ربما تواردت كلمة «النيّروز أو النوروز» على مسامعك، فتأتي الرياح حاملة إياها من تاريخنا المصري القديم وسكّان غرب أسيا، بل ويتداولها المسيحيين بطائفتهم الأرثوذكسية -على وجه التحديد، فتوطدت علاقة ثلاثتهم بالكلمة وارتبطت في أذهانهم، بـ «البدايات الجديدة والمُشرقة» وتارة ثانية باتت «تذكرهم بالموت والآلام».
بداية الاحتفال باليوم، كان عند المصريين القدماء، إذ اعتبره الفراعنة أول يوم في السنة الزراعية الجديدة، رأس السنة المصرية، ويحل في الـ11 من سبتمبر، وذلك لأن هذا التوقيت من العام، موعد اكتمال موسم فيضان النيل -طالما كان رمزًا للحياة بمصر القديمة- وهو موسم يعم خلاله الخير والبركة على الجميع، تزداد به خصوبة الأرض وتتضاعف المحاصيل.
ارتكز الفراعنة على التقويم القبطي أي المصري -كما اعتمده المصريين القدماء- في الزراعة والحصاد، فهو تقويم شمسي دقيق، يرتكز على دورة الشمس، يساعدهم على اكتشاف الظروف المُناخية المُناسبة لأزمنة الزراعة، ويساهم في إيضاح الشهور، تلك المهنة التي ربطت بين الفراعنة وأراضهم السخيّة، التي يغمرها مياه النيل، لذا يعد الفراعنة الزراعة طريقهم للحياة ومدّهم بالغذاء وحتى تطرقت لعبادتهم، ويرجّح أن تاريخ التقويم يعود إلى 1235 قبل الميلاد.
هدف المصريين القدماء إلى تقسيم السنة نحو 12 شهرًا، وكل شهر يشمل 30 يومًا، مقسمين إلى 3 أسابيع لكل أسبوع 10 أيام، ولم يغفلوا تقسيم اليوم الواحد إلى ساعات، حسب ما أوضحه الباحث الأثري، علي أبودشيش.
ويذكر الباحث الأثري أن الفراعنة أطلقوا على أشهر التقويم، أسماء ألهتهم فشهرهم الأول، توت وبالهيروغليفية تعني «تهوب» وهو إله العلم، وشهر بابه ويعني بالهيروغليفية «بى ثب وت» وهو إله الزراعة، وهاتور هو إله الجمال لأن بهذا الشهر تتزين الأرض بالمزروعات.
يعقبها، شهر كيهك وبالهيروغليفية «كا ها كا»، وهو إله الخير، وطوبة، أي الأعلى أو الأسمى وكان يطلق على إله المطر، وأمشير الإله المسؤول عن العواصف والزوابع، وبرمهات وبالهيروغليفية «بامونت» أى الحرارة وتنضج فية المحاصيل الزراعية، وبرمودة إله الموت أو الفناء.
وشهر بشنس هو إله الظلام عند الفراعنة، وبؤونة إله المعادن، كذلك أبيب بالهيروغليفية «هوبا» أى فرح السماء، وتنتهي السنة الفرعونية بمسرى، بالهيروغليفية «مسو رع» أى ولادة رع أو سا رع، ابن الشمس.
ويوضح «أبودشيش» أن الخمسة أيام الباقية من السنة، سميت «كوجى أتافوت» وتعني النسى أو الشهر الصغير، لافتًا إلى أنه من المعلومات المغلوطة والمتناثرة: «أن المصريين وضعوا تقويم يشمل 13 شهرًا والصواب هو أن التقويم القبطي 12 شهرًا فقط».
المسيحية وانتقال «النيروز» الفرعوني
ظل الاحتفال بـ«النيروز» قائمًا ومستمرًا، وهو ما قاده بمرور الوقت للانتقال إلى المسيحيين -جاءت «نيروز» من الكلمة القبطية «ني – يارؤو»، وتعني الأنهار- وتحوّل من يوم في مستهل التقويم المصري، واقعًا بأول شهر وهو «توت» وعيدًا للحصاد، إلى تقويم يستعمله المسيحيين زمن عصر الإمبراطور الروماني دقلديانوس، أصعب العصور التي مرّت على المسيحية، فتعرضهم للاضطهادات والموت، قادهم إلى الحاجة لتقويم يرصد أيام استشهاد وموت ضحايا الإمبراطور.
من هنا، استعمل المسيحيين التقويم المصري، وأُطلق على التقويم اسم «تقويم الشهداء»، لكثرة أعداد الشهداء بعصر الإمبراطور، الذ وُصف بـ«المُستبد»، إذ تفنن الإمبراطور في تعذيب المسيحيين لردعهم عن ديانتهم. لذا ربط المسيحيين بين أول يوم في التقويم ويوم تولّي دقلديانوس الحكم، عام 284 ميلاديًا، رغم أنه لم يخوض مرحلة الاضطهاد التعسفي للمسيحيين إلا في 303 ميلاديًا.
وأصدر دقلديانوس بالإتفاق مع معاونيه، في 23 فبراير 303 ميلاديًا، منشورًا يقضي بهدم الكنائس وحرق الكتب المقدسة وطرد أصحاب المناصب الرفيعة من المسيحيين وحرمانهم من الحقوق المدنية، وحرمان العبيد من الحرية إن أصروا على الاعتراف بالمسيحية، ومُعاقبة من يخالف الفرمان. وبالشهر التالي، أصدر منشورين متلاحقين، ينصان على سجن جميع رؤساء الكنيسة والثاني يأمر بتعذيبهم من أجل إنكار عباداتهم المسيحية، لذا استشد إثر قرارته المتوالية مئات الألاف من المسيحيين.
لذلك احتفلت الكنيسة، أمس، بعيد النيروز بتناول البلح وثمار الجوافة، وهي عادة المسيحيين الأرثوذكس، إذ يشير النوعين من الفاكهة للشهداء، فالبلح قشرته الخارجية حمراء اللون، لذا ترمز إلى دماء الشهداء وبذرتها الداخلية تعني الإيمان الثابت، والجوافة لأن لونها الداخلي أبيض تشبه الشهداء، والذين ماتوا من أجل إيمانهم بالمسيحية.
في المقابل، تتناثر الروايات التي وصفها «أبودشيش» بـ«غير واضحة المصدر، ومدى حقيقتها فهي غير مثبتة بالوثائق، بل مجرد حكايات»، من بين تلك الروايات، «عبث البطالمة والرومان بالتقويم المصري»، فيشاع أنه مع سطوة البطالمة على الأراضي المصرية، كاد التقويم يخضع للتغييرات، وتحديدًا في عصر بطليموس الثالث، عام 238 قبل الميلاد.
لكن لم يرض الكهنة المصريين عن التبديلات حينها، لذا استقر التقويم كما وضعه الفراعنة، والرواية الثانية هي أنه في العام 25 قبل الميلاد، زمن حكم روما لمصر، على يد الإمبراطور الروماني أغسطس، بدّل الإمبراطور حال التقويم، ساعيًا لتزامنه مع التقويم الرومي أو اليولياني الجديد، وهو أساس التقويم الجريجوري عند الغرب حاليًا.
«النيروز» الإيراني والزرادشتية؟
على الجانب الثاني، يلتبس البعض بين عيد النيروز عند المسيحيين والإيرانيين، لكن النوروز أو النيروز الإيراني، هو عيد رأس السنة الفارسية، أي أول يوم في السنة الشمسية، ويصادف يوم الاعتدال الربيعي لديهم، ويشبه من ناحيتنا عيد «شم النسيم».
وتعني «النيروز» عند هؤلاء «اليوم الجديد»، فكلمة «نو» تعني يوم و«روز» بمعنى الجديد، ويتم الاحتفال مدة 13 يومًا، ولا يحتفل الإيرانيين وحدهم بالعيد بل شعوب آسيا الوسطى والصغرى والغربية وجنوب القوقاز.
ويرجع أصل الاحتفال الإيراني، إلى الديانة الإيرانية القديمة، المجوسية أو الزرادشتية، ثم تصبغ «النيروز» بالمذهب الشيعي الإسلامي، ولا يزال باقية هناك تمثل إرث ثقافي، وكان زمن الاحتفال بالعيد يعود إلى ألفي عام مضى.