صحفي مخضرم قاد إحدى أكبر المؤسسات الصحفية في فرنسا، ويساري بارز، ومحلل سياسي عاصر الأحداث الكبرى في مصر حيث ولد عام 1948. الصحفي الفرنسي آلان جريش يقرأ «زحام المواقف» في الثورة المصرية، ويحلل التغيرات وحالة «حرب التصريحات» التي تدور في مصر، دون أن يغيب عن ذهنه أنه أمام شعب ثار وانتصر، ودولة تتطلع لمستقبل مختلف، ومجتمع في مرحلة إعادة تشكل.
في هذا الحوار يفتح آلان جريش رئيس تحرير «اللومند ديبلوماتيك» ملفات الاقتصاد، والإعلام والأداء الحكومي، ومدنية الدولة والانتخابات، وبناء نظام ديمقراطي ويطرح تساؤلات حول «الهوية الاقتصادية» لمصر الجديدة، والتعقيدات الدولية التي على القاهرة أن تستوعبها وتتفاوض حولها «بشراسة» لتبتكر طريقها الخاص، وإلى نص الحوار.
الآن وبعد 5 شهور تقريبا على الثورة.. يبدو المشهد السياسي المصري مرتبكا للغاية ولا يكاد النقاش يهدأ في قضية حتى يبدأ في قضية أخرى .. كيف تقرأ هذا المشهد المضطرب؟
ما يحدث في مصر الآن طبيعي جدا، فالشعب كان موحداً حول رحيل مبارك، وحين رحل عن السلطة ظهرت الاختلافات، وهو أمر منطقي، فميدان التحرير وحد المصريين ضد مبارك، وميدان التحرير كان يضم الجميع، لكن الأهم أن ما تغير أن الخوف رحل وعادت الكرامة، ولا أظن أن الشعب مستعد أن يكون هناك نظاما يعتدي عليهم ويقمعهم ويأخذ منهم أموال دون وجه حق.
عادت مؤخرا حالات التعذيب لتظهر على السطح، مرة أخرى المتهم الرئيسي..هل تعود الثورة إلى الوراء؟
مبدئيا، أنا ولدت في مصر عام 1948، وشاهدت تجربة ناصر (جمال عبد الناصر) وكان هناك مقولة شائعة أن من يقبض عليه ويذهبون به إلى الكوميسارية (مركز الشرطة) يتعرض للضرب أولا ثم يبدأ التحقيق معه، لذلك هذه للأسف ثقافة متجذرة في مصر. لكن ما أراه أن هذه النقطة المتعلقة بكرامة الإنسان لن تعود إلى ما كانت عليه الأوضاع قبل 25 يناير، ولا اعتقد أن الناس سوف تقبل العودة للقمع، وهناك صحف وفضائيات وانترنت وميدان تحرير يمكن العودة إليه.
تبدو متفائلا للغاية لكن البعض متخوف من عودة القمع تحت دعاوي مختلفة فما تعليقك؟
بالتأكيد لا يمكن الجزم بشكل قطعي على المستقبل، فربما تنشب حرباً تكون مصر طرفاً فيها وتفرض السلطات إجراءات استثنائية، لكن بشكل عام تظل الكرامة الإنسانية أهم ما أنجزته الثورة، وحتى في فرنسا وهي دولة لديها ثقافة حقوقية قوية، توجد مشاكل مع الشرطة، لكني أظن أن نزول المدنيين إلى الشوارع ودفاعهم عن حقهم، وما ينشره الإعلام يجعل العودة للوراء صعبة جدا.
هناك مخاوف من طريقة كتابة الدستور الجديد في ظل مطالبة الجميع تقريبا بـ«كوتة دستورية»، فالمجلس العسكري يتحدث عن «وضع خاص» للجيش، والإسلاميون يحاربون من أجل «كوتة شريعة» والكنيسة تطالب بـ«ضمانات» فهل يخرج الدستور المصري على طريقة «الحصص» كما في لبنان والعراق؟
في العالم كله يوجد تفاهمات حول الدستور، وحتى تفاهمات المجلس العسكري والإخوان مسألة مؤقتة، ومن الطبيعي أن يتفاهم الجزء الوحيد المتماسك من الدولة مع الفصيل الوحيد المنظم في الشارع خاصة في هذه المرحلة.
والمشكلة الحقيقية هي غياب أي نقاش حول الهوية الاقتصادية للدولة، فالحوار الحالي محصور في دور الشريعة، لكن لا يوجد حوار حول المشكلة الأساسية لهذا البلد وهي التنمية الاقتصادية وإعادة توزيع الثروة.
التنمية الاقتصادية أيضا معناها تحقيق عدالة اجتماعية، ولو نتذكر كان شعار الثورة في يومها الأول «خبز .. حرية .. عدالة اجتماعية»، لكن الجميع يرفضون مناقشة الأمر رغم خطورته الشديدة، وأنا أعتقد أن مشاكل الشارع المصري معظمها اقتصادية، خاصة مع «لقمة العيش» كما تقولون، هذا لا يعني أن الشعب لا يهتم بالحريات، لكن السؤال الأصعب هو كيف نوفر «لقمة العيش» هذه للمصريين دون المساس بالحريات، وبشكل كريم وعادل لا يدفع ثمنه الفقراء الذين هم الوقود الحقيقي للثورة، وهم أكثر من دفع الثمن أيام مبارك.
«الدستور أولا أم الانتخابات أولا» يبد هذا السؤال هو أكثر الأسئلة التي تشغل المصريين حاليا.. كيف تقيم هذا النقاش الحاد الذي يكاد أن يصل لدرجة المعركة؟
مبدئيا هناك 18 مليون مواطن صوتوا للاستفتاء ولا يجب أن نعود للوراء ويجب أن نحترم أصواتهم، وبشكل شخصي أعتقد أن انتخاب المحليات أكثر أهمية، فعلى مستوى القرية أو المدنية الصغيرة، يمكن للمواطن أن يدرك قيمة صوته، وأن يراقب بدقة تصرفات المرشحين والمسؤولين، ويحاسبهم ويعزلهم إذا لم يستجيبوا لتطلعاته، لذلك ربما تكون تلك الانتخابات المرحلة الأولى للوصول لديمقراطية حقيقية.
لكن المشكلة أن الأحزاب في مصر تتجه للانتخابات دون برامج حقيقية وواضحة، فهنا كانت الأحزاب القديمة تابعة للنظام، وهذه مشكلة ضخمة، والجديدة بلا برامج، والتكتلات السياسية هي تكتلات وراء أشخاص للأسف وليست وراء برامج محددة أو أيدلوجيا بعينها، فهي أحزاب الرجل الواحد.
في 25 يناير فجر الشباب الثورة، وبعد إزاحة رأس النظام لا يزالون بعيدين عن مراكز إتخاذ القرار، ونفاجأ كل فترة بقانون يصدر هكذا دون نقاش وبقرار منفرد.. في ظل هذا الوضع كيف تقرأ المستقبل؟
صعب أن يتنبأ أحد بالمستقبل في مصر، ولا أحد فكر في تنظيم المرحلة الانتقالية، فلا المجلس العسكري ولا الأحزاب ولا حتى شباب الثورة وضعوا خطة لما سوف يحدث في تلك المرحلة، فكان رحيل مبارك هو المطلب الرئيسي، لكن ليس هناك خطة متفق عليها لإدارة المرحلة، وهذا أيضا أمر مفهوم، خاصة حين نرى أن الأمن والوزارات والمسؤولين في كافة قطاعات الدولة من الجيل القديم، وحتى في المؤسسات الإعلامية الرسمية التغيير قليل. وقبل فترة رأيت مظاهرة للمحامين يقولون إن الثورة أزاحت مبارك لكن هناك ألف مبارك باقين في مواقعهم، وهذه مسألة سوف تتطلب وقتا، لذلك أعتقد أن المرحلة الانتقالية سوف تستمر طويلا.
تستمر حتى بعد الانتخابات البرلمانية والرئاسية؟
لا أعتقد أن الانتخابات سوف تغلق باب المرحلة الانتقالية تماما، وحتى الآن لا أحد يستطيع مثلا أن يقول من سيأتي رئيسا لمصر، ليس فقط من هو الشخص الذي سوف يتولى المنصب، لكن أيضا ماهي صلاحياته الدستورية وبالتالي مسؤولياته، وما هي طبيعة العلاقة بين الحكومة والبرلمان والرئاسة.. كل هذه الأشياء لا تزال ضبابية، فمصر في مرحلة ثورية وهذا أمر لا يثير القلق إطلاقا، فحين بدأت الثورة الفرنسية مثلا، لم يكن هناك قادة معروفين، ولا برامج واضحة، وحتى فكرة التحول للجمهورية لم تكن مطروحة، حتى ظهرت فجأة وتحققت بعد 3 سنوات من الثورة، لكن المهم أن المرحلة الثورية مرحلة نضج، والناس تتعلم بسرعة في تلك المرحلة، وتعرف كيف تواجه التحديات، وكيف تحدد خطواتها.
بما أنك ضربت مثالا بفرنسا، فهناك جاء الجنرال شارل ديجول للحكم، بطريقة ديمقراطية، في مصر حاليا ظهر 4 جنرالات سابقين كمرشحين محتملين للرئاسة .. هل يفتح هذا الباب لسيناريو «رئيس عسكري بزي مدني»؟
ديجول كان عسكريا، لكن لا يمكن أن نقول إن حكمه كان حكما عسكريا هذا أولا. ثانيا الجيش سيكون له دور في المستقبل، فهو جزء من تاريخ الدولة في مصر، ففي تركيا كان دور الجيش هو الأهم، ثم تقلص خلال من 20 إلى 30 سنة، لكن دور الجيش موجود تاريخيا في مصر، لكن الأهم أن يكون معروفاً ماهو دوره بالتحديد، وماهو خارج إطار سلطاته.
وماذا عن فكرة ضمان الجيش لمدنية الدولة؟
هذه فكرة عجيبة جدا، فكيف تكون مؤسسة عسكرية هي ضمانة المدنية؟. وعامة هذه المقولة يرددها تيار كان مؤيدا لمبارك خوفا من الإسلاميين، وهذا أمر مرفوض.
والمشكلة أن البعض من المثقفين يعتقد أن الشعب جاهل ولا يستطيع أن يأخذ قرار بشكل سليم، وهذا أمر آخر مرفوض أيضا، فالديمقراطية هي الديمقراطية، ومن يستطيع أن يقول إن صوت المثقف مثلا أهم من صوت العامل؟ لا أحد فالموضوع أن لكل مواطن حق أصيل في اختيار ما يراه مناسبا، وأحيانا يأخذ بعض المثقفين مواقف غير موفقة.
وأعتقد أنه في جو ديمقراطي لن تكون هناك دولة دينية مثل السعودية أو طالبان، وبشكل شخصي أعتقد أن شريحة واسعة من الذين يصوتون للإسلاميين لا يريدون هذه النماذج.
عادت «فزاعة الإسلاميين» مرة أخرى جاءت، كما يقول البعض، بعد تصريحات مثيرة لقيادات التيار الديني والصعود الكبير للإخوان المسلمين.. فكيف تقرأ هذا الطرح؟
في البداية كان الإخوان موحدين، ولديهم برنامج سهل وفضفاض، بسبب الضغوط الأمنية، لكن مشكلة الإخوان حاليا في الشارع، ولا يستطيعون أن يقولوا شيئا ويفعلوا نقيضه، طبعا بعضهم يفعل ذلك لكن هناك وسائل إعلام تنشر، وانترنت يحتوي أرشيفا، وشارع يتعلم بسرعة. وأتمنى أن يصل الإخوان للحكم لنعرف ماهي برامجهم الحقيقية.
أظن أن المناخ الديمقراطي هو الأهم ولا يجوز أن يقال إن الجيش هو الضامن للدولة المدنية، فالشعب هو الضامن الوحيد للديمقراطية.
هناك انتقادات متبادلة بين الليبراليين والإسلاميين حول الديمقراطية.. هذا الجدل الحاد كيف تفسره؟
ليس هذا هو الحوار الأهم رغم أنه يظهر أمام الناس للأسف كأنه حلبة الصراع الوحيدة، وأعتقد أن الليبراليين والإسلاميين سعداء بهذا الصراع الوهمي، كي لا يجيبوا على أسئلة تتعلق بالاقتصاد والتغيرات الاجتماعية وإعادة توزيع الثروة، وحتى ما معنى الديمقراطية، وطرق تطبيقها، وما معني الدولة المدنية، فليس هناك نموذج موحد لها يمكن استنساخه.
وحتى مع اعترافنا بأن هناك مشكلة في المستوى الثقافي للجمهور، وهناك حاجة لعملية تثقيف واسعة، لكن وبكل الأحوال لا يجوز أن يعتقد أحدأ أن عليه أن «يربي» الشعب أولا 20 سنة ثم «يعطيه» الحق في اتخاذ القرار.
طرح وجود المجلس العسكري وحكومة شرف معاً تساؤلات حول ازدواج السلطة في مصر.. إلى أي مدى تعتقد في هذا التناقض؟
هناك تناقضات داخل كل سلطة، فحتى المجلس العسكري ليست لدية رؤية موحدة حول العديد من الأمور، مثلا ما هو موقفه حول الرواتب، والموازنة العامة للدولة، والتنمية الاقتصادية؟ ربما تكون لديهم مواقف عامة لكن ليس أكثر من ذلك، أيضا داخل الحكومة الحالية هناك تناقضات مماثلة واختلاف في الرؤى، ولأنه لا يوجد اتجاه عام أو خطة واضحة.
هذا يدفعنا لسؤال آخر، حول أداء الحكومة خاصة في موضوع الاقتراض من الخارج لسد العجز في الموازنة.. كيف تقيم تلك الخطوة؟
يجب أولا أن نعرف الدور السيئ الذي قامت به المؤسسات الدولية المانحة مثل البنك الدولي وصندوق النقد فيما يتعلق بمصر، ولنعود لما كانوا يكتبونه عن انتعاش الاقتصاد في عهد مبارك، ودعمهم للنظام السابق وهم يعرفون جيدا ماذا يجري على الأرض، هنا على شباب الثورة أن يكون لهم موقف واضح تجاه تلك المؤسسات التي دعمت الديكتاتورية، وهذا التأييد لم يكن سياسيا فقط بالتقارير، لكنه كان تأييدا اقتصاديا أيضا.
ثانيا تلك المؤسسات الدولية تضع خططا وشروطا ليست بالتأكيد حقائق علمية مسلم بها، فالعالم كله رأى كيف فجرت قرارات البنك الدولي وغيره الأزمة الآسيوية في التسعينيات، ومعظم دول آسيا قطعت علاقتها بتلك المؤسسات والجهات، ورفضت اتفاقية واشنطن حول الليبرالية الاقتصادية، وحققت تقدما مهما.
هل مصر في وضع يسمح لها بأن تأخذ قراراً مماثلا لما فعلته الدول الآسيوية؟
علينا أن نعترف أن وضع مصر الاقتصادي صعب، لكن هذا لا يمنع أن تكون لدى حكومة القاهرة رؤية واضحة، وأن تتفاوض بشراسة، ولا تقبل كل الشروط.
لكن هناك ملامح تثير القلق، مثلا في مصر الآن نقاش ضخم حول الضرائب، وهذا نقاش غريب في الحقيقة، فحتى في الدول الرأسمالية الكبرى، تفرض ضرائب تصاعدية، لكن في مصر يثور البعض حين تقول الحكومة إنها سوف تفرض ضريبة 20 أو 25 % على من يصل دخله إلى 100 ألف جنية، وهذا غير منطقي ففي فرنسا مثلا إذا تجاوز دخلك مبلغا بعينه تدفع 50% منه ضرائب للدولة التي تعيده للفقراء في صورة خدمات.
هناك محللين تخوفوا من موجة الدعم الاقتصادي المعروضة على مصر من دول غربية باعتبارها محاولة لإيجاد قدم في «مصر الثورة» هل تتفق مع هذه الرؤى؟
بتقديري ليست مشكلة أصلا أن تحاول بعض الدول إيجاد موطئ قدم، فهذا أمر طبيعي لأن كل الدول تتحرك حسب مصالحها، ومصر دولة مهمة للغاية، لكن المشكلة أنني لا أشعر أن هناك حكومة مصرية لديها خطة واضحة فيما يتعلق بالاقتصاد تتفاوض على أساسها وتأخذ ما تريد وترفض ما لا يناسبها. وما أخشاه أن تأخذ الحكومة المصرية المواقف الاقتصادية للولايات المتحدة باعتبارها «مواقف مبدئية»، وهذا طريق سيؤدي لأن تخسر مصر كثيراً.
بمناسبة الضرائب كيف تفسر تراجع الحكومة السريع عن الضريبة الجديدة ؟
فكرة الضرائب كانت مفيدة جدا للاقتصاد المصري، لكن الحكومة تراجعت بسرعة، وبشكل شخصي حين وصلت إلى مصر اندهشت من الحديث بفزع عن محوري الأمن والاقتصاد، وشخصيا مصر من أكثر الدول التي أشعر فيها بالأمان، والقاهرة مثلا من العواصم القليلة جدا التي يمكنك أن تخرج فيها في وقت متأخر من الليل للشارع وتعود سالما.
أما عن الاقتصاد فهناك مشاكل، ربما ورثتها الحكومة مما قبل الثورة، لكن إثارة فزع الشعب من الاقتصاد هي رسالة هدفها النهائي أن يعود المواطنون إلى منازلهم فالثورة انتهت، وهذا أسلوب لا يحل المشاكل الاقتصادية.
وسط هذه الظروف هل تعتقد أن «مصر الثورة» قادرة على شق طريق اقتصادي مختلف وتفادي ضغوط الدول الكبري؟
الثورة المصرية حدثت في عالم يتغير وهذا شيء مهم جدا ومفيد لمصر، فلسنا في التسعينيات حيث كان هناك النموذج الاقتصادي الأمريكي وحده، فالآن لدينا نماذج بعيدة عن اتفاقية واشنطن الاقتصادية، مثل الصين والهند والبرازيل وهي قوى اقتصادية صاعدة ومميزة، لذلك هناك إمكانية لدولة بحجم مصر أن تقرر مستقبلها الاقتصادي.
طبعا العلاقات الاقتصادية مع أوربا وأمريكا مهمة، لكن هناك خيارات أخرى، فلا بد أن تستوعب مصر هذا التغير الاقتصادي التاريخي، وهذا مهم للغاية لدعم الثورة المصرية، وعلى الثوار أن يعرفوا أنهم في عالم جديد، وأن يتعاملوا على هذا الأساس.
أليس غريبا أن يختفي اليسار في مصر في الوقت الذي تتصاعد فيه مطالب شعبية هي بالأساس على أجندته؟
بالتأكيد اليسار المصري، خسر للغاية. فتجربة حزب التجمع وموافقة المؤيدة للنظام أدت لخسارة حقيقية، لكن هناك حركات يسارية كانت مشاركة في الثورة ومن البداية، وكذلك هناك النقابات المستقلة، وأرى محاولات تطور في القطاع العمالي، وربما تكون لاعبا مؤثرا، لكن المشكلة أنه وحتى الآن لا يوجد برنامج شامل لحقوق العمال والفلاحين يرفعه اليسار.
بالنسبة للعمال هم الآن في مرمى سهام «الفئوية» وهناك قانون لتجريم الاحتجاجات طرحته حكومة جاءت عبر احتجاج أصلا.. كيف تقرأ هذا الملف؟
لنبدأ بما يسمونها مطالب فئوية، فهل من المعقول أن نعتبر مطالبة عامل فقير بأجره مطلب فئوي يجب تأجيله؟ في الوقت الذي يرفض فيه رجال الأعمال دفع ضرائب للدولة ويهددون بمؤشر البورصة رغم أنه ليست معبرا عن الاقتصاد المصري، فتستجيب الدولة وتلغي الضريبة في 24 ساعة؟
وماذا عن تحرك العمال نقابيا.. لدينا الآن إتحاد رسمي وآخر مستقل، وإتحاد أعلنت قيادات الإخوان عزمهم تأسيسه تحت عنوان إتحاد عمال الإخوان المسلمين؟
الأصل أن هذه نقابات للعمال ولا يجب أن تكون خاضعة لحزب بعينه، وأتوقع أن ينتهي إتحاد العمال الحكومي، وألا تنجح نقابة عمال الإخوان، أما النقابات الحرة فلديها فرصة، وقد قابلت بعضا من العمال هنا ولديهم وعي جيد جدا فيما يتعلق بالمطالب وحتى بتاريخ الحركة العمالية في مصر المستمر منذ نحو قرن كامل.
وببساطة إذا أراد اليسار أن يكون له دور بين التيارين الليبرالي والديني فعليه أن يعود لدوره الحقيقي وسط العمال.
لنبتعد قليلا عن الاقتصاد ولنتحدث عن الإعلام..كيف تقرأ المشهد الإعلامي المصري بعد الثورة؟
المشهد اتسع، لكن ما يشغلني الآن هو مصير المؤسسات الصحفية القومية، فمن النظرة الأولى على الخريطة الإعلامية، تجد أن هناك فضائيات، وإعلام مستقل، لكن الكتلة القومية التي كانت تؤيد مبارك أصبحت تؤيد المجلس العسكري، وفي مصر يقولون «اللي يتجوز أمي أقوله يا عمي»، ومصير المؤسسات القومية والتلفزيون الحكومي هو ما يشغلني الآن.
هناك انتقادات حادة موجهة للإعلام، والمجلس العسكري في آخر بياناته ينتقد وسائل الإعلام ويطالبها بتحري الدقة، ومؤخرا أحيل 3 صحفيين للنيابة العسكرية.. هل الإعلام على أبواب مأزق جديد مع السلطة؟
كما قلت لك المشهد اتسع، ولم يعد بمقدر أحد أن يفكر في الإعلام بطريقة الستينيات، والمجلس العسكري والجنرالات من جيل مبارك لا يتصورون كيف يمكن لشاب في العشرينيات أن يقف في مؤتمر وينتقدهم بشجاعة.
لكن لابد أن نعترف أن الصحافة المصرية لديها مشكلات عميقة، فما ينشر اليوم تكذبه الصحف غدا، وعلى الإعلاميين أن تكون لديهم ثقافة التأكد من المصادر، فإذا قال أحد شباب تنظيمات الثورة إنه يؤيد مظاهرة ما تخرج الصحف اليوم التالي لتعلن تأييد شباب الثورة للمظاهرة او الاحتجاج وهذا أمر غير دقيق أبدا ويحتاج كما قلت لثقافة التأكد من المصادر.
أصبح مستخدمو الانترنت في مصر نحو 23 مليون، وبدأت المصادر الرسمية تتراجع لصالح صحافة أقرب لصحافة المواطن خاصة على الانترنت.. هل يتراجع دور الصحفي؟ وهل الصحافة قادرة على تطوير أدواتها لتستوعب هذا الزخم الجديد؟
انتشار الانترنت واستخدامه بكثافة مصدر جديد للأخبار وهذا لا يثير القلق، نعم على الميديا أن تتطور، ونعم هناك دور متزايد للصحفي المواطن، لكن لنقل إن الأفراد كانوا دائما صانعوا الأحداث، فيما كانت وسائل الإعلام التقليدية تتعامل مع المصادر الرسمية أكثر وتركز عليها، هذه المعادلة سوف تتغير بالتأكيد، لكن دور الصحفي سيظل موجودا بلا شك فهو الذي ينقل الخبر، ويعرض وجهات النظر المختلفة، وهو من يقرر إبراز خبر بعينه أو معلومة بعينها.