»، والسجن الحربى، ومعسكرات الأمن المركزى، ومقار أمن الدولة، والمستشفيات الحكومية وغير الحكومية، والأقسام، ومشرحة زينهم، ثم عادت تلك اللفة عقب أحداث موقعة الجمل، «مكنتش أنا لوحدى.. لقيت ناس كتير بتسأل على ولادها زيى قدام «س 28» والسجن الحربى، ومقرات الشرطة العسكرية.. «كان اللواءات بيقولو لى دايما فيه ناس كتير جوه.. وابنك موجود فيهم، وإن شاء الله هيطلعوا كلهم».
بعدها ذهبت والدة محمد إلى سجن وادى النطرون، ثم سجن الوادى الجديد «ركبنا الساعة 10 ووصلنا الساعة 5، فى طريق صحراوى، وأول ما قربنا من السجن، الضباط رفعوا علينا السلاح، لكن لما شافونى ماضربوش نار، وقالوا لأخى «لولا السيدة اللى معاك كنا ضربنا فى المليان»، وسألتهم هناك ودوروا على اسم محمد وقالولى مش موجود.
تقول أم محمد: «أنا حاسه إن ابنى موجود فى السجن الحربى، وبحس إن قلبى بيقولى إن ابنى هناك، أنا روحت زيارة أكتر من مرة، وكل ما بروح بحس إنه هناك».
تشير السيدة صباح إلى محاولاتها المستمرة للاتصال بمحمد، والتى استمرت لشهور بعد غيابه، ثم إلى الخمس رسائل التى أرسلها إلى ابن عمه صباح يوم الجمعة 11 فبراير، رد علىّ يوم 11 فبراير وتحديدا فى الساعة 8:30، قولت له: آلو، رد عليا يا محمد.. قولى حاجة، وقال لى: أيوه يا أمى، سألته إنت فين، قالى «مح...» ومكملش الكلمة». تتذكر السيدة «صباح»: «كان فيه وقتها أصوات كلاكسات وسامعة صوت عربية متنقلة»، ثم تؤكد وهى تبكى «أنا حاسة إن ابنى محبوس».