نشر مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة تقريرًا حول الأسباب وراء اكتساح فريق ليفربول الإنجليزي معظم البطولات الأوروبية وتحقيقه أرقاما قياسية.
يقول المركز إن ليفربول بات أقرب من أي وقتٍ مضى لتحقيق لقب بطل الدوري الإنجليزي، لأول مرة منذ عام 1990. ومنذ انطلاق البطولة، يعيش الفريقُ البدايةَ الأفضل لأي فريق في الدوريات الأوروبية الكبرى هذا الموسم، سواء من حيث الفوز في المباريات، أو الحفاظ على نظافة الشباك. كما أنه استطاع أيضًا حصد البطولة الأهم والأكبر وهي دوري أبطال أوروبا، وكذلك كأس العالم للأندية، ليصبح الفريق الأقوى بجدارة هذا الموسم.
ولكن ما سرُّ هذا التفوق الملحوظ؟ وما هي الخطة التي مكّنت ليفربول من أن يُصبح بمثابة حجر عثرة في طريق كافة الفرق الكبرى التي واجهته؟ وكيف يحافظ هذا الفريق على فرض سيطرته على الملعب طوال التسعين دقيقة؟
في الحقيقة فإن الأسباب التي مكنت «الريدز» من أن يكون على هذا المستوى الفني المتميز متعددة، سواء على مستوى الإدارة أو القيادة الفنية أو اللاعبين. ولكنّ هناك عاملًا آخر لا يقلّ أهمية عن العوامل السابقة، بل يُعتبر من العوامل الهامة والجدير النظر إليها والاهتمام بها، والذي قال عنه «يورجن كلوب»: «لولا هو لما أصبحت هنا»، وهو إدارة البحوث في ليفربول، التي تُعتبر بمثابة غرفة عمليات الريدز الحقيقية، أو كما يطلق عليه «فريق علم البيانات» Liverpool's data science team، الذي يقوده «أيان جراهام Ian Graham» الحاصل على دكتوراه في الفيزياء النظرية من جامعة كامبريدج، مع كلٍّ من «تيم واسكيت Tim Waskett» عالم الفيزياء الفلكية، و«ويل سبيرمان Will Spearman» الحاصل على دكتوراه في الفلسفة، وعدد آخر من محللي البيانات. ولكن ما هو عمل أساتذة الفيزياء في ليفربول؟ وكيف استطاع فريقُ تحليل البيانات أن يكون صاحب اليد العليا في اتخاذ القرارات الهامة في الفريق؟ هذا ما يحاول هذا التحليل توضيحه.
لقد أحدث علمُ البيانات الضخمة ثورة علمية ومنهجية في كافة فروع المعرفة الإنسانية، ليس فقط في العلوم الطبيعية والرياضية التي تعتمد عليها في تطوير التقنيات الذكية، بل أيضًا في العلوم الاجتماعية والإنسانية، يحدث ذلك من خلال بناء نماذج رياضية وإحصائية عبر برامج كمبيوتر، تقوم بتحليل ملايين التيرابايتس من البيانات المتوافرة عبر عقود من الزمن حول الظاهرة محل الدراسة، حيث توفر هذه البيانات القدرةَ على معرفة جذور المشكلة التي نواجهها، وكافة المتغيرات الفاعلة فيها، والوزن النسبي لكل متغير، وأسباب الفشل وعوامل النجاح، ورسم صورة تفصيلية عن دورة حياة هذه الظاهرة، كل ذلك في الوقت الحقيقي لها، أي دون الحاجة إلى انتظار سنوات لتحليل كافة هذه البيانات، وهو ما يُساعد في فهم الظواهر الحية التي يُمثّلها هنا تطور أداء ليفربول مباراة تلو أخرى.
فقد استطاع «أيان جراهام» أن يبني نموذجًا رياضيًّا Mathematical Model عرضه على «يورجن كلوب» (المدير الفني للريدز) في الأسبوع الثالث من توليه إدارة الفريق، وقد كان هذا النموذج خاصًّا بتحليل أداء فريق بروسيا دورتموند، الفريق السابق الذي تولى إدارته الفنية «يورجن كلوب» قبل أن يدرب الريدز، استطاع فيه أن يُقدّم معلومات تحليلية لأداء الفريق السابق فاجأت «كلوب» شخصيًّا. فـ«يورجن كلوب» كأي مدرب كان مهتمًّا أكثر بتدريب الفريق وليس بتحليل البيانات، وهو ما جعل «يورجن كلوب» يعتقد أن «أيان جراهام» قد شاهد مباريات بروسيا دورتموند لكي يبني هذا النموذج، ولكن كانت المفاجأة أن «جراهام» لم يشاهد أيًّا من هذه المباريات على الإطلاق، وكل ما اهتم به فقط هو الحصول على المعلومات الخاصة بأداء الفريق من أجل تحليلها والخروج باستنتاجات تفوق توقعات مدرب الفريق شخصيًّا.
كما استطاع «أيان جراهام» أن يبني قاعدة بياناته الخاصة من خلال تتبع أكثر من 100000 لاعب من جميع أنحاء العالم، وقام من خلال نموذجه بتحليل أداء كافة هؤلاء اللاعبين من أجل تقديم توصيته لإدارة الريدز بأيٍّ منهم يجب على ليفربول محاولة اكتسابه لتدعيم صفوف الفريق، ومن ثم كيف ينبغي توظيف الوافدين الجدد. وبناءً على هذه التحليلات استطاع ليفربول أن يُطوّر من أدائه بصورة ملحوظة وسريعة، فانتقل من كونه ثامن الترتيب في الدوري الإنجليزي عام 2015 ليصبح في المركز الرابع عام 2016 و2017، ثم استحوذ على المركز الثاني عام 2018 بفارق ضئيل جدًّا عن أقرب منافسيه مانشستر سيتي الذي حصل على المركز الأول، ليقترب ليفربول من تحقيق فوز تاريخي بالدوري الإنجليزي هذا الموسم 2019/2020.
قدّم كلٌّ من «تيم واسكيت» (Tim Waskett) و«ويل سيبرمان» (Will Spearman) مفهوم Pitch control أو السيطرة على الملعب، ولكن هذه المرة بطريقة مستحدثة وأكثر علمية قائمة على برمجيات كمبيوتر تقدم إحصاءات واحتمالات لمناطق تسجيل الأهداف داخل الملعب، وتعتمد هذه البرمجية على جمع المعلومات من الفيديوهات video tracking وتحليلها والخروج باحتمالات تسجيل هذه الأهداف.
فالنموذج الذي تم بناؤه يقوم بتحليل أداء الخصم داخل الملعب، من حيث تحركات اللاعبين وتحركات الكرة والثغرات التي تحدث داخل الملعب لكي يُمكن استغلالها. كما أنه لا يقوم فقط بتحليل طريقة إخراج المدافعين للكرة، بل إلى أي اتجاه يُخرجها المدافع وبأيّ قوة، وماذا يحدث حينما يتم استلام الكرة، ليقوم النموذج في النهاية برسم كافة تفاصيل ما يحدث داخل الملعب، وإخراجها في صورة بيانات وإحصاءات يتم تحويلها إلى قرارات داخل الملعب، فيتم دراسة نقاط القوة والضغط والمميزات والعيوب للفريق والفرق المنافسة، وتقديم توصيات وسياسات للتعامل مع الموقف، كل بحالته.
ويُحدد النموذج -على سبيل المثال- أكثر الأماكن التي يترك فيها لاعبو الخصم مساحات فارغة يمكن للريدز تمرير الكرة فيها حتى دون أن ينظروا إليها، فينطلق الفريق الأحمر نحو بناء فرصة واعدة، تمثل احتمالًا بنسبة ما يُحددها هذا النموذج لتسجيل هدف، وبالتالي تحويل كافة التحركات داخل الملعب إلى سيناريوهات واحتمالات لتسجيل أهداف.
رغم أن عددًا كبيرًا من أندية الكرة العالمية تمتلك أقسامًا لتحليل البيانات بداخلها، وتمتلك برمجيات وتقنيات تمكنها من تحليل البيانات؛ إلا أن الميزة الرئيسية التي استطاع ليفربول أن يُحقّقها هي تحويل نتائج عملية تحليل هذه البيانات إلى قرارات وسياسات، سواء خارج المربع الأخضر أو داخله، فالمهم ليس امتلاك البيانات أو الاكتفاء بتحليلها، ولكن كيفية تحويلها إلى قرارات قابلة للتنفيذ.
ومع ذلك، تبقى هناك نسبة دقة معينة في تطبيق هذه القرارات، فالسيناريوهات التي يقترحها النموذج الرياضي عبارة عن احتمالات نسبية، أي إن احتمال تمرير الكرة في هذه المنطقة بنسبة ما قد يعني ذلك هدفًا، وذلك بافتراض ثوابت العوامل الأخرى كمهارة اللاعب ودقة الاستلام وسرعة الانطلاق وغيرها، وهي جميعها عوامل قد تنقص من قوة الاحتمال.
وهنا يجب التفرقة بين السيناريوهات النظرية واحتمالية تطبيقها على أرض الواقع، فقد تكون هذه النسب والمعادلات الرياضية عبارة عن مسائل حسابية نظرية، قد تتحقق متغيراتها الرقمية في أحدي التمريرات، وقد لا تتحقق في كثير منها بسبب صعوبة التحكم في العامل البشري داخل الملعب والذي يتعرض لانفعالات عصبية ومضايقات وإصابات أيضاً.
ولكن من غير المستبعد، مستقبلا، أن يُحدِّد هذا النموذج -الذي تم تطويره على يد علماء الفيزياء في ليفربول- مَنْ سيستمر في الفريق خلال المواسم القادمة، وأن يحدد مصير انتقال «ساديو ماني» إلى ريال مدريد، ومَنْ قد يحلّ محله في حال انتقاله.
ومع تطوير هذا النموذج مستقلًّا لكي يُصبح قادرًا على التنبؤ بمستويات اللاعبين من خلال نظم الذكاء الاصطناعي، من الوارد أن يحل قريبًا محل المدير الفني للفريق، لتصبح مهمة المدرب هي فقط الحفاظ على لياقة ومهارة اللاعبين، أما مهمة إدارتهم داخل الصندوق الأخضر فهي وظيفة نظام الذكاء الاصطناعي الذي يقوم بتحليل البيانات وليس وظيفة المدرب، وتصبح وظيفة اللاعبين هي تنفيذ سيناريوهات محددة سلفًا من قبل النموذج لإحراز الأهداف وحصد البطولات، أما المهارات والمواهب الرياضية فستكون مهمتها المتعة الكروية فقط وليس إحراز الأهداف.