تنوعت تجارب الدول التى شهدت ثورات شعبية أطاحت بالأنظمة الحاكمة فى محاكمة رموز تلك الأنظمة إذ اندلعت ثورات فى كل من إندونيسيا، وتشيلى، وفرنسا، وإيران، واختلفت طريقة محاسبة رموز الحكم بين هذه الدول، أما تونس فقد اتبعت نظام المحاكمة الغيابية بحق الرئيس المخلوع زين العابدين بن على وزوجته وبعض رموز نظامه وأقاربه.
وتمثل التجربة الإندونيسية التى أطاحت بالديكتاتور السابق سوهارتو أكثر النماذج التى يمكن توقع حدوثها فى مصر، إلا أن المحاكمة التى عقدت لسوهارتو بتهم الفساد وما دار خلال الجلسات ثم تأجيلها بسبب وضعه الصحى واستمرارها أكثر من 6 سنوات أثارت غضب الإندونيسيين، وقوبل قرار رفع الإقامة الجبرية عن سوهارتو باحتجاجات واسعة من جانب مناهضيه، ورغم تعهد النائب العام الإندونيسى باستدعاء سوهارتو للمثول أمام المحكمة فإن حالته الصحية حالت دون ذلك، وجرت محاكمته فى تهم تضخم ثروته واختلاس 571 مليون دولار لتمويل مشروعات يديرها أفراد أسرته، ثم تكاثرت عليه الأمراض فتم تأجيلها مجدداً، ورفضت المحكمة العليا فى إندونيسيا سنة 2007 تعويض سوهارتو بمبلغ 128 مليون دولار، كانت محكمة صغرى قد قضت له به ضد مجلة «تايم» الأمريكية بسبب اتهامها إياه باختلاس مبالغ كبيرة إلى أن توفى فى 2008 ولم يتم إصدار حكم بحقه.
وبعد الثورة التى وقعت فى تشيلى إثر سلسلة احتجاجات ومظاهرات خلال الفترة من 1964 حتى 1970، والتى أسفرت عن عقد انتخابات رئاسية وصل خلالها الرئيس الأسبق سلفادور الليندى للحكم، وقع انقلاب مضاد قاده الديكتاتور السابق أوجستو بينوشيه وسقط خلاله 30 ألف شخص، وحكم بينوشيه البلاد لمدة 17 عاماً بقبضة من حديد وشنت أجهزته حملة قمعية إلى أن اضطر فى النهاية لتسليم السلطة لحكومة مدنية عام 1990، ووضع رهن الإقامة الجبرية، وتزايد الجدل فى البلاد بسبب وضعه الصحى حتى قرر القاضى خوان جوزمان، رئيس المحكمة العليا، أن بينوشيه لائق من الناحية العقلية للمثول أمام المحكمة لكن لم تجر محاكمة فعليه له بسبب حالته الصحية، وللضغوط التى مارسها من يعرفون بـ«البينوشية» من أنصاره وهم من ذوى النفوذ الذين دافعوا عنه، مستعينين بكل وسيلة ماكرة ملتوية بمعاونة بعض أعضاء الحكومة الذين فضلوا طى هذا الفصل الحزين من فصول انتهاكات حقوق الإنسان بدلاً من حسمه.
كما رُفعت ضد بينوشيه عشرات الدعاوى فى الخارج، واعتقلته بريطانيا ووجهت له الشرطة البريطانية اتهامات بالقتل، كما حاكمت فرنسا 17 من قادة نظامه فى قضية اختفاء 4 فرنسيين، كما سمحت المحاكم الإسبانية بنظر الدعاوى الموجهة ضد بينوشيه فى إسبانيا، عملاً بمبدأ «عالمية الاختصاص القضائى» بنظر انتهاكات حقوق الإنسان، لكن تم الإفراج عنه فى 2000 وعاد لبلاده حتى توفى بها فى 2006 تاركاً وراءه سجلاً حافلاً من الجرائم.
وفى رومانيا، تمكنت الثورة التى أطاحت بالديكتاتور نيكولاى شاوشيسكو فى 21 ديسمبر 1989 من إعدامه هو وزوجته، بعد نجاح الثورة واضطراره إلى الهروب عن طريق الممرات السرية لقصره وتمكن من استقلال مروحية حطت به وزوجته خارج العاصمة واختبأ فى مخبأ سرى بإحدى مزارعه لكن الفلاحين استطاعوا القبض عليه، وسلموه للحكومة فعقدت له السلطات محاكمة سريعة فى 25 سبتمبر 1989 تم تسجيلها على أشرطة سينمائية بثتها إحدى شبكات التليفزيون الفرنسية للعالم وكان شاوشيسكو وزوجته عصبيين خلال المحاكمة وشتما القضاة فقررت المحكمة إصدار حكم الإعدام بحقهما، وكان شاوشيسكو يبكى كالأطفال عندما قام الجنود بتقييده قبل إطلاق الرصاص عليه.
وفى فرنسا، وبعد نجاح أولى ثورات العصر الحديث، تم إعدام الملك لويس السادس عشر ومن بعده زوجته الملكة مارى أنطوانيت لضمان نجاح الثورة داخلياً، وفى مواجهة فلول الثورة المضادة نظمت السلطات بدعم من الجيش ما عرف بحملة «المقصلة» التى مارستها لجنة الأمن العام وتم انتخاب أعضائها الـ9 من المتشددين، فباشرت اللجنة الإرهاب وشنت حرب المقصلة ضد النبلاء، والأرستقراطيين والمعارضين، وعلى العكس من ذلك، لم تشهد الثورة الأوكرانية التى جرت بدعم غربى ضد التدخل الروسى والمرشح الرئاسى فى انتخابات 2004 فيكتور يانوكوفيتش محاكمات أو إعدامات من هذا القبيل، لكنها شهدت محاكمة رئيسة الوزراء السابقة يوليا تيموشينكو التى كانت أحد قادة الثورة البرتقالية بتهمة استغلال السلطة خلال توليها مهام منصبها، وواجهت تيموشينكو اتهامات بالانقلاب على الثورة والتقرب من الكرملين فى مواجهة معسكر الغرب بقيادة الرئيس الأوكرانى وقتها فيكتور يوتشينكو، وتتمثل الاتهامات الموجهة لها بالتوقيع على اتفاق للغاز مع روسيا فى عام 2009 عندما كانت فى السلطة بأسعار مرتفعة عن المعدلات العالمية كبدت اقتصاد البلاد مليارات الدولارات بما يقدم نموذجاً لمحاكمة المسؤولين المصريين المتورطين فى صفقة الغاز لإسرائيل بأسعار زهيدة، وعلى رأسهم رئيس الوزراء الأسبق أحمد نظيف ووزير البترول السابق سامح فهمى، ورجل الأعمال الهارب حسين سالم. وفى إيران، وبعد نجاح الثورة الإسلامية عام 1979 فى الإطاحة بالشاه ووصول الخمينى إلى السلطة، بادرت قيادة الثورة فى البداية إلى إعدام كبار الجنرالات، وبعد شهرين أعدم أكثر من 200 من كبار مسؤولى الشاه المدنيين بهدف إزالة خطر أى انقلاب، وأجرى قضاة الثورة محاكمات قصيرة افتقرت إلى وكلاء للدفاع أو محلفين أو الشفافية، ولم تمنح المتهمين الفرصة للدفاع عن أنفسهم، ومن بين الذين أعدموا دون محاكمة فعلية أمير عباس هوفيدا، رئيس الوزراء الأسبق، كما شن النظام حملة اغتيالات ضد عشرات القيادات الهاربة فى الخارج. وتقدم بولندا نموذجاً آخر، فبعد ثورتها وتخلصها من إرث الشيوعية والالتحاق بقطار الرأسمالية الغربى، فإن الوضع يختلف هناك إذ نشبت الثورة دون إراقة الدماء، وهو ما عكسته تصريحات الرئيس البولندى السابق ليخ فاونسا خلال زيارته لتونس بعد الإطاحة بالرئيس زين العابدين بن على، وقال فاونسا: «قالوا لى إنهم يريدون التخلص من كل من له صلة بالنظام القديم، فسألتهم: كم عددهم؟ فقالوا لى 2.3 مليون شخص قلت: هذا لا معنى له إلا نشوب حرب أهلية».