اقتربتْ لمياء من زميلتها رغم أنها كانتْ قرَّرتْ ألا يحدث ذلك. وجدتْ نفسها تلتصق بها. نظرت الأخرى إليها فى دهشة، فالمقعد طويلٌ ممتدٌّ، ليس عليه غير حوالى عشرة طُلَّاب. تراجعتْ لمياء قليلا، واعتذرتْ، لكن زميلتها ابتسمتْ وقالتْ:
- عادى.
اقتربتْ لمياء بوجهها إليها، وهمستْ:
- لأنكِ جميلة فقط، لكنْ؛ لم أقصد.
لم تردّ عليها زميلتها. أصابتْها دهشة جديدة من خشونة صوتها، فقالتْ لمياء:
- صوتى من عند ربِّنا. لا تخافى. أنا اسمى لمياء.
قالتْ زميلتها:
- وأنا سونيا.
وبدا أنها لا تريد أن تتحدَّث.
دخلتْ أستاذة الفلسفة. سيِّدة تجاوزت الأربعين من عمرها، أنيقة فى ملبسها. شَعْرها الأسود قصير حول وجهها. تظهر به خطوط بيضاء قليلة من الأمام تزيِّنه أكثر ممَّا تشى بالعمر. ألقتْ تحيَّة الصباح، وجلستْ خلف المنضدة الطويلة، وخلفها السُّبُّورة الكبيرة، وبدأتْ تتكلَّم:
- اليوم أوَّل درس لكم فى الفلسفة. لن أقرِّر عليكم كتاباً من كُتُبى، كما يفعل الآخرون. سأشرح فقط. فى نهاية كلِّ درس، سأذكر لكم المراجع التى استعنتُ بها، وعليكم الرجوع إلى هذه المراجع. هكذا تعلَّمتُ من أساتذتى الكبار هنا وفى الخارج. المراجع بعضها باللغة العربية، وبعضها باللغات الأخرى. مَنْ يعرف منكم لغة غير العربية سيكون ممتازاً، وقد يُكمِل تعليمه، ويصبح أستاذاً كبيراً. مَنْ لا يعرف، فسيحصل بعد أربع سنوات على الليسانس، ويجد عملاً فى جمعية تعاونية!
قالتْ ذلك باسمة، فضحك الطُّلَّاب والطالبات، واستمرَّتْ تتحدَّث:
- دعونى فى البداية أُحدِّثكم عن «ما هى الفلسفة؟» قبل أن تدرسوها.
وهنا صرختْ سونيا:
- كفاية كدا. إنتِ بتلزقى فىّ ليه؟!
انتبه الجميع، ووقفتْ سونيا ثائرة، تُحدِّث الأستاذة:
- عندما جلستْ جوارى، التصقتْ بى، والبنش طويل وفاضى. تراجعتْ، واعتذرتْ، ثمَّ فعلتْها مرَّة ثانية. أنا لا أفهم ماذا تريد!.
شردتْ لمياء، وبدا أنها تفكِّر فى شىء بعيد، ثمَّ وقفتْ، وقالتْ:
- أنا آسفة، يا دكتورة. تسمحى لى أخرج.
صمتتِ الأستاذة لحظة. لم تُظهِرْ دهشتها من صوت لمياء الخشن قياساً على أصوات البنات. خرجتْ لمياء بسرعة غاضبة متوتِّرة من الجانب كما دخلتْ. لم تبالِ أن يُفسِحَ لها أحد الطريق، فصارتْ تصطدم بركبَتَيْها الجافَّتَيْن فى ركب البنات والأولاد القليلين الجالسين على المقعد الممتدّ ومرَّتْ أمام الدكتورة إلى باب الخروج. عند الباب، قالتْ لها الدكتورة:
- انتظرى لحظة.
توقَّفتْ تنظر إليها، ولم تدرِ أن الأستاذة والطُّلَّاب كلهم قد انتبهوا إلى أنها أطول قليلاً ممَّا هو معتاد من طول الفتيات، وأن زيَّها بسيط، لكنْ لافت، فهو مجرَّد سروال كعادة الفتيات والنساء الآن، لكنه كاجوال، لا يُظهِر مفاتن ساقَيْها، ولا ردفيها. رماديٌّ فوقه قميص أبيض كاجوال أيضاً. لكنْ؛ خالٍ من أيِّ رسوم ملوَّنة أو نقوش، ولا يكشف شيئاً من صدرها، فقط قصير الكُمَّيْن. وأن قَصَّة شَعْرها «جارسون»، ولا يظهر فى عنقها قلادة من أيِّ نوع. قالتِ الأستاذة:
- المحاضرة ساعة ونصف. بعدها أنا فى مكتبى. ضرورى أن تمرِّى علىَّ.
قالتْ لمياء:
- حاضر.
لكنْ، لم يسمعْها أحد. خرجتْ، وواصلتِ الدكتورةُ حديثَها.
جلستْ لمياء فى الكافتيريا وحدها. أنساها ما حدث فرحة دخولها إلى الجامعة من الباب الكبير المطلّ على شارع جامعة القاهرة. لقد كانت الدقيقة التى وقفت فيها عند الباب الكبير طويلة جدا، وقد وضعتْ حقيبتَها الصغيرة على جهاز التفتيش الإلكترونى قبل أن تعبر. كانتْ تشتاق إلى الفرحة وهى ترى أعداداً كبيرة من البنات والبنين يتحرَّكون بين مبانى الكُلِّيَّات المختلفة مبتهجين. بالفعل بعد أن عبرت الباب، وكانتْ كُلِّيَّة الآداب قريبة جدَّاً على يمينها، استمرَّت تمشى فى الطُّرُقات، تتفرَّج على الأماكن الخضراء الصغيرة، تراها واسعة، وخضرتها تجذب العين، والكافتريا الصغيرة التى تبدو مُخصصة للطلبات السريعة جذَّابة بعمَّالها الذين يعدُّون القهوة والشاى، ويقدِّمون المشروبات الباردة والساندوتشات، وتتطلَّع إلى برج الساعة العالية للجامعة، كأنها ساعة جرينتش. سألتْ عن كافتيريا أخرى، فيها مقاعد للجلوس، وعرفتْها، وهى التى تجلس فيها الآن.
أنساها ما حدث فى قاعة الدرس فرحتَها بهذا العالم الواسع الذى كانتْ تشتاق إليه. لكنْ، هذه ليست أوَّل مرَّة يحدث لها ما حدث. عليها أن تبتسم، فهى التى تنجذب إلى البنات، ولو بغير إرادتها رغم ميلها لِلَّعب والجلوس مع البنين. آن الأوان أن تحطِّم أسوار الغربة، فهذا العالم لا ينتظر المقيَّدين.
كانتْ ترى مجموعات قليلة من الطُّلَّاب، تجلس مع بعضها. لم يلفت انتباهَها كعادتها ملابس البنات. قمصانهنَّ أو بلوزاتهنَّ المزركشة بالورود، ولا بنطلوناتهنَّ الجينز الممزَّقة عند الرُّكب. طبعاً أكثرهنَّ متحجِّبات، لا ترى شعرهن. تختلف أشكال الحجاب. طبعاً كلها تغطِّى الرأس والرقبة، لكن بعضها ينزل إلى الصدر أو الكتفَيْن، وكلها من ألوان مبهجة، سواء كانتْ طبقة واحدة أو طبقَتَيْن مختلفتى اللون. لفت انتباهَها اثنتان ترتديان خمارين أسودين، تجلسان فى مواجهة بعضهما، وتقتربان برأسَيْهما، تتحدَّثان همساً. كعادتها وجدتْ نفسها تشتاق إلى ملابس الأولاد، التى تُظهِر قوَّة عضلاتهم. ذقونهم المطلوقة والمنسَّقة بعناية مع شواربهم. قصَّات شعرهم التى فى أعلى بعضها توكة أو فى الخلف منها ضفيرة طويلة أو تاركين شعرهم يكاد يصل إلى الأكتاف، وكثير منها مُستوحى من قصَّات شعر لاعبى الكرة المشاهير، مثل ميسى ورونالدو، وبعضهم صُلعان تماماً على عادة كثير من الرجال الآن، تظهر فى رؤوسهم تعرُّجاتها. هذه أوَّل سنة لها، ولا تظنُّ أن أحداً من زملائها قد تعرَّف على أحد، لذلك لا بدَّ أن الجالسين من سنوات سابقة، ومَنْ سيكون جديداً سيجلس وحده مثلها، على الأقلِّ اليوم.
جلستْ تمشى بيدها على وجهها، وتمشى بها أكثر من مرَّة فوق شفتها العليا. إنها «تنتف» الشارب والشَّعْر الذى يتفرَّق على ذقنها بدهانات، تشتريها من الصيدلية. لا تلجأ لدهانات طبيعية، تقوم بإعدادها النساء، فهى تتمنَّى لكل الدهانات أن تُخفق، وبالفعل يعود الشَّعْر بسرعة للظهور، وتتحسَّر، لأنها لا تستطيع أن تُطلقَه. عليها أن تحتفظ بصورتها كفتاة حتَّى تعرف كيف تعالج نفسها. ومشتْ بيدها على فخذَيْها الناشفتين واحدة بعد الأخرى. ليستا سمينتين بما يكفى لفتاة فى سنِّها، لذلك ترتدى سروالاً واسعاً. شىءٌ ما جافٌّ فى فخذَيْها تحت يدها، تعرف أنه عضلات. لا بدَّ، وإلَّا ماذا سيكون؟! مشتْ بيدها بين فخذَيْها، ثمَّ توقَّفتْ. تحتاج لتلمسَ ما بين فخذيها أن تقفَ، ولن تقفَ. لا معنى لذلك هنا، ومازالت أُمُّها لا تُصدِّق أنه صار عالياً بشكل مريب، كأن شيئاً تحته يريد الظهور. لم توافِق أُمُّها حتَّى أن تتطلَّع إليه، ورأتْ، كما ترى دائماً، فى حديثها قلَّة أدب. تقدَّم النادل يسألها ماذا تشرب أو تأكل؟ فطلبتْ قهوة مضبوطة، وهى ذاهلة عنه. هل من الضَّرورى حقَّاً أن تذهبَ إلى أستاذة الفلسفة فى الموعد؟ الأفضل أن تعود إلى البيت. لا. الأفضل أن تبقى وتنسى ما حدث، وتحضر المحاضرة التالية، ولتجلس على أعلى مقعد فى نهاية مدرّج القاعة وحدها، فلا يكون أحد. لا. لا. الأفضل حقَّاً أن تترك الكُلِّيَّة اليوم، وتبدأ دراستها من الغد. لن تخربَ الدنيا. ستعتذر فى المحاضرة غداً لأستاذة الفلسفة عن عدم ذهابها اليوم.
كان النادل قد ترك فنجان القهوة أمامها.
شربتْ قهوتها، تقاوم رغبتها فى النظر إلى الفتاة الجميلة التى يحيط بها طالبان يضحكان، وتضحك معهما من قلبها، ويبدوان يتباريان على إضحاكها. لفتَ انتباهَها أنها غير مُتحجِّبة شقراء زرقاء العينَيْن. شَعْرها مسترسل على الجانبَيْن، يتفرَّق على كتفَيْها، وترتدى فستاناً، ينزل عن ركبَتَيْها قليلاً، فاتناً بالتطريز، شفَّافَ الكمَّيْن القصيرَيْن. لمحتْها الفتاة أكثر من مرَّة تنظر إليها، وما كادتْ تخفض رأسها حتَّى أخفضت الفتاةُ الأخرى رأسَها أيضاً وراحتْ تهمس لزميلَيْها بشىء لم تسمعه، فضحكا بصوت عالٍ وهما ينظران إليها، ثمَّ قالت الفتاة:
- تفضّلى، واجلسى معنا.
ابتسمتْ متردِّدةً، لكن الفتاة أعادتْ دعوتها، فحملتْ فنجان القهوة فى يدها، واتَّجهتْ إليهم. أفسحوا لها مكاناً بينهم حول المنضدة المفروشة بمفرش أبيض، فوقه ما يشربون من شاى وبيبسى كولا. جلستْ، فسألتْها الفتاة الأخرى:
- فى أى سنة أنتِ؟
- أنا جديدة. فى سنة أولى، قسم فلسفة.
ضحكتِ الفتاة، وقالتْ:
- لسَّه بدرى. أمامكِ ثلاث سنوات، وتبقى زَيِّنا.
وقال شابٌّ ضاحكاً:
- المهمّ أن لا تصاحبى زينون.
ضحكوا بينما هى فى دهشة، فقالتْ:
- مَنْ زينون هذا؟
- صديق قديم لنا من القرن الخامس قبل الميلاد، عنده برهان على عدم وجود الزمان ولا المكان ولا الحركة. منذُ عرفتُهُ وأنا ضائع.
لم تبتسمْ، ولم تُعلِّقْ. فهمتْ أنه لا بدَّ يتحدَّث عن أحد الفلاسفة. لكن الفتاة الأخرى قالتْ:
- عيناكِ غريبتان. صغيرتان ورفيعتان. هل بابا يابانى مثلاً؟
ضحك الشَّابَّان بصوت عالٍ، وقالتْ هى:
- بابا مصرى طبعاً.
قالت الفتاة:
- طيِّب، أنا اسمى محسن! يوه قصدى محسنة.
ضحك الشَّابَّان بقوَّة، ثمَّ قال الذى تحدَّث عن زينون:
- أنا اسمى عابدين، لكنْ، لستُ من حى عابدين. هذا اسمه مُريد، لكنْ، لا يريد شيئاً. محسنة دائماً تخطِئ فى اسمها، كأنما كانتْ تتمنَّى أن تكون رجلاً.
ضحكوا بينما شعرتْ هى برعدة فى جسمها. تساءلتْ فى نفسها هل يمكن أن تكون الفتاة مثلها؟ لكنها قالت لمحسنة:
- بصراحة، أنتِ جميلة جدَّاً. اسمحى لى أقول لكِ هذا.
قالت محسنة:
- شكراً، يا حبيبتى. أخيراً وجدتُ فتاةً، لا تغار من جمالى.
ضحكوا، وبدأ الوقت يمضى بسرعة وهى بينهم رغم أنها لم تشارك كثيراً فى الحديث. أعجبها أنهم لم ينتبهوا لخشونة صوتها، ولا أنها لا تتزيَّن كالبنات. ربَّما انتبهوا، لكنهم أكثر أدباً من غيرهم، فلم يُعلِّقوا على شىء. قد يتحدَّثون فى ذلك فيما بعد فيما بينهم. لا بدَّ أنهم سيندهشون، وربَّما يضحكون. ستجمع الكُلِّيَّة بينهم مرَّة أخرى.
كانتْ تودُّ لو أخذتْ محسنة، وخرجتا تمشيان معاً. رأتْ طُلَّاب قسم الفلسفة يخرجون من القاعة الواضحة خلف زجاج الكافيتريا. انتهت المحاضرة إذنْ. قامتْ، ودفعتْ حسابها، وانصرفتْ، لكنها ذهبتْ إلى الدكتورة الجميلة أستاذة الفلسفة، ونسيتْ قرارها من قبل أن لا تذهب. هل نسيتْ حقَّاً أم جعلها جمالُ محسنة تتذكَّر جمالَ أستاذتها؟!.
ابتسمت الدكتورة «بادية»، وهى تراها تدخل من باب الحجرة. الحجرة صغيرة لا تزيد مساحتها على عشرة أمتار مربَّعة. فيها مكتبان، تجلس الدكتورة بادية خلف واحد منهما. على الجدران أرففٌ، عليها كُتُبٌ ودولاب بين الأرفف، فيه كُتُبٌ أيضاً، تظهر من خلف زجاجه. أشارت الدكتورة لها أن تجلس على مقعد أمام المكتب، فجلستْ ناظرة إلى الأرض فى خجل. راحت الدكتورة تتفحَّصها بدقَّة، فرأتْ أن ثديَيْها صغيران، ليسا فى حجم يناسب عمرها. سألتْها:
- كم عمركِ؟
- ثمانية عشر، واسمى لمياء حسين عمران.
- يا لمياء، أنا لم أكنْ أريدكِ فى شىء، ولا أعرف لماذا قلتُ لكِ أن تأتىَ إلى مكتبى، لكنْ، ما دمتِ أتيتِ، فأُحبُّ أن أقول لكِ إن شكلكِ جميل. أعرف أنكِ لا تقصدين شيئاً، وأن ما فعلتْهُ زميلتكِ لم يكن هناك داعٍ له، ولقد حدَّثتُها فى ذلك بعد أن خرجتِ.
سكتتْ لمياء لحظة، بينما تُشعل الدكتورة بادية سيجارة، ثمَّ قالتْ:
- لكنْ، أنا فى حاجة أن أُحدِّث حضرتكِ فعلاً. أنا أعانى من مشكلة كبيرة، ولا أحد يسمعنى طوال عمرى.
اندهشت الدكتورة التى راحتْ تتأمَّلها من جديد. رأتْ قميصها مغلَق الأزرار، لا يُظهِر شيئاً من الصدر. لا تضعْ روجاً على شَفَتَيْها. لا يبدو أن هناك أىّ ماكياج على وجهها. حاجباها منسَّقان حقَّاً، لكنْ، لا تبدو أىُّ صبغة عليهما أو كحل. رموشها تبدو مهمَلَة أو طبيعية بلا تدخُّل. فقط فى أذنَيْها قرط. تأمَّلتْ أصابعها، فرأتْ أن أظافرها مقصوصة لنهايتها، وليس عليها أىُّ مانيكير من أىِّ لون، فقالت باسمة:
- أتحبِّين البنات؟
سكتتْ لمياء لحظة، ثمَّ قالتْ وهى تنظر إلى الأرض:
- أنا قرَّرتُ أكون صريحة وشجاعة. كنتُ أنتظر اليوم الذى أدخل فيه الجامعة، وأتحدَّث مع أحد، لعلَّه يساعدنى. قد تحدث لى مشاكل كبيرة، وأترك الدراسة كما تركتُ المدرسة الثَّانويَّة. مَيْلى للنساء كبير، لكنْ؛ أيضاً أُحبُّ صداقة الأولاد أكثر منذُ صغرى.
وأشارتْ إلى ثديَيْها الصغيرَيْن، وقالت:
- صوتى أقرب للرجال وصدرى أيضاً و...
سكتتْ، ولم تُكمِلْ. تأمَّلتْها الدكتورة لحظات، لكنها قالتْ:
- لا تندهشى من صراحتى مع حضرتكِ من أوَّل لقاء. معاناتى كبيرة، قد أشرح تفاصيلها، لو تعطينى الوقت. قرأتُ فى الصحف وعلى الإنترنت كثيراً عن مثل حالتى. يُسمُّونها ترانسجيندر.
بدا الذهول على وجه الدكتورة بادية، ثمَّ قالت:
- هل أنتِ جادَّة فى حديثكِ؟
- للأسف جادَّة. حياتى صعبة جدَّاً. كدتُ أُفصَل من المدرسة الثَّانويَّة، لأنى كنتُ دائماً أقترب من البنات. اعتبرونى متحرِّشة. كنتُ فى السنة الثانية ثانوى. لا أحد أدرك أنى أعانى من هذا الاضطراب الشديد الذى جعل سلوكى كالأولاد، وليس البنات.
Gender Identity Disorder
أنا أجيد الإنجليزية، والفرنسية أيضاً، لكنْ، ليس كما الإنجليزية. تعلَّمتُ فى مدارس لغات. المهمّ توصَّل أهلى لاتِّفاق مع المدرسة أن لا أذهبَ ولا أُفصَلَ من الدراسة، وأن أحضر فقط الامتحان. أيَّام الامتحان قليلة، ولن تتَّسع للتَّحرُّش الذى تحدَّثوا عنه. ذاكرتُ العامَيْن فى البيت، والتحقتُ بالجامعة. سجننى أبى وأُمِّى عامَيْن فى البيت بعيداً عن زميلاتى البنات مُصدِّقَيْن أنى متحرِّشة. بل قالتْ أُمِّى إنى سحاقية. أنا لستُ كذلك.
سكتت الدكتورة، وازدادتْ دهشتها من جرأة هذه الفتاة الرهيبة، لكنها للحظة فكَّرتْ أنها قد تكون «عاملة اشتغالة» أو «فيلم» عليها. البنات والصبيان الآن من عالم آخر. عالم الفيسبوك وتويتر وإنستجرام وغيره يعيشون أكثرهم فى الخيال.
وقالتْ لمياء:
- هل يمكن أن تساعدينى؟
هزَّت الدكتورة بادية رأسها، وقالتْ:
- سأساعدكِ. سأعطيكِ كارتاً، فيه عنوان بيتى. أنا أعيش وحدى. يمكن أن تأتيَنى الليلة فى المساء، نتحدَّث وحدنا. الآن يمكن أن تدخل زميلتى أستاذة علم النفس، وتشغلنا.
قالتْ لمياء:
- ليتكِ تُحدِّثينها عنِّى وعن حالتى.
قالت الدكتورة:
- بعد أن نجلس معاً على راحتنا، والآن يمكن أن تنصرفى، وتُكملى محاضراتكِ.
وأخرجتْ كارتاً من حقيبتها، قدَّمتْهُ لها، وسألتْها:
- لماذا لم تلتحقى بجامعة خاصَّة، ما دام تعليمكِ على هذا المستوى؟
- أُمِّى قالتْ إنى سأكون المتفوِّقة هنا أو تستطيعين أن تقولى إنها لا ترى فائدة فى العلم والبنت مصيرها الزواج.
سكتت الدكتورة حائرة، وخرجتْ لمياء. لكنها لم تُكمِلْ محاضراتها. أخذتْ طريقها إلى البيت، تقول لنفسها باسمة: «اعترفتُ لمَنْ تُسمَّى (بادية) لعلَّها تُعيدنى من الصحراء!».