بينما كان رواد سوق الجمعة بمنطقة إمبابة يتزاحمون لشراء السلع المستهلكة والقديمة، كانت سيدة فى الخمسينات من العمر تجلس أسفل بلكونة أحد المنازل، ويلتف حولها عدد ليس بالقليل من المواطنين، تفترش السيدة أرضية الرصيف، وتضع أمامها ملاءة مليئة بعبوات وشرائط الأدوية.
كان رجل وإلى جواره سيدة يبدو أنها زوجته يفتشان فى تلك الأدوية، أمسك بعبوة دواء «إبيريسون» الخاص بمرضى العظام، وسأل السيدة البائعة عن سعر العلبة، دون أن ينظر فى تاريخ صلاحيتها، فأجابته السيدة «أى شريط بـ 3 جنيه»، فتح الرجل العلبة ووجد بها شريطين، ودفع للسيدة 6 جنيهات وأخذ العبوة وانصرف.
أسرعت خلف الرجل وعلى بعد أمتار أوقفته لأساله عن تاريخ الصلاحية، فرد وكأنه اعتاد على شراء الأدوية مرات بتلك الطريقة: «هو يبقى منتهى من شهر ولا اتنين وده مش بيأثر»، انصرف الرجل وزوجته رغم أنه نظر معى على تاريخ انتهاء صلاحية الدواء ووجده انتهى منذ أكثر من 8 أشهر، وعدت إلى تلك السيدة التى تفترش الرصيف وأمامها ما لا يقل عن 400 عبوة وشريط من الدواء، وبمجرد أن سألتها عن مصدر تلك الأدوية غضبت وأخذت تستعين بأشخاص ربما على علاقة بها، أخبرتهم أننى أريد فقط أن أطمئن على سلامة الدواء الذى أشتريه منها، فرد أحدهم بصوت مرتفع «ده دوا منتهى الصلاحية بس مازال صالح، يعنى يبقى منتهى من شهر ولا اثنين، عشان الناس اللى مش قادرة». وبمجرد أن علمت السيدة أننى صحفى أسرعت بلم ملاءتها والانصراف من المكان.
انتهى المشهد المتكرر فى كل يوم جمعة، وبقيت الأسئلة «من أين تأتى السيدة بتلك الأدوية؟ وكيف يتم تسريبها من الصيدليات أو الشركات؟ ومدى خطورة ذلك على صحة المريض الذى يتناول تلك الأدوية؟».
العقيد محمد عثمان الضابط السابق فى شرطة التموين كشف لـ«المصرى اليوم» عن تفاصيل مافيا تجارة الأدوية منتهية الصلاحية، فيحكى أنه منذ أكثر من 4 أعوام، توفيت سيدة تبلغ من العمر 35 عاما بعد نقلها إلى مستشفى الشاطبى بالإسكندرية، ووقتها أثبتت التحقيقات من خلال التشريح والاستماع لأقوال الاسرة والأطباء أنها توفيت نتيجة تناول دواء منتهى الصلاحية اشترته من أحد الأشخاص يبيع الأدوية من داخل مخزن فى إحدى حارات شارع ابن الفارض فى الإسكندرية.
ويقول الضابط إنه وقوة من شرطة التموين والتفتيش على الدواء التابعة لوزارة الصحة توجهوا إلى مقر هذا المخزن، وجدوا المتهم الذى كان يعمل فى سلسلة صيدليات كبرى فى الإسكندرية، استأجر شقة فى الطابق الأرضى بأحد المبانى، واستغلها كمخزن للأدوية منتهية الصلاحية، وضبطوا لديه أكثر من طن من الأدوية بمختلف أنواعها.
فى أوراق التحقيقات مع المتهم الذى تم حبسه بتهمة القتل الخطأ للسيدة وإدارة منشأة طبية بدون ترخيص، اعترف بأنه كان يعمل فى سلسلة صيدليات شهيرة فى مصر، لها أكثر من 35 فرعا فى مختلف محافظات مصر، وقت عمله كان يشارك فى تخزين آلاف العبوات من الأدوية منتهية الصلاحية لحين ردها إلى الشركات المنتجة التى لم تكن تأتى لاسترجاع تلك الأدوية منتهية الصلاحية وتضطر إدارة الصيدلية إلى إعدامها.
يضيف المتهم فى اعترافاته بأنه وقتها سمع من أطباء الصيدلة أن معظم الأدوية منتهة الصلاحية يصلح استخدامها لعام إضافى عن التاريخ الموجود على العبوة نظرا لان الشركة المنتجة أو الأبحاث تضع مدة انتهاء صلاحية أقل من الحقيقة بمدة لا تقل عن عام حتى يأمنوا تأخر صرف الدواء أو بيعه أو توزيعه.
وتابع المتهم: «كنت فى البداية آخذ بعض الأدوية منتشرة الاستخدام لمنزلى، أتناولها أنا أو أوزعها لأفراد أسرتى وأقاربى ولم يصب أحد بأى أذى، وكان الدواء سارى المفعول رغم أن صلاحيته كانت منتهية منذ شهرين أو أكثر».
ويوضح المتهم فى التحقيقات أنه زاد من تجارته وأصبح بمعاونة عدد من العاملين معه فى سلسلة الصيدليات وصيدليات أخرى يسربون له تلك الأدوية منتهية الصلاحية بنسبة لا تزيد على 5% من سعرها الحقيقى، وكان يبيعها هو بنصف ثمنها الحقيقى أو أقل قليلا طبقا لنوع الدواء واستخدامه.
وعن المرضى الذين يترددون عليه للشراء منه قال المتهم إن أهل المنطقة كلها كانوا يتعاملون معه وكأنه صيدلى يوفر لهم «لبن العصفور» وبأسعار مخفضة، ومن لم يجد منهم دواء من النواقص الموجودة فى السوق كان يحضر إليه.
ويعلل المتهم نشاطه المخالف للقانون والذى تسبب فى واقعة وفاة السيدة بأنه كان يبيع الأدوية التى قاربت على انتهاء صلاحيتها أو المنتهية منذ 6 أشهر على الأكثر، لكن شرطة التموين والتفتيش الصيدلى وجدوا لديه فى مخزنه ما ينافى ذلك، حيث عثروا على أدوية منتهية الصلاحية منذ عام، لكن المتهم رد فى التحقيقات بأنه كان يعدها للإعدام بعد أن زادت مدة انتهاء صلاحيتها إلى أكثر من عام.
يقول الضابط السابق فى التموين: «الأدوية منتهية الصلاحية مصيرها مشتت بين أطراف عدة، الصيدلى يقول إنها تخص الشركة المنتجة، والشركة ترد بأنها غير ملزمة بها. لذا فإن بعض العاملين فى الصيدليات أو شركات الأدوية يستغلون عملهم بتسريب تلك الأدوية إلى الأسواق مرة ثانية، حيث يقومون بتغيير مسار طريق تلك الشحنات أو الكميات من توجيهها إلى مناطق الإعدام إلى مخازن خاصة بهم تنتشر فى المناطق العشوائية أو المناطق الفقيرة أو الريفية التى تخضع لرقابة أقل من قبل التفتيش الصيدلى، ثم يقومون بإعادة توزيعها بطرق غير شرعية لبيعها فى الأسواق أو خلسة للمرضى غير القادرين أو ممن يعيشون فى مناطق فقيرة أو نائية».
ويقول على سعيد، مفتش بإدارة التفتيش الصيدلى: «الصيدلى يضع الأدوية منتهية الصلاحية فى مخزن صيدليته، وحينما نذهب إليه يقول إنه فى انتظار حضور مندوب الشركة المنتجة لاستعادتها، وقتها لا نستطيع محاسبته كل ما يمكننا فعله هو عدم عرضها على أرفف الصيدلية، لكن من يضمن عدم بيعها، لن نستطيع أن نضع مفتشا فى كل صيدلية لنحكم ما اذا كان يبيع من تلك الأدوية منتهية الصلاحية أم لا، فعدد الصيدليات تعدى الـ 800 ألف صيدلية ولا يزيد عدد المفتشين على 5 آلاف فقط.
ويضيف «سعيد»: «لدينا أزمتان حقيقيتان يجب حلهما.. الأولى تتعلق بإصدار قرار حاسم بإلزام الشركات باسترداد الأدوية أيا كان نص هذا الاتفاق ونسبته المالية.. والثانى يتعلق بإحكام إصدار التراخيص لإنشاء الصيدليات، لان معظم الصيدليات الان يديرها عمال ليس لهم علاقة بالصيدلة، بالإضافة إلى أن بعض الصيادلة أصبحوا يبيعون أسماءهم وإدارتهم للصيدلية دون أن يلتزموا بمتابعتها أو مراقبتها، مجرد الاسم يكون لافتة الصيدلية – إدارة الدكتور فلان الفلانى – أصبحت العملية للبعض وليس الكل تمثل تجارة».
وكشف مسؤول بوزارة الصحة أن تزايد ضبطيات الأدوية منتهية الصلاحية، ربما يرجع إلى تنامى ظاهرة الاتجار فى إنشاء الصيدليات وأصبح عدد كبير من الصيادلة يبيعون أسماءهم لاخرين ليسوا لهم علاقة بالصيدلة ومن ثم لا يهتمون بفكرة انتهاء الصلاحية وتجارتها، فضلا عن حالة الجهل من المواطنين بخطورة تناول دواء منتهى الصلاحية أو تغاضيهم عن التأكد من تاريخ الصلاحية أو ربما بسبب الحالة الاقتصادية التى أجبرت عددا ممن هم تحت خط الفقر على اللجوء إلى شراء الأدوية منتهية الصلاحية طالما أن سعرها فى متناول يدهم.
وقال المسؤول بوزارة الصحة إن بائعى تلك الأدوية عادة يبيعونها بربع ثمنها نظرا لأنهم إما يسرقونها من الصيدليات أو يحولون مسارها من طريق الإعدام إلى مخازن خاصة بهم.
وقال محمود فؤاد، مدير المركز المصرى للحق فى الدواء: «هذا المشهد لم يظهر فجأة، وإنما كانت له أسباب يجب معالجتها»، مشيرًا إلى أنه تم رصد بيع أدوية فى عدة مناطق مختلفة منها إمبابة، ومحطة مترو المعادى، وأماكن أخرى، لافتًا إلى أنهم تحروا عن الأمر ووجدوا أنها أدوية منشطات وليست أدوية منتهية الصلاحية.
ولفت إلى وجود دواء منتهى الصلاحية فى الصيدليات المصرية بنحو 650 مليون جنيه، واصفًا إياه بـ «السم» المتاح فى الصيدليات، وأنه يوجد 770 ألف صيدلية فى مصر، لا يمكن متابعتها بشكل يومى، مشيرًا إلى أن 20% ممن يديرون تلك الصيدليات، هم ناس دخلاء على مهنة الطب والصيدلة، مضيفًا: «هما اشتروا أسماء فقط، بيدفعوا ليها مقابل شهرى، فى النهاية هو راجل جاى عشان يكسب»، وأكد ضرورة وجود هيئة لتسعير الدواء، ومتابعته، لافتًا إلى أن تسعير الدواء فى مصر غير عادل.
فى إحدى الصيدليات الموجودة فى منطقة حدائق الاهرام بالجيزة يقول الصيدلى د. أحمد يوسف إن الازمة تكمن فى عدم وجود آلية واضحة أو قانون ينظم عملية استرجاع الأدوية منتهية الصلاحية أو آلية إعدامها، مشيرا إلى أن الشركات ترفض رد الأدوية والصيدلى يتعرض للخسارة وبعض ضعاف النفس منهم قد يلجأ إلى بيعها إذا انتهت صلاحيتها، خاصة أن هناك تباينا فى مدد صلاحية بعض الأدوية، فضلا عن أن عددا كبيرا من الصيدليات يديرها على أرض الواقع أناس ليس لهم علاقة بالصيدلة وكأنهم يديرون سوبر ماركت أو محل أدوات منزليه، ويرى «يوسف» أنه لا بد من استصدار قانون ينظم ذلك وإحكام الرقابة على الصيدليات وإدارتها وتغليظ العقوبات على المخالفين منهم.
ورفض مسؤول بوزارة الداخلية، طلب عدم نشر اسمه: «فى عام 2019 تضاعفت ضبطيات الأدوية منتهية الصلاحية، وقبل سنوات كانت الضبطيات تتعلق بأدوية مجهولة المصدر أو منشطات جنسية أو مستحضرات تجميل لكن الان أصبحنا نضبط أدوية خاصة بالقلب والصدر وغيرها مما يتناولها المرضى»، وأرجع ذلك إلى جهل بعض الناس ممن يشترون تلك الأدوية بالإضافة إلى جشع بعض القائمين على تلك المهنة أو الداخلين عليها، فضلا عن قلة عدد المفتشين الصيدليين التابعين لإدارة التفتيش الصيدلى.
وكشف رضا عطية، صيدلى، عن مفاجأة تتعلق بإحدى الجمعيات الخيرية الشهيرة والتى كانت تتلقى من المواطنين تبرعات بالأدوية، وقال: «عدد كبير من المواطنين كانوا يرسلون لنا أدوية منتهية الصلاحية، وكنا نقوم بفصلها تمهيدا للتخلص منها، وفى إحدى المرات اكتشفنا أن احد العمال فى تلك الجمعية كان لا يقوم بإعدام الأدوية التى نسلمها له وكان يبيعها لاخرين فى منطقة بشتيل السوق، تم إبلاغ الجهات الأمنية والتى اتخذت إجراءاتها فى تلك الواقعة».
وشرح مسؤول كبير فى إحدى شركات الأدوية العاملة فى مصر أن هناك أزمة كبيرة بالفعل فى عملية استرجاع الأدوية منتهية الصلاحية، وقال: «لا يوجد قانون منظم لذلك، لا يجب أن تتحمل الشركات خسائر إعدام تلك الأدوية خاصة أن الكميات تكون كبيرة فى ظل وجود اكثر من 800 ألف صيدلية فى مصر، وبالرغم من ذلك فمعظم شركات الأدوية تسحب منتجاتها المنتهية الصلاحية وتعيد استخدام المادة الفعالة فى بعض الأدوية بينما يتم إعدام أدوية أخرى بطريقة آمنة»، ورفض المسؤول الكشف عن طريقة إعدام تلك الأدوية ومكان عملية الإعدام.
وبالرغم من خطورة تناول الأدوية منتهية الصلاحية إلا أن دراسة بحثية كشفت عن أن الأدوية ربما تحتفظ بفاعليتها الأصلية حتى لو انتهى موعد صلاحيتها منذ أعوام ولم تحفظ فى درجة حرارة مناسبة طوال الوقت.
وكتب الباحثون فى دورية «وايلدرنيس آند إنفيرومنتال ميديسن» أن هذا نبأ طيب للعاملين فى المناطق النائية من العالم، حيث يكون الدواء منتهى الصلاحية أحيانًا هو الخيار الوحيد، والبديل هو عدم وجود أى علاج لمرض خطير.
وقالت الدكتورة إيما براون التى قادت فريق البحث بأن «تاريخ الصلاحية على أى عبوة دواء يشير لآخر موعد تضمن فيه شركة الأدوية سلامة محتوى العقار عند تخزينه فى الظروف الموصى بها وفى عبوة التغليف الأصلية». وأضافت: «هذا التاريخ ليس بالضرورة الموعد الذى يصبح الدواء عنده غير فعال أو خطيرا، وفى كثير من العقاقير قد تكون تلك الفترة أطول بكثير من الموعد المعتاد للصلاحية، وهو بين عامين و3 أعوام».
وأوضحت أنه فى بعض الأنحاء من العالم يواجه الأطباء صعوبة فى الحصول على الأدوية أكثر من مرة سنويًا، وأنه قد يكون من المكلف أيضًا للمجتمعات الصغيرة أو فرق الاستكشاف استبدال الأدوية التى لم يتم استخدامها.
واختبر فريق البحث فاعلية 5 عقاقير منتهية الصلاحية جرى استردادها من هيئة المسح البريطانى للقطب الجنوبى، التى تدير 5 قواعد وسفينتين فى منطقة القارة القطبية الجنوبية، وتملك منشآت طبية فى هذه المواقع.
وأكد الباحثون أن أدوية عمليات القارة القطبية الجنوبية يجرى طلبها مرة سنويًا فى مايو، وتشحن من بريطانيا فى سبتمبر، وتصل إلى القواعد فى ديسمبر، بعدما تمضى عدة أشهر فى البحر، وأضافوا أن الأدوية التى جرى اختبارها قطعت هذه الرحلة مرة ثانية عندما أعيدت بسبب انقضاء تاريخ صلاحيتها.
واختبر الباحثون 5 أنواع من العقاقير انقضى ما بين عام و4 أعوام على انتهاء صلاحيتها، وقارنوا هذه الأدوية بعينات حديثة من الأدوية نفسها لمعرفة مدى فاعلية وكفاءة المادة الفعالة بها، وتبين أن جميع الأدوية المختبرة ما زالت فعالة نظريًا. لكن الباحثين حذروا من أنهم لا يعرفون على وجه الدقة درجات الحرارة التى تعرضت لها هذه العقاقير.
وذكرت براون: «هناك كميات هائلة من الأدوية التى يتم التخلص منها بسبب انتهاء صلاحيتها، وهذه تكلفة يتحملها المرضى من خلال الضرائب والتأمين وغيرهما من الفواتير الطبية».
لكن بعض الصيادلة فى مصر علقوا على تلك الدراسة بأنها لم تلتفت إلى طريقة تخزين تلك الأدوية منتهية الصلاحية، وقالوا إنها لا تنطبق على ما تضبطه إدارات التفتيش وشرطة التموين من أدوية منتهية الصلاحية، فطبقا لمحاضر الضبط فإن تلك الأدوية يتم ضبطها فى درجة حرارة قد تفسد الأدوية حتى التى لم تنته صلاحيتها، فضلا عن أن هناك أدوية تحتاج إلى درجة حرارة منخفضة وأدوية أخرى تفسد بمجرد فتح العبوة الخاصة بها.