«السبسي لن يحضر احتفالات عيد الجمهورية بمجلس نواب الشعب»، خبرٌ قصير تصدّر صفحات الجرائد التونسية، وأفاد بأن رئيس الجمهورية الباجي قايد السبسي لن يذهب إلى مجلس نواب الشعب، يوم 25 يوليو، كما جرت العادة، للاحتفال بعيد الجمهورية، وسط تكهنات كثيرة عن الأسباب، إذ قال البعض إن ذلك بسبب «حالته الصحية»، وآخرين عن «قرار سياسي»، لكن لم يعلم أحد أن «السبسي» سيكون غائبًا.
في مُنتصف صيف 1957، أعلن المجلس القومي التأسيسي في جلسة تاريخية «مشهودة»، إلغاء الملكية، والمناداة بالزعيم الحبيب بورقيبة، رئيسًا لأول جمهورية تونسية، كان «السبسي» حينها في أوائل الثلاثينيات من عُمره، شابًا تونسيًا ناضجًا، من مواليد «سيدي بوسعيد»، ويصفه المهتمون بالشأن السياسي بأنه «سياسي» و«محامٍ» و«مؤسس حزب نداء تونس».
تُعرف عائلة «السبسي» بأنها تنتمي للعائلات «الأصيلة» في تونس، إذ بدأ تاريخ العائلة عندما قامت العائلة «الحسينية» الحاكمة في تونس آنذاك، مطلع القرن التاسع عشر، بتوظيف جده إسماعيل قائد السبسي.
داخل شُرفة مطلة على ضفاف البحر الأبيض المتوسط، جلست حبيبة بنت جعفر، تُعاني من آلام المخاض، فيما تعصُر ذهنها للحصول على اسم لمولودها القادم، حتى تذكّرت مقام الولي الصالح، أبي سعيد الباجي، الذي يقع في منتصف الضاحية الشمالية، فقررت إطلاق اسم «الباجي» على طفلها.
هادئًا مثل بحر مدينة «سيدي بوسعيد»، ولد محمد الباجي بن حسونة قائد السبسي، مع بدايات رياح شتاء 1926، ولد، ثم توجّه إلى تونس العاصمة، تحديدًا معهد «الصادقية»، أيقونة العلم، ليدرس البكالوريوس، وبعدها تحوّل إلى باريس ليواصل الدراسات العليا في الحقوق.
وفي 1952، عاد «السبسي» إلى تونس مرة أخرى، والتحق بمكتب المحامي فتحي زهير، وتم تكليفه بالدفاع عن «الوطنيين» الذين مثلوا أمام المحكمة العسكرية، دون إثبات تهم واضحة.
قبل إعلان استقلال الجمهورية التونسية، انضم «السبسي» إلى الحزب الحر الدستوري، وبعد الاستقلال، عمل للرئيس التونسي السابق، حبيب بورقيبة، ثم كمدير إدارة جهوية في وزارة الداخلية.
وبحلول 1956، كُلفَ «السبسي» بمتابعة ملف الشؤون الاجتماعية، ثم التحق فيما بعد بديوان كاتب الدولة للداخلية، إلى أن تم تكليفه من «بورقيبة» مرة أخرى، مهمة تتعلق بالتنظيم المستقبلي للسياحة والصناعات التقليدية، فأصبح مديرًا للسياحة.
تطوّر المسار السياسي لـ«السبسي» مع فترة الستينيات، إذ تم تعيينه سفيرًا بواشنطن سنة 1969، لكن بعد قبول أوراق اعتماده من قِبل السلطات الأمريكية، ظلّ في تونس، ليترأس القائمة الانتخابية للحزب بدائرة تونس، ثم تم انتخابه نائبًا بالبرلمان 2 نوفمبر 1969.
وفي 7 نوفمبر 1969، تم تعيين «السبسي» وزيرًا للدفاع الوطني، ثم سفيرًا لتونس بباريس وخلفه بوزارة الدفاع، لكنه قرر الاستقالة من منصبه كسفير وأوضح في مقال نشره بصحيفة «لوموند» الفرنسية، 1972، أنه لاحظ أن إرادتي «الإصلاح» و«الانفتاح الديمقراطي» لم يتم احترامهما.
عادَ «السبسي» مرة أخرى إلى تونس، وكأنه «نبتة» لا تستطيع الخروج من أرضها، واستأنف نشاطه بمكتب المحاماة وواصل نضاله مع الليبراليين، أحمد المستيري، وحسيب بن عمار، ومحمد صالح بلحاج، وآخرين.
في نوفمبر 1986، عُينَ الباجي السبسي سفيرًا لدى جمهورية ألمانيا الفيدرالية، وظلّ في المنصب حتى نوفمبر 1987، بعد عودته إلى تونس، عين عضوا بالمجلس الدستوري مع حسيب بن عمار ورشيد إدريس وعياض بن عاشور وغيرهم.
وفي سبتمبر 1990، عُين «السبسي» رئيسا للجنة السياسية والشؤون الخارجية، ثم رئيسا لمجلس النواب حتى أكتوبر 1991، استأنف بعد ذلك مهنة المحاماة.
وحين قامت الثورة التونسية، عندما أشعل الشاب محمد البوعزيزي النار في نفسه في 17 ديسمبر 2010، اشتعلت الأحوال السياسية أيضًا، لم يصمتْ أحد، حتى هربَ الرئيس التونسي السابق، زين العابدين، خوفًا من نيران «العدالة» التي قد تلتهمُه.
وفي 2011، تمت دعوة «السبسي» كي يرأس الحكومة الانتقالية المكلفة بإعداد انتخابات المجلس التأسيسي.
ومع بدايات 2012، أسس «السبسي» حزب «نداء تونس»، لمواجهة حكم «التيار الإسلامي» في تونس، فكوّن «السبسي» حزبه من خليط «دستوريين» و«يساريين» و«نقابيين».
عينهُ الرئيس المؤقت، فؤاد المبزع، رئيسًا للحكومة المؤقتة وذلك بعد استقالة محمد الغنوشي، استمر «السبسي» في منصبه حتى 13 ديسمبر 2011، حين قام المنصف المرزوقي، رئيس الجمهورية المنتخب، بتكليف حمادي الجبالي، أمين عام حزب حركة النهضة، بتشكيل الحكومة الجديدة.
ترشّح «السبسي» للانتخابات الرئاسية التونسية 2014، عن حزب «نداء تونس»، وبالفعل فاز بالمنصب، 22 ديسمبر 2014، بنسبة 55.68 بالمائة من جملة الأصوات مقارنة بـ 44.32 لمنافسه منصف المرزوقي.
اشتبكَ «السبسي» كثيرًا مع «الثوابت»، ففي أحد المرات، خلال الاحتفال بعيد المرأة في أغسطس 2018، اقترح تغيير ما يعرف بـ«مجلة الأحوال الشخصية» في تونس، وتحقيق المساواة بالميراث بين الرجل والمرأة، مشيراً إلى أن المرجع الأول لدولة مدنية مثل تونس يجب أن يكون الدستور لا الدين والقرآن.
وأشار «السبسي» إلى أن تونس دولة مدنية مرجعها الدستور وليس الدين، إذ قال: «لا علاقة لنا بالدين والقرآن».
ورغم كِبر سنه، كان يؤكد «السبسي» في كل مناسبة أنه «لا وريث له وأنّه لا توريث لبورقيبة ولا للباجي قائد السبسي أو لغيره». وأضاف «أن القانون يحجر عليه أي منصب في أي حزب».
قبل أيام، قال نور الدين بن نتيشة، المستشار السياسي للرئيس التونسي، إن «السبسى» سيوجه خطابا للشعب التونسى خلال الأيام القليلة القادم، بعد تحسُن حالته الصحية، لكن نُقل بعدها إلى المستشفى بعد أزمة صحية طارئة، وتوفى عن عمر 92 عامًا، إثر «توعك صحي طارئ ناتج عن مخلفات التسمم الغذائي الذي تعرض له خلال الفترة الماضية».