«صبح الصباح فتاح يا عليم.. والجيب مافيهشى ولا مليم.. بس المزاج رايق وسليم.. باب الأمل بابك يا رحيم»، أغنيتى المفضلة عند بدء دورتى على الـ«تاكسى» كل صباح منذ تزوجت، تعودت زوجتى أن تمارس دورها الاقتصادى بالاستيلاء على كل ما يمت للنقود بصلة فى جيوبى قبل مغادرتى المنزل، واعتدت على الاعتراض بالغناء وحيداً فى السيارة وقبل ركوب أى «زبون»، لكن فى رمضان الوضع مختلف.
عندما أبدأ قيادة سيارتى كل صباح، لا أضطر إلى إحصاء عدد السجائر المتبقية فى علبتى استعجالاً لأول راكب، قبل أن تنفد السجائر، وأستبدلها بتشغيل آيات الذكر الحكيم بصوت شيخى المفضل، محمد جبريل.
منذ بدأت عملى على سيارات الأجرة، أفضل دورتى الليلية، حيث الناس غالباً ما يكونون مبتسمين سعداء، لا يتعجل كل منهم الوصول، عندهم قدرة على الحكى معى دون توقف، أما أهل الصباح فعادة متعجلون، وعادة متجهمون، لا يحبون الكلام، اختلف الأمر بعد الزواج، وصرت مضطراً للتعامل مع أهل الصباح، لكن فى رمضان، الكل صامت فى الأسبوع الأول، يتحدثون قليلاً فى الثانى والثالث، وفى الأخير يبدون ودودين أكثر من اللازم.
الحكى ضمن أهم مقومات مهنتى، سائق الـ«تاكسى» الصامت إما مريضاً، أو مريضاً، لذلك أكتفى فى رمضان بالتسبيح، بعد محاولة «نكش» الراكب، فإن لم يتجاوب، على أن أحترم صمته.
زجاجة المياه أهم رفقاء رحلتى فى العمل، أشرب منها وأعيد ملأها، لكن فى رمضان، فى مثل هذا الجو الحار يتحول دورها، إلى «دش» ساقع، يهبنى القدرة على مواصلة العمل فى هذا الجحيم.
«اللهم إنى صائم» أكثر الكلمات التى أسمعها فى الشارع فى الشهر الكريم، يتحول السباب اليومى، والاتهامات بعدم القدرة على قيادة السيارات، التى تصل إلى سب معلم القيادة، وبعض الأقربين، إلى «اللهم إنى صائم».. حرصاً على ألا يفقد أحداً صيامه، أبتسم كلما سمعتها، خاصة وأنا أرددها مثل الجميع، المختلف فى هذا الشهر، أننى غالباً أتوقف لأى «زبون» تعاطفاً مع وقوفه صائماً فى هذا الشارع المشتعل، وحرصاً على ألا يفقد صيامه بسبب عدم وقوفى له.
لكن أسوء ما يمكن حدوثه فى رمضان، وفى هذا الطقس، أن تتعطل السيارة، فى الأيام العادية أتعامل مع الأمر بهدوء، وبخبراتى «الميكانيكية» التى سارت متلازمة طبيعية مع مهنة قيادة السيارات، أستطيع إصلاح العطل، بينما فى رمضان غالباً أفقد أعصابى ومعها صيامى بسبب السيارة وصاحبها ونفسى أحياناً، وتتلاشى كل خبراتى المزعومة تحت «بند» عدم التركيز والاشتياق إلى سيجارة، أو كوب من القهوة، أو حتى شربة ماء.
علاقتى بالزحام علاقة ودودة، تعودنا بعضنا البعض، فى رمضان الناس أكثر عصبية، أكون أكثر حرصاً، خاصة فى هذا التوقيت الذى يرغب الكل فى العودة لمنزله، أكتفى براكب أخير، أصطحبه، متعمداً أن أسأله، ماذا سيفطر هذا اليوم؟
أغلبهم يجيب، ويبتسم، أتعمد أن أختاره قريباً من صاحب «عصارة» فى حى غمرة، اشترى منه العصير اللازم للإفطار، ثم أتجه بعدها، إلى الجراج حيث أسلم السيارة، وأعود لبيتى انتظاراً للإفطار، أتابع مسلسلاً أو اثنين بعد الأكل، حتى أتمكن من الحركة بعد التخمة التى تصيب البطن والمخ عقب الإفطار، قبل أن أرتدى ملابسى وأغادر المنزل لممارسة لعب الطاولة على مقهى «السواقين»، مستمتعاً بمتابعة زملاء الوردية الليلية الذين يشتكون الزحام، نتبادل سوياً تعليقاتنا المعتادة عن الطرق اليوم، أضيف إليها فى العام الأخير بعد التعليقات والفتاوى السياسية.
وفى الليل أستعد لصيام الغد بطبق الفول الذى تعاونه عدة أكواب شاى والعديد من السجائر، والنوم على أمل أن يأتى العيد.