الحكواتي أو الراوي أو القصّاص أو القاصّ، عادة شعبية تقليدية، وهو شخص امتهن سرد القصص، في المنازل والمحال والمقاهي والطرقات، كان يحتشد حوله الناس قديماً، كان لا يكتفي بسرد أحداث القصة بتفاعل دائم مع جمهوره، بل يدفعه الحماس لأن يجسد دور الشخصية التي يحكي عنها بالحركة والصوت.
حيث كان يقوم بتجسيد شخصيات روايته حد التمثيل والإيحاء الرائعين، وهو يبدأ من تحريك اليدين وهزّ الرأس، إلى ارتفاع حدة نبرة الصوت والإلقاء، فيضخم الأحداث إلى حد أن باستطاعته أن يجعل الجمهور يعيش انفعالاته مع البطل، ان كان في مأزق أو اجتاز المحنة، وكثيراً ما يرفض بعض المستمعين مغادرة الصالة، الاّ بعد معرفة حيثيات ملامح فصل اليوم التالي، والطريف أن بعضهم كان يلحق بالحكواتي إلى منزله لمعرفة بقية الرواية.
والحكواتي شخصية واحدة جسدها كثيرون على مر عقود من الزمن، وهي مهنة عرفتها بلاد الشام منذ مطلع القرن التاسع عشر، وحظيت بشعبية كبيرة جعلتها جزءاً من التراث الشعبي في هذه البلاد، واشتهرت مدينة دمشق شهرة كبيرة بالحكواتي فلا يوجد مقهى من مقاهي مدينة دمشق التراثية قديماً إلا وبه حكواتي، إذ كان هو المسلّي الوحيد قبل ثورة التكنولوجيا التي أثرت على الحكواتي مع مرور السنين، وقد اختفى من يوميات الناس، وصار منسيّاً، لكن، جرت إعادة إحياء مشهد الحكواتي من خلال المسلسلات التليفزيونيّة، أو في الأمسيات الرمضانيّة، إذ يُجسِّد شخصية الحكواتي ممثلون يحكون تلك الحكايات القديمة.
عمل الحكواتي كان يتواصل على مدار السنة، لكن خصوصيته بالنسبة لشهر رمضان مرتبطة بأن مواضيعه تتناسب مع الشهر الفضيل والقيم التي يمثلها، وهذه القيم عادة ما كان الحكواتي يتحدث عنها وعن فضائلها في رواياته، ومجسدة بتصرفات أبطال هذه الروايات، كما أن الصائم بعد الصيام والتهجد والتعبد كان يحتاج إلى وقت للراحة والترويح عن النفس، فكان يجد ذلك في جلسة الحكواتي، لكن طبعاً بعد أن يكون أدى صلاة التراويح.
مرت السنوات والآن، لم يعد من الشائع أن تجد حكواتياً جالساً في مقهى شعبي وحوله جمهور صغير يروي له قصة، لكن من قال أن الحكواتي اختفى تماما، فنظرة بسيطة لزماننا الحالي وسنعرف بعدها أن ملاحم الحكواتي وسيره الشعبية فقط تغير شكلها، لتتحول من حكايات منطوقة لمسلسلات مرئية، تابعها الجمهور العربي في بدايتها بنفس الحب والشغف الذي تابعوا به قصص الحكواتي، ولو أن الوضع تغير كثيرا الآن.
لم يختف الحكواتي ولم تحل محله المسلسلات بين ليلة وضحاها، فقد قطعت قصص الحكواتي الأولى سنوات طويلة ومحطات كثيرة في رحلتها من شكلها الأول لطورها الحالي، ويبقى السؤال: كيف يا ترى حدث هذا؟
في البدء كان المذياع.. منذ الخمسينات ولستة وعشرين عاما تلت، كان الاستماع لمسلسل «ألف ليلة وليلة» الإذاعي بمثابة طقس عند الأسر العربية.
يقال إن الأمر بدأ عندما أهدي مدير الإذاعة نسخة من الكتاب وقرر بعدها تحويلها لعمل مسموع، لكن حتى وإن لم يحدث هذا، فيصعب تخيل أن تدشن الإذاعة عملا إذاعياً غير «ألف ليلة وليلة»، ويحظى بنفس النجاح، فقد بني العمل على قصص صنعتها خيالات فريدة وجامحة، وبينما اتخذ العرب قديما من الحكواتي وسيلة لتلك القصص، فقد كان استبداله بالمذياع للإستماع إلى «ألف ليلة وليلة»، إيذاناً بأن الأخير سيحل محل الأول قريبا في كل شيء.
حيث بدأت تلك الفوازير بأصوات نجوم الفن، ليكمن التحدي حينها في معرفة من صاحب هذا الصوت، ومن الطريف أن أم كلثوم عندما شاركت في تلك الفوازير وقرأت على المستعمين صفحة من «الأيام» لطه حسين، لم يستطع أحد أن يتنبأ من صاحبة هذا الصوت.
وفي العام التالي، تطورت الفوازير من شكلها البدائي القائم على الصوت، وصارت سرداً في شكل كلام مسجوع حول شيء مجهول على المستمع أن يعرف ما هو، وقد تولى الشاعر بيرم التونسي كتابة هذه الفوازير حتى توفي، ليحمل صلاح جاهين من بعده الراية ويستمر في كتابتها حتى وفاته هو الآخر بعد ستة عشر عاماً.
هكذا، احتلت الإذاعة في قلوب المصريين وأسماعهم مكانة خاصة ظلت محتفظة بها ولم يتزلزل عرشها حتى بعد قدوم التلفاز إلى البيوت.
ثم جاء التلفزيون ...مثلما حملت قصص الحكواتي في داخلها الملامح الأولى للمسلسلات والبرامج الإذاعية، فقد حملت تلك المسلسلات والبرامج بدورها الجينات التي ستتكون منها فيما بعد مسلسلات وبرامج التلفاز، وستصل تلك الأخيرة لشهرة كاسحة ستنزل المذياع على إثرها من على عرشه وتحتل مكانه.
بدأ الأمر عندما أعلنت شيريهان في تتر «فوازير ألف ليلة وليلة»، منتصف الثمانينيات، أن «أجمل حكايات الراديو هنقدمها لكم فيديو»، فكان فريق عمل مسلسل ألف ليلة وليلة الإذاعي، قد شد الرحال إلى التلفاز، ليستكمل الكاتب طاهر أبوفاشا ما بدأه في المذياع على الشاشة، ويظل صوتا عبدالرحيم الرزقاني، وزوزو نبيل، كشهريار، وشهرزاد، يطل على المشاهدين، لكن هذه المرة من وراء رسوم متحركة، وتبدأ شيريهان رحلتها التي ستستمر ثلاث سنوات مع فوازير ألف ليلة وليلة.
رحلة طويلة تلك التي قطعتها القصص والحكايات، من تجمعات الناس البسيطة الأولى حول حكواتي يسافر بهم عبر كلماته إليها، إلى موسم تجاري تنافسي، ربما ما حدث كان سيحدث على أي حال، ربما نحن محكومون بحتمية تاريخية كانت ستؤدي بنا لهذا المكان، لكن يظل داخل الجميع حنين جارف للأيام الخوالي، يود لو يرجع كل شيء كما كان، حنين أفصحت أم كلثوم عن دواخله عندما غنت: «عايزين نرجع زي زمان، قول للزمان ارجع يا زمان».