بعد أسبوع من محاصرة الأمن- أرضا وجوا- للمتهم الليبى في حادث الواحات البحرية داخل الصحراء الغربية في ٢٠ إبريل ٢٠١٧، فكر المتهم في الاستعانة بأنصاره في ليبيا لإرسال من ينتشله من الصحراء وإعادته إلى درنة الليبية، حيث موطن العناصر المسلحة، كان هاتف المتهم قد نفد شحنه، تسلل في الظلام إلى أقرب كتلة سكنية بحثا عن وسيلة اتصال، وصل إلى أطراف مدينة البويطى عاصمة الواحات البحرية، وحاول أن يستعيد توازنه لإقناع «صاحب محل» بأنه سائح ويريد شاحن هاتف قليلا لإعادة تشغيل هاتفه، بشهامة يعتاد عليها أهل الواحة، أخذ صاحب المحل الهاتف ووضعه بداخل محله لاستعادة شحنه، لم يأخذ صاحب المحل وقتا طويلا ليكتشف أن من أمامه ليس سائحا وأن جريمة كبرى يخفيها خلف ملابسه المتسخة ونظرات عينيه الخائفتين وصمته الذي أجاب به عن كل أسئلة مستضيفه، للحظة تذكر صاحب المحل جريمة الواحات البحرية وأن مسلحين هاربين تطاردهم قوات الجيش والأمن، عاد الرجل إلى داخل محله وأبلغ رجال الأمن الذين حضروا وألقوا القبض على المتهم الذي عرف فيما بعد أنه «عبدالرحيم المسمارى» المتهم الليبى الذي شارك في عملية قتل أفراد الشرطة في عملية الواحات البحرية.
تلك واحدة من القصص التي ستسمعها في شوارع مدينة البويطى عاصمة الواحات البحرية عندما تسأل عن خلايا الإرهاب التي تنتشر في الصحراء الغربية، يتسللون عبر الحدود الليبية ويتخذون من الصحراء الليبية مركزا للتدريب وإعداد خططهم للهجوم على قوات الشرطة والجيش أو الكنائس.
في شوارع يسودها هدوء الواحة، لا تسمع فيها إلا صوت الدراجات البخارية فهى وسيلة المواصلات الوحيدة، تجد عم «سلامة» يجلس أمام محله الصغير، يمسك مصحفه الصغير يقرأ ما يتيسر له من قرآن قبل قليل من انطلاق مدفع الإفطار في أول أيام رمضان، الأطفال الصغار يصنعون لأنفسهم ملعبا لكرة القدم، لهم قوانينهم الخاصة في اللعبة، السيدات يتشاركن في إعداد الطعام، صوت القرآن الكريم يختلط مع أصوات الأطفال في الشارع، بكلمات ولهجة بدوية يقول عم «سلامة» عن المتهم الليبى الذي أمسك به: «أيوه أنا من كشفت وأبلغت عن المسمارى».
ويكمل الرجل صاحب الـ«55 عاما»: «بطبيعتنا هنا حاولت أن أساعده، وقدمت له الماء والطعام، فهو غريب، حتى تذكرت أن هناك مسلحين قتلوا الأمن ويهربون في الصحراء، حاولت أن أتحدث معه، فكان لا يرد أو يرد بكلمة واحدة فقط، لهجته كانت أقرب للبدوية، في البداية قال إنه سائح وضل الطريق ثم قال إنه يعمل في شركة بترول، وأن سيارته تعطلت في أحد المدقات الصحراوية وأن هاتفه فرغ شحنه وأنه يحاول الاتصال بالشركة لإرسال سيارة لإعادته».
ترك الأطفال لعب الكرة والتفوا حول عم سلامة الذي يحكى قصته مع الإرهابى، وقاطعهم طفل بصوته الخافت: «كان شكله يخوف». فيضحك الرجل مكملا: «أيوه شعره كان طويل وملابسه متسخة، وأثار الغبار على وجهه، تشككت في روايته، تذكرت كلمات عدد من أفراد الأمن الذين حضروا قبل أيام إلى المسجد وطلبوا الإبلاغ عن أي شخص يشتبه به، وأبلغت الأمن فورا وحضروا وألقوا القبض عليه، حاول المتهم أن يهرب لكنه لم يفلح فالمكان كان محاصرا من الأمن وهو أيضا كان منهكا ولم تعد لديه قدرة على الجرى أو الهرب».
ويتابع: «عرفت فيما بعد أنه متهم ليبى شارك في قتل الضباط في الحادث الذي وقع عند الكيلو 135 بطريق الواحات- الجيزة».
لم تكن منطقة الواحات البحرية على صلة بالإرهاب طيلة تاريخها الكبير، هناك كان الأهالى يعيشون أياما هادئة، حياة طبيعية بدائية في أدواتها، يقيمون وسط جمال أشجار النخيل والزيتون والمشمش، وسحر الصحراء البيضاء، يستقبلون الآلاف من السياح كل عام، يبهرونهم برحلات السفارى وسط الصحراء وهدوء وجمال فنادقها المشيدة أسقفها بطريقة معمارية تجعل من غرفها مكيفة الهواء، ربما لا يزعجك غير «الناموس»، لكن ستارة خفيفة معلقة في السقف سوف تحميك.
منذ 4 سنوات تقريبا، بدأت خلايا الإرهاب تتسلل إلى تلك المنطقة، يتخذون من أطرافها الصحراوية قواعد للتمركز والتدريب العسكرى والهرب من مطاردة رجال الشرطة والجيش، تكررت حوادث الإرهاب بالهجوم على الأكمنة الشرطة أو الحدودية، بداية من الهجوم على كمين «الفرافرة» في يوليو ٢٠١٤ وحادث الواحات الشهير إبريل ٢٠١٧ والهجوم على نقطة حدودية أغسطس ٢٠١٨ وقصف السياح المكسيكيين بالخطأ أغسطس ٢٠١٥.. كل ذلك جعل السياح يهربون من الذهاب إلى هناك، التحذيرات الأمنية وخوف شركات السياحة أوقف حال العاملين في السياحة هناك، بعض الفنادق أغلقت بشكل جزئى، عدد كبير من العاملين في رحلات السفارى اضطروا إلى البحث عن فرصة عمل بديلة بعدما انقطعت رحلات السفارى التي كانت تعد مصدر الدخل الرئيسى لأهالى المنطقة.
الرحلة من الجيزة إلى الواحات البحرية تقطعها السيارة في 6 ساعات تقريبا، طوال الطريق الممتد في الصحراء الغربية ترى المدقات الصحراوية يمينا ويسارا، تلك الطرق الصحراوية التي صنعها أصحاب المحاجر، يستغلها المهربون في الوصول من ليبيا إلى القاهرة دون المرور على الأسفلت إلا لبعض كيلومترات فقط للهروب من أكمنة الشرطة والقوات المسلحة.
ويقول المتهم على رأفت في تحقيقات قضية الواحات البحرية: «قائد الخلية الإرهابية الضابط السابق عماد عبدالحليم قابل 2 من أصدقائه على هذا الطريق، اتصل بهم وأبلغهم أن يقابلوه عند جركن أصفر وضعه على جانب الطريق بعد نفق الطريق الإقليمى الدولى الذي يقطع طريق الواحات عند الكيلو 105، وصل صديقاه عند الجركن وأوقفا سيارته إلى جانب الطريق وقابلهما عماد على الطريق ثم نزلا إلى الصحراء لقرابة 500 متر وجلسوا على الرمال لساعة تقريبا ثم غادرا المكان».
ويحكى المتهم محمد إمام السيد في نص تحقيقات القضية: «أحد المتهمين في الخلية كان من مدينة المنصورة وكان هو مسؤولا عن ضم عناصر جديدة إلى الخلية، فحضر 12 شابا جديدا، وتم الالتقاء بهم على الطريق على بعد 5 كيلومترات تقريبا من محطة البنزين الوحيدة على الطريق، وعندما حضروا إلى المكان توجهت سيارة دفع رباعى اليهم وأحضرتهم إلى مقر المعسكر في الصحراء».
في خطوة جيدة من وزارة النقل قررت أن تبدأ في ازدواج الطريق الواصل إلى الواحات من الجيزة ربما لتنمية أكبر لتلك المنطقة التي يتجرع أهلها العذاب والآلام يوميا بسبب وقوع الحوادث على الطريق الفردى والمظلم لدرجة أن الأهالى كانوا يؤجلون سفرهم ورحلاتهم حتى صباح اليوم التالى إلا من كان منهم مضطرا.
وعندما تصل إلى مدخل مدينة الواحات البحرية وتحديدا عند منطقة المناجم ستجد آثار كمين للشرطة في مدحل المدينة، يبدو وأنه مهجور منذ سنوات، لا يوجد به غير غرفتين صغيرتين يمينا ويسارا ولافتة كبيرة مكتوب عليها «وزارة الداخلية. كمين المناجم».
عندما تتحدث مع شباب المدينة أو رجالها ينقلون لك مدى معاناتهم وتضررهم من صحوة الإرهاب في المنطقة، يحكى أحمد سمير صاحب شركة سياحة بالواحات البحرية وهو يشير إلى 3 سيارات دفع رباعى متوقفة أمام شركته الصغيرة: «انظر إلى تلك السيارات التي كانت منذ عامين لا تتوقف عن رحلات السفارى في الصحراء البيضاء، الآن متوقفة تماما حتى قرب حديدها على الصدأ، كانت كل سيارة تخرج مرتين في رحلتى سفارى، الآن كل شهر تقريبا ممكن أن تخرج في رحلة، السياح يخشون من استهدافهم في الصحراء من الإرهابيين».
ويكمل صاحب الشركة الذي يبلغ من العمر 47 عاما: «شركات السياحة في القاهرة والخارج أصبحت توجه السياح الذين يرغبون في رحلات السفارى إلى صحراء الفيوم، هنا لا نستطيع النزول إلى الصحراء على الرغم من التنسيق الأمنى وفى أماكن محددة فقط».
ويشرح سمير تطورات الوضع الأمنى في رحلات السفارى قائلا: «بعد حادث قصف السياح المكسيكيين بالخطأ، تم منع رحلات السفارى، بعد ذلك حدثت انفراجة وتم السماح لنا بالنزول مع إخطار الأمن، ولكن مع حادث الواحات تم منعه مرة أخرى، وعدنا مرة ثانية بعد تنسيق مع الأمن واتفاق على إرشادات وعلامات يتم اتباعها لتجنب القصف الجوى، وهى أنه إذا لاحظنا تواجد طيران عسكرى فوقنا فلابد أن نوقف السيارة وننزل منها ونترك أبواب السيارة الأربع مفتوحة ليتأكدوا من أننا لسنا من المسلحين».
وقال عدد من المرشدين السياحيين إن أجهزة الأمن ومن أجل إنقاذ رحلات السفارى اتخذت إجراءات أكثر أمانا لرحلات السفارى ومنها «الرادار الصحراوى»، ويشرح عماد نوفل أحد المرشدين طبيعة عمل الرادار الصحراوى أن كل شركة تبلغ الأمن بأرقام لوحات سياراتها التي تخرج في رحلات سفارى في الصحراء الغربية، ويقوم هذا الجهاز بالتعرف الجوى على تلك اللوحات إذا تم رصدها في الصحراء فإذا ما كانت من بين اللوحات المبلغ بها من أي من الشركات السياحية فهى تكون آمنة، أما إذا كانت اللوحات مختلفة فيتم استهدافها وتتبع مسارها.
لم تكن خسارة رحلات السفارى هي الضرر الوحيد لأهالى الواحات من العمليات الإرهابية فقد شهدت قرية الحيز الواقعة على أطراف الواحة البحرية في طريق الفرافرة حادثا جعل الأهالى هناك أكثر خوفا من تلك العناصر المسلحة، فقد اختطف المسلحون أحد أبناء القرية بسبب عمله سرا مع الأمن للإبلاغ عن تحركات العناصر المسلحة، وبعد أيام عثر عليه أهل القرية مذبوحا، الأمر الذي جعل أهل القرية يخشون من المبيت في بيوتهم، كانوا يتجمعون ليلا في منزلين أو ثلاثة متجاورين ليهدئوا من خوفهم، فالعيش جماعة أكثر أمنا من العيش في منازل منفردة في تهديدات من المسلحين بتكرار ذبح الآخرين إذا ما تعاونوا مع الأمن للإدلاء بأى معلومات عنهم.
في قرية الحيز حيث المساكن المشيدة بالطوب اللبن وسط مئات من أشجار النخيل، لا تسمع صوتا غير صوت الطيور، كل يعيش مع أولاده وزوجته خلف الأبواب المغلقة، وسط تلك المنازل يقيم محمد نجل الشهيد «صالح قاسم» الذي خطفه المسلحون الإرهابيون وذبحوه.
يقول محمد: «الإرهابيون خطفوا والدى بكل سهولة لعدم وجود قوات أمنية على الطريق، أو تسليح من أي نوع مع أهالى أبناء القرية، لم أكن موجودا وقت الحادث، عندما استغاثت أمى بالجيران قام الإرهابيون بإطلاق النار فقتلوا أحد مواطنى القرية، وليد كيلانى، وأصابوا اثنين آخرين، ولم يجدوا أي مقاومة من المواطنين العزل».
وأكمل نجل الشهيد: «نحن نعيش حالة رعب يوميا منذ خطف والدى وذبحه»، وكشف أن أكثر من 50 أسرة يعيشون في 50 بيتا في المنطقة يتجمعون يوميا من بعد صلاة العصر في 3 منازل وينامون بها خوفا من قدوم العناصر الإرهابية إليهم مرة أخرى وخطف أحد منهم، كما فعلوا من قبل مع أبيه، وأشار إلى أن أهالى القرية يجمعون ماشيتهم في حظائر مجاورة للمنازل التي يقيمون بها، خوفا عليها من السرقة.
بعيدا عن مطلب المعاش الذي يطالب به ابن الشهيد، فأهالى الواحات البحرية يطالبون بمزيد من التنمية، وربما قرار البدء في ازدواج طريق الواحات- الجيزة يساهم في ذلك، فضلا عن رغبتهم في نشر مزيد من قوات الأمن والأكمنة على الطرق، فهم يعانون من آثار معارك للجيش والشرطة ضد الإرهابيين على أطراف مدينتهم.
ويقول اللواء أحمد إبراهيم، مساعد وزير الداخلية الأسبق، إن منطقة الواحات البحرية هي نقطة التقاء لطرق صحراوية في الصحراء الغربية، وهذا ما يجعل العناصر المسلحة قريبين منها لأسباب لوجستية منها سهولة الهرب عبرها إذا ما طاردتهم الشرطة أو قوات الجيش، وحصولهم على مساعدتهم من أغذية ومواد بترولية ووسائل الاتصال عبر تواجدهم بين أهالى المدينة لساعات ثم العودة إلى مكان التدريب العسكرى في الصحراء.
ويضيف إبراهيم: «العناصر المسلحة تتخذ من الصحراء الغربية وتحديدا على بعد كيلومترات من الكتل السكنية مكانا للتمركز حتى يتمكنوا من الفرار إلى الكتل السكنية للهروب من الملاحقات الجوية، ولكن لابد أن نشير إلى ضرورة وجود من يعاونهم من أبناء تلك المناطق السكنية لإخفائهم أو مساعدتهم أو الادعاء بأنهم من أقاربه إذا ما تواجدوا بين الأهالى وحتى يتجنبوا الإبلاغ عنهم إذا ما شعر الأهالى أنهم غرباء دون أن يكونوا من أقارب أحد أبناء الواحة».
ويحذر إبراهيم مما يجرى الآن في ليبيا من صراعات وحروب بين الأطراف المختلفة ومطاردة العناصر المسلحة هناك، مشيرا إلى أنه من المسلم به تواجد عناصر مصرية كثيرة ضمن المسلحين الإرهابيين في ليبيا، ويضيف: «يجب أن نأخذ الحذر من تسلل هؤلاء العناصر وعودتهم إلى مصر وأن يتخذوا من الصحراء الغربية مكانا جديدا لهم يتمركزون فيه ويتلقون التدريبات العسكرية خاصة في ظل دراستهم الجيدة للمنطقة الصحراوية وتواجد بعضهم بها على فترات قبل أن يهربوا إلى ليبيا».
تعددت حوادث الإرهابيين ومعاركهم مع الشرطة والجيش في الواحات البحرية وفى كل مرة يثبت أهالى الواحة وطنيتهم وعدم خوفهم من المسلحين الذين طالما يهددونهم بالقتل، ويقول أحد الأهالى: «نعم نتلقى تهديدات ولكن إذا خفنا فستضيع المدينة بأكملها، المسلحون بعد ارتكابهم حادث الواحات البحرية خشوا من الدخول إلى المدينة وفضلوا البقاء في الصحراء إلى أن تم قصفهم من قبل الطيران العسكرى».
ويضيف عامر السعيد- صاحب مطعم بالمدينة: «طبيعة قرى الواحات من نخيل وضعف عدد السكان يجعل الإرهابيين يختبئون دون أن يلاحظهم أحد، لكن الأهالى تعاهدوا بعد حادث كمين الفرافرة بالإبلاغ عن أي عناصر غريبة تتحرك في القرى».
«يوما ما سينتصر الحق وسيقضى على الإرهاب».. بتلك الكلمات يطمئن أهالى الواحات البحرية أنفسهم، مرددين: «نرحب بالمعارك مع الإرهاب، ندعم الشرطة والجيش، لأنهم على حق والإرهابيون على باطل».
أحمد شلبى