«الاستقلال».. حلمٌ طالما راود مواطنى جنوب السودان، الأمر الذى جعلهم ينظرون إلى «استفتاء تقرير المصير»، الذى أجرى فى 9 يناير الماضى على أنه «الخطوة الأخيرة» على طريق طويل مخضب بالدماء نحو التحرر من «قمع» الشمال، بعد أن خاضوا حرباً منذ عام 1955 باستثناء سنوات قليلة.. ولكن ربما يأتى يوم يلعنون فيه ذلك الاستفتاء، فعندما تنحسر نشوة الاحتفالات بالاستقلال، سيتبين أن ظروف الحياة فى الجنوب، الذى مزقته سنوات الحرب، ستكون صعبة للغاية.
فعلى الرغم من أن إعلان الانفصال بين الدولتين يمنح الجنوب استقلالاً سياسياً عن شمال السودان، فإن الموارد التى يمتلكها الشمال والجنوب ستضمن، على الأرجح، ألا تنفصم العلاقات بين اقتصاديهما إلا ببطء شديد، فبينما يحصل الجنوب على 98% تقريباً من ميزانيته من خلال إيرادات النفط- حيث إنه ينتج نحو 75% من إنتاج السودان- يظل رهيناً للشمال الذى يمتلك البنية الأساسية لتكرير وشحن النفط.
لكن محللين يرون أن حكومة الجنوب ربما تتمكن من إضافة مليار دولار إلى ميزانيتها السنوية، التى تبلغ نحو مليارى دولار عبر الحصول على مزيد من عائدات النفط بعد الانفصال، كما أنها ستتجنب مشكلات يعانيها الشمال مثل الديون الخارجية المنهكة وعجز تجارى كبير، ويمكن اعتبار جلب الاستثمارات الخارجية جزءاً من حل المشكلة الاقتصادية فى الجنوب، حيث يمنح وجود النفط الثقة للمستثمرين، كما أن حاجة الجنوب إلى البنى التحتية والخدمات تجعله تربة خصبة للاستثمارات، لكن قبل تدفق تلك الاستثمارات سيحتاج جنوب السودان إلى إحكام السيطرة على الأمن، بعد تاريخ من الاضطرابات العسكرية والاشتباكات المسلحة فى المناطق القبلية، التى أسفرت عن مقتل نحو1800 شخص هذا العام.
وبينما يرتبط تدفق الاستثمارات الخارجية بالاستقرار السياسى والأمنى، فإن الانفصال قد يتيح للجنوب تلقى مبالغ كبيرة من المانحين، لم يتسن للحكومة الاتحادية الحصول عليها نظراً لقطيعتها مع المجتمع الدولى.
وإلى جانب الصعوبات الاقتصادية، تواجه الدولة الوليدة عدة معوقات، حيث تفتقر معظم مناطق الجنوب إلى البنى التحتية، ولا توجد طرق ممهدة باستثناء 60 كيلومتراً فقط، ويتم توفير الطاقة الكهربية عن طريق مولدات الديزل المكلفة، إذ لا توجد شبكة وطنية للإمداد، كما أن معظم السكان يضطرون إلى شراء مياه الشرب، وتعانى شبكات الهواتف ضعفاً، فيما تقل بشكل واضح الخدمات الصحية فى جوبا.
ويلاحظ المتردد على أسواق عاصمة الجنوب أن أسعار سلعها باهظة الثمن- رغم أن نحو90% من سكان الجنوب يعيشون تحت خط الفقر بمتوسط دخل نصف دولار يومياً للفرد- الأمر الذى يرجعه البعض إلى تكاليف النقل المرتفعة للسلع المستوردة، بالإضافة إلى قلة المعروض مقارنة بالطلب، ويقول العديد من الخبراء إنه على جنوب السودان- الذى يضم مساحات هائلة من الأراضى الصالحة للزراعة منعتها عقود من النزاع من التطور- التركيز على الزراعة من أجل إطعام وتوظيف شعبه.
وفيما يخص العامل البشرى، يسجل جنوب السودان واحداً من أدنى مؤشرات التعليم فى العالم، مما يخلق أزمة فى الموارد البشرية المطلوبة لسوق العمل، كما أن فى جنوب السودان أعلى معدلات وفيات النساء والأطفال، حيث يتوفى طفل من كل 10 قبل عيد ميلاده الأول، هذا بالإضافة إلى معاناة سكان الجنوب من فرط الإصابة بالأمراض.
وعلى الرغم من أن المراقبين يخشون استمرار آلام مخاض الدولة الجديدة بعد 20 عاماً من الحرب الأهلية، فإن سكان الجنوب يبدون متفائلين بمستقبلهم.. حيث يبتسم ديفيد أكول (حارس أمن) قائلاً لوكالة الأنباء الألمانية: «أخيراً أصبحنا أحراراً.. كل شىء سيكون على ما يرام بمجرد أن تكون لدينا دولة».