«إحنا خايفين.. الدنيا عتمة.. مفيش غير القطط والكلاب هِنا»، 3 جُمل متقطعة قالها عبدالرحمن أمير، طالب الدكتوراة بجامعة «Huazhong» الزراعية، أواخر شتاء يناير، قُرب نافذة تطل على أحد الشوارع الجانبية بمقاطعة «هوبى»، عقارب الساعة كانت تُشير إلى الحادية عشرة مساءً، جلس حينها «عبدالرحمن» يتأمل بحزن الشوارع الفارغة، ويتساءل: كيف تحولت المدينة النابضة بالحياة إلى مدينة أشباح؟!.
مساء الاثنين، الثانية ظهرًا بتوقيت القاهرة، وسط أجواء دافئة نسبيًا، عاد «عبدالرحمن» إلى الأراضي المصرية، وهو يُردد «تحيا مصر»، تاركًا العتمة والخوف داخل أسوار الحجر الصحي في ووهان، فبعد أسابيع قليلة، أخبرتهم السفارة المصرية في الصين عبر تطبيق we chat الإلكتروني، أن الحكومة مُستعدة لإجلاء المصريين المتواجدين في ووهان، منبع فيروس «كورونا».
«عبدالرحمن» واحد من حوالي 306 مصريين تم إجلاءهم من ووهان، كي يعودوا إلى مصر، فرارًا من فيروس «كورونا» الذي أُصيب به 24324 شخصًا داخل الصين، وفقًا لآخر إحصائيات أعلنتها الحكومة الصينية، فبعد إعلان السفارة المصرية الاستعداد لعملية الإجلاء، أعدَّ «عبدالرحمن» حقائبه، ولملم ذكرياته.
قبل الإجلاء بأيام، خاطبت السفارة الجامعات الصينية، لتأمين المنح الجامعية التي يحظى بها الطلاب المصريون، داخل أعرق الجامعات في ووهان، كما يقول «عبدالرحمن»، ويُضيف: «الأحد الماضي، استعد المصريون لمُغادرة ووهان، وأخدنا التعليمات والإجراءات الاحترازية كي يتم توفير أعلى درجات الأمان».
وعن إجراءات الأمان، يقول «عبدالرحمن» إنها شملت الآتي: «تناول الطعام قبل الصعود إلى الطائرة، ارتداء كمامات مُحكمة، اتباع تعليمات التعقيم بحرص شديد، الخضوع لقياس درجات الحرارة»، يصُمت قليلاً ثم يضيف: «الاستعدادات كانت صارمة، طقم الأطباء كان متعاونا جدًا، وبيتم استقبالنا بابتسامة واسعة».
على متن الرحلة «CF3331»، كانت صلوات المصريين تُتلى على مهل، فبجانب «عبدالرحمن»، كان يجلس الدكتور محمد ماهر، مدرس مُساعد بكلية الزراعة، جامعة الزقازيق، وطالب الدكتوراة بجامعة «Huazhong»، التي تضُم 250 طالبًا مصريًا، إذ يروي تفاصيل رحلة الفرار من «كورونا»، قائلاً: «أعراض الفيروس بدأت تظهر في 25 ديسمبر، قالولنا البسوا كمامة وخلّوا بالكم ده (سارس)، اكتشفنا بعدها أنه فيروس تاني».
«كُله يلتزم المكان، ممنوع الخروج إلا في حالة الطوارئ»، تعليمات مُشددة التزم بها الطلبة المصريون داخل ووهان، حسبْ رواية «ماهر» لـ«المصري اليوم»، إذ يُضيف: «إحنا آه كُنا خايفين من الفيروس، لكن كُنا خايفين أكتر على شغلنا وأكل عيشنا، قلنا هنقعد في الغرف عادي، لكن لحد امتى؟».
وعن رحلة الإجلاء، يقول «ماهر»: «أول ما عرفنا أن السفارة استعدت لإجلاء المصريين في ووهان، فرحنا لكن قُلنا لو في ضرر على مصر، مش عاوزين ننزل أو نروح في حته»، ورغم الخوف، استقرت الفرحة في قلب «ماهر» عندما بدأ في إرسال بياناته إلى السفارة المصرية، والتي بعثت برسائل طمأنينة تقول: «متخافوش، إحنا معاكم لحد ما توصلوا».
أمّا عن يوم العودة إلى مصر، يتذكّر «ماهر» بسعادة ما حدث: «الجامعة اللى أنا فيها طلع منها تقريبًا حوالي 12 أتوبيسا، ولما وصلنا المطار، طمنونا بشكل رسمي، وقبل صعود الطائرة، تم الكشف من الجانب الصيني، عدّينا وركبنا الطائرة، الاستقبال في المطار، كان كويس جدًا، إجراءات وقائية، حراسة أمنية شديدة، كُنا بنعدى على كمائن، وحتى الكمين كان اللى فيه لابسين كمامة مُحكمة، مكناش متخيلين أن ده ممكن يحصل في مصر، حسينا بقيمتنا».
على بُعد خطوات من الطالبين المصريين؛ «عبدالرحمن» و«ماهر»، كان ينظُر مصطفى طاهر، الطالب في جامعة الصين المركزية للعلوم والتكنولوجيا، التي تضم 40 طالبًا مصريًا. عبّر نافذة الطائرة، ويتذكر ما مر به من أحداث أليمة بداية من فترة الحظر، 23 يناير، ويقول: «كنا مثل المساجين، ممنوع الخروج أو الدخول».
ملأ «مصطفى» استبيان العودة الذي طلبته السفارة المصرية في الصين، تمهيدًا للعودة، وودّع ووهان كما يقول: «كنا نمر وكأننا في مدينة أشباح، شوارع المدينة التي طالما كانت ممتلئة عن آخرها، خالية لا يوجد بها سوانا، مررنا في طريق المطار أمام أحد المستشفيات التي يتم احتجاز المصابين فيها وشعرنا كمن يمر أمام قنبلة موقوتة وكنا ندعو الله أن نصل مصر بسلام».
داخل مطار العلمين، حطّت الطائرة التي تقلّ المصريين العائدين من ووهان، ليتم نقلهم إلى فندق خُصص لهم في مدينة مرسى مطروح، عبر إجراءات مُشددة، كما يقول «ماهر»: «وصلنا بعد 4 ساعات تقريبًا، أول ما الطائرة وصلت المطار، فضلنا نقول (تحيا مصر)، سلمونا كمامة، أدوات تعقيم، ومشينا وسط عربات شرطة وإسعاف وتأمين كبير».
[image:19:center]
بعيدًا عن المناطق السكنية في مطروح، استقر العائدون من ووهان داخل الفندق، إذ يقول «مصطفى»: «إحنا كنا خايفين عشان قالوا إن الحجر وسط السكان، لكن دي طلعت شائعات»، ويُردف: «تم توقيع الكشف الصحي علينا، طلبوا من كل شخص تسليم متعلقاته الشخصية وحقيبة سفره ليتم تطهيرها وتعقيمها وسلموا كل منا أدوات شخصية وملابس جديدة، وخط تليفون وجهاز موبايل».
ويُضيف: «تم توزيعنا في مقر الإقامة بالحجر الصحي، كل مجموعة في مبنى مختلف، في البداية وجدنا أننا سنقيم كل فردين في غرفة والحمامات مشتركة، وهو ما لا يتناسب مع الحجر الصحي، وحين أخبرنا المشرفين المسؤولين تم تدارك الأمر وتم توزيعنا كل شخص في غرفة منفصلة وله أداوته الخاصة وحمامه الخاص».
واستكمالاً للإجراءات التي ذكرها «مصطفى»، يقول «عبدالرحمن»: «التأمين على درجة عالية، محدش بيخرج من الأوضة إلا للضرورة، بيوزعوا علينا أكياس حمرا للقمامة، حتى يتم إعدامها والتخلص من أي فيروس، وورقة كُتب عليها أرقام الخدمات داخل كل شقة، اللى محتاج حاجة بيتصل بالأرقام ويوفروا له كل الخدمات في مكانه».
«كان اليوم مشمسًا ومنظر شاطئ الغرام خلف الفندق يلمع في العيون»، هكذا وصف محمد بلال، الباحث المصري بالأكاديمية الصينية للعلوم، مشهد الوصول إلى مقر الحجر الصحي بمطروح، بعد رحلة طويلة، كما يقول: «كانت السرعة وخفة الحركة هي السمة الأساسية للموقف، فالجميع يخشى تسرب أنفاسنا المشكوك فيها لخارج الفندق، الجو العام مليئاً بالترقب والنظام، بعد أن كانت وجوه أهل مطروح بينما نمر في شوارع المدينة مليئة بالخوف والقلق».
داخل الأتوبيس، جلس «بلال» يتأمل شوارع مطروح الهادئة، ويقول: «وصل كلٌ منا غرفته ليجد سريره مجهزًا وعليه بطانية وكيس كبير وغلاية مياة، ويحتوي على ملابس داخلية وشراب ومعجون أسنان ومنشفه كبيرة، وذلك بجانب علبة أقنعة طبية وماكينة حلاقة وصابون سائل ومناديل وكروكس طبي».
14 يومًا، هي مدة الحجر الصحي للعائدين من ووهان، إذ يجلس الجميع في راحة نسبية بعد العودة إلى مصر وترقُب لما سيحدث فيما بعد، كما يقول «ماهر»: «إحنا نفسنا المدة تنتهي ونروح لأهلنا وأولادنا بسرعة».