ولد عبد الله بن المقفع «106/142هـ» فى قرية من قرى فارس اسمها جور وموضعها فيروزآباد الحالية، ويقول ابن النديم: إن اسمه بالفارسية «روزبه» ومعناها المبارك، وكان يكنى قبل إسلامه بأبى عمرو، فلما أسلم سمى بعبد الله وتكنى بأبى محمد والحضارة الفارسية التى انتمى إليها ابن المقفع وعمل على سريانها وتغلغلها فى الأدب والفكر الإسلامى، هى أحد أهم روافد الفكر الإسلامى والحضارة الإسلامية.
وابن المقفع نتاج للحضارتين الفارسية والإسلامية وقارئ مطلع على الحضارة اليونانية فجاءت أعماله الفكرية زبدة لهذه الحضارات، إلا أنه مات مقتولاً ولم يتجاوز السادسة والثلاثين من العمر.
يتحدث ابن المقفع، فى رسالة للخليفة العباسى، أبى جعفر المنصور، عن بطانة الخليفة وصحابته، وهى رسالة فى نقد الأوضاع السياسية القائمة، وأعتقد أن هذه الرسالة كانت من أسباب قتل ابن المقفع لأن الحاكم وبطانته الذين زينوا له الأمور وأقنعوه بأنه خليفة الله فى أرضه، لم يستطيعوا تحمل النقد الذى وجه إليهم فى تلك الرسالة.
وكان وراء تأليف هذه الرسالة كما يذكر ابن المقفع، عدة أسباب أبرزها: أن صاحب الرأى يجب أن يذكر ويخبر أولى الأمر بما يراه فى مصلحة الأمة من آراء قد يكون لها أثر فى الإصلاح.
من أهم القضايا التى أثارها قضية نفوذ العسكريين «الجند» فى الدولة، وحذر المثقف الموسوعى من أنهم «يحتاجون تقويم أيديهم ورأيهم وكلامهم» والحل من وجهة نظر ابن المقفع كتابة قوانين تنظم عمل الجند وتحدد العلاقة بينهم وبين رؤسائهم وكذلك العلاقة مع الناس، وعزل الضعيف الذى لا يستطيع القيام بعمله وإبعاده، خصوصا إذا كان من القادة.
ويرى ابن المقفع ضرورة القيام بعدد من الأمور حتى تنصلح أحوال الجند، هى ألا يولى أحد منهم شىء من الخراج، مبرراً ذلك بأنهم إذا وقعوا فى الخيانة، وتقاعسوا عن واجباتهم الأصلية «أعمالهم العسكرية»، فربما يتقووا بالمال ويعملوا على الخروج على السلطة، ولم ينس أن يذكر أن مكانة العسكرى فوق مكانة جابى الأموال.
ويضيف ابن المقفع أنه على الإمام تعهد الجند فى تعلم القرآن والسنة، والأمانة، والبعد عن أهل الأهواء، والبعد بهم عن الترف والإسراف وتحبيبهم فى التواضع، والبعد عن المغالاة فى الملبس والعطر والنساء، وعلى أمير المؤمنين أن يكون قدوة لهم. وكذلك فلابد من تحديد مواعيد ثابتة لصرف الرواتب لهم، وكذلك أن تكون هذه الرواتب ثابتة المقدار لا تتأثر بالأحوال الاقتصادية للبلاد.
وكان للقضاة نصيب كبير من النقد بسبب فوضى الأحكام، وتناقض الآراء فى القضية الواحدة ربما فى البلد الواحد، وذلك لعدم وجود قواعد مكتوبة مما دعا كل لاجتهاده.
وابن المقفع يريد هنا تدوين قواعد تكون ملزمة للقضاة حتى لا يحكم كل منهم وفقا لأهوائه ولآرائه الخاصة به، ولا ننسى أنه فى الوقت الذى كتب فيه هذه الرسالة لم تكن معظم المذاهب الفقهية التى بدأ القضاة يحكمون وفقا لها قد ظهرت بعد، لذا قد ناصبه الفقهاء العداء ومع ذلك لا نستبعد تأثرهم بأفكاره.
وأهم قضية ناقشها ابن المقفع فى رسالته هى قضية طاعة الخليفة، والصفات التى يجب أن تتوفر فيمن يصحب الخليفة
يرى ابن المقفع وهو ينطلق من قاعدة إسلامية أن للإمام الطاعة فى «الرأى والتدبير وإمضاء الحدود والأحكام، ما وافق الكتاب والسنة ويقوم بوظائفه مثل محاربة العدو ومهادنته، وهنا ليس لأحد من الناس فى هذه الأمور حق إلا الإمام فمن عصاه أو خذله فيها فقد أهلك نفسه، ولا طاعة للإمام فى الخروج عن الشرع وتعطيل الحدود وإباحة ما حرمه الله، «ولو أن الإمام نهى عن الصلاة والصيام والحج أو منع الحدود وأباح ما حرم الله، لم يكن له فى ذلك أمر». فهناك عقد بين الأمة والإمام متى خرج عنه لا طاعة له فى أعناقهم، وينبغى ألا يتخذ من عقد الإمامة وسيلة لتفضيل نفسه أو أهل بيته عن بقية الناس فهو مثل بقية الناس.
رأى ابن المقفع أن من واجبات الحاكم حسن اختيار أصحابه وبطانته لأنهم زينة مجلسه، وأعوانه على رأيه وأيضا موضع كرامته، وأن بعض الخلفاء أساءوا الاختيار فى أعوانهم فكان ذلك داعيا للأشرار، طاردا للأخيار.لذا فقد وضع ابن المقفع صفات يجب أن تتوفر فى بطانة أمير المؤمنين منها: أن يكون شرفه ورأيه وعمله أهلا لذلك.. وأن يكون صاحب نجدة ومشورة، ويجمع مع ذلك حسباً وعفافاً.. وأن يكون شريفا لا يفسد نفسه أو غيرها. فضلا عن ذلك اشترط بن المقفع التخصص فى الأعمال وتحديدها، فكل منهم له وظيفة محددة لها قواعد لا يتعداها.
ويختم ابن المقفع رسالته بطلب إصلاح أحوال الرعية «الشعب» والإصلاح عنده لا يأتى من أسفل بل من أعلى من الحاكم وذلك أن الحاكم يطلب من خواص رعيته الاهتمام بالعامة.