عقب احتجاجات واسعة النطاق شملت العاصمة الخرطوم ومعظم المدن السودانية، واستمرت ما يقارب الأربعة أشهر، جاء بيان وزير الدفاع السودانى باعتقال الرئيس البشير والتحفظ عليه في مكان آمن، وحل الحكومة والبرلمان والحكومات الولائية وإيقاف العمل بالدستور. مع إعلان فترة انتقالية لمدة سنتين يوضع خلالها دستور جديد، وتنتهى بانتخابات حرة.
هذا البيان الذي أصدره وزير الدفاع تأخر عدة ساعات، حيث كان قد تم التنويه عنه مع الساعات الأولى للصباح، ولم يتم إعلانه إلا حوالى الساعة الثانية بعد الظهر، حيث راجت أثناء تلك الفترة أنباء كثيرة متضاربة عن وجود انقسامات حول تشكيل المجلس ومن الذي يترأسه، ويبدو أن هذه الأنباء كانت صحيحة إلى حد كبير، حيث إن بيان وزير الدفاع لم يعلن أسماء أعضاء المجلس، وأشار إلى أن ذلك سوف يصدر في بيان لاحق.
والأهم من ذلك أن البيان جاء مخيبا للآمال، إذ أشار إلى أن القوات المسلحة هي التي سوف تتولى بشكل أساسى مسؤولية إدارة الدولة والحفاظ على دماء السودانيين، وأنه سوف يكون هناك تمثيل محدود لمكونات اللجنة الأمنية العليا، التي من المعروف أنها كانت تضم مدير جهاز المخابرات والأمن الوطنى وقائد قوات الدعم السريع، ومدير الشرطة. ومن ثم فإن هذا التشكيل للمجلس يتجاهل بشكل كامل أي ممثلين لتحالف قوى الحرية والتغيير الذي كان يقود الاحتجاجات والاعتصام الذي تمركز أمام مقر القيادة العامة للجيش، وتجاهل كذلك كل القوى السياسية السودانية بشكل عام.
الشاهد أن ما تم إعلانه حتى الآن لا يجعل من مسألة عزل الرئيس البشير بداية لتغيير حقيقى باتجاه بناء نظام سياسى جديد، يحقق المطالب الأساسية للشعب السودانى والتى جرى التعبير عنها خلال الأشهر الماضية: حرية وسلام وعدالة، وإنما هو أقرب إلى انقلاب قصر، يتم فيه التخلص من الحمولة الزائدة المتمثلة في الرئيس البشير، وكذلك الوجوه القديمة المستفزة للناس، وإعادة إنتاج النظام لنفسه تحت لافتات جديدة.
فمن المعروف أن كبار القادة في القوات المسلحة السودانية هم نتاج استراتيجية التمكين التي تم اتباعها منذ انقلاب جبهة الترابى على النظام الديمقراطى عام 1989، والتى قصرت دخول الكلية الحربية السودانية على أبناء الجبهة الإسلامية، لذلك نجد أن الانقسام داخل الجيش، والذى ظهرت مؤشراته القوية أثناء الاعتصام، كان تعبيرا عن صغار الضباط ومتوسطى الرتب، الذين اكتشفوا زيف الشعارات التي تقال، وعاينوا الفساد المنتشر، في مقابل كبار الضباط المؤدلجين والمنخرطين بشكل أو بآخر بشبكات المصالح ومنتفعين منها.
والنقطة الثانية أن المجلس الانتقالى بتشكيله المشار إليه هو الذي سوف يتخذ كل القرارات في المرحلة الانتقالية، وعملية وضع الدستور وقانون الانتخابات.. كل هذا سوف يصب في نهاية المطاف في إعادة إنتاج النظام القديم أو استمرار هيمنته، فهؤلاء منتشرون في كل مؤسسات وأجهزة الدولة، ولديهم من الخبرات ومن المقدرة المالية ما يؤهلهم للعودة إلى الاستحواذ والإمساك بالمفاصل الرئيسية للعملية السياسية مرة أخرى، لا سيما أن كل متطلبات إدارة المرحلة الانتقالية ستكون بواسطتهم أو بتأثر منهم.
لكل هذه الأسباب أعلن تجمع المهنيين، الذي يعبر عن تحالف قوى الحرية والتغيير، عن عدم قبوله للبيان، وطلب من المتظاهرين والمحتجين البقاء في الشوارع، بالنظر إلى عدم الاستجابة لمطالبهم. وتجدر الإشارة هنا إلى أن تجمع المهنيين سبق له توجيه نداء للقوات المسلحة للانحياز إلى مطالب الجماهير، على أن تكون السلطة بيد حكومة انتقالية مدنية تضع الأسس التي يتم الاتفاق عليها لنظام سياسى جديد يقوم على الحرية والتعددية مع إنهاء حالة الحرب في بعض مناطق البلاد والتحول إلى سلام شامل يسع كل السودانيين.
وعلى ذلك من الواضح أن الأزمة السودانية سوف تستمر في التفاعل، وهذا أمر ينبهنا إلى العديد من التحديات، على رأسها الأزمة الاقتصادية الكارثية ونقص الخبز والوقود، والتى تحتاج إلى جهود عاجلة لوضع حلول لها، وهذا سيكون عسيرا بدون تحقيق الاستقرار والهدوء، والأمر الثانى هو الخشية من أن تطول مرحلة الغموض وعدم الاستقرار والاعتصام في الشوارع حتى تفضى إلى الانزلاق لتفلت أمنى، مما قد يأخذ السودان إلى سيناريوهات خطرة.