استطاع حزب «العدالة والتنمية» التركى الحاكم، أن يفند فرضية التناقض بين الإسلام والعلمانية، ضارباً مثلاً يحتذى به فى تفاعل الحركة الإسلامية مع الزمان والمكان بما يكفل ترسيخ قيم الديمقراطية والعدالة، حيث إنه تمكن من تجديد نفسه بشكل يتوافق مع متطلبات العصر ليصبح حزباً إصلاحياً معبراً عن «تيار الوسط التركى الجديد».
فبعدما عانت تركيا فى التسعينيات من عدم الاستقرار السياسى إثر توالى عدد كبير من الحكومات الائتلافية من أحزاب سياسية ذات اتجاهات متعارضة، داهمت البلاد عام 2001، واحدة من كبرى أزماتها الاقتصادية، الأمر الذى أتاح لاحقاً لـ«العدالة والتنمية» الذى تم تأسيسه فى العام نفسه، أن يسطع نجمه فى انتخابات 3 نوفمبر 2002، ليحصل على 34% من أصوات الناخبين، ويكون بذلك أول حزب إسلامى الجذور يتمكن من الانفراد بالسلطة منذ إعلان الجمهورية العلمانية فى تركيا عام 1923، ويرجع السبب فى ذلك إلى ارتباط اسم «العدالة والتنمية» باسم زعيمه ومؤسسه رجب طيب أردوجان، رئيس الوزراء الحالى، الذى اكتسب سمعة طيبة عندما كان رئيساً لبلدية إسطنبول، فحصل على ثقة الناخبين الذين كانوا يطمحون فى محاربة الفساد وإنقاذ الاقتصاد ودعم الاستقرار السياسى.
وأسهمت عدة عوامل أيضاً فى نجاح تجربة «العدالة والتنمية» واستمرارها حتى الوقت الحالى ولـ10 أعوام متوالية، منها إفلاس النخبة السياسية العلمانية وافتقادها النهج السياسى الواضح، فضلاً عن تجنب أردوجان مواجهة التطرف العلمانى بتطرف إسلامى، الأمر الذى منح تجربته فرص حياة أفضل بالمقارنة بتجربة نجم الدين أربكان الذى سبقه بطرح مشروع إسلامى لقيادة تركيا، لكن مصيره آل إلى الفشل، فقد انتهج أردوجان خطا أكثر اعتدالاً لإدراكه أن استغراق التيارات الإسلامية فى المحافظة هو وصفة للفشل فى اختبار الحكم.
وقد أجرى «العدالة والتنمية» إصلاحات بارزة فى الداخل لتعزيز الحريات والديمقراطية وحقوق الإنسان، وقلص من صلاحيات المؤسسة العسكرية القوية ووسع هامش الحريات واعتمد بعض الإصلاحات فى المؤسسة القضائية ذات النفوذ الواسع، وهى الخطوات التى فتحت شهية الاتحاد الأوروبى لإعلان بدء المفاوضات المباشرة بشأن عضوية تركيا فى الاتحاد فى 2004.
وقد حاول الجيش والعلمانيون عرقلة مسيرة «العدالة والتنمية» للإصلاح عبر التخطيط لمحاولات انقلابية عدة، لكن إرادة الإصلاح وسلطة المدنيين كانتا أقوى، ولم يخذل الشعب رئيس الوزراء الحالى فى أى انتخابات أو استفتاء منذ 2002. وقد ساعد هذا المناخ من الاستقرار السياسى على دفع عجلة التنمية الاقتصادية ورفع معدلات النمو وتعزيز التجارة الخارجية، مما جعل الاقتصاد التركى يحتل المرتبة رقم 17 فى العالم.
وفى الوقت نفسه، أسهمت سياسة حزب «العدالة والتنمية» الخارجية فى تحويل تركيا إلى لاعب أساسى على الساحتين الإقليمية والدولية، وذلك باتباع مبدأ «تعدد البعد»، أى أن تنتمى تركيا إلى عوالم متعددة من البلقان إلى القوقاز وآسيا الوسطى ومن الشمال إلى العالم الإسلامى والشرق الأوسط، فضلاً عن طموحها فى الانضمام إلى الاتحاد الأوروبى، وتقول صحيفة «دار الخليج» الإماراتية إن تركيا اعتمدت سياسة «تصفير المشكلات» على المستوى الخارجى، أى إقامة علاقات جيدة مع كل جيرانها وحل المشكلات، مما جعلها بمثابة «نقطة جذب» لكل القوى.
ورغم نجاح «العدالة والتنمية» فى تعزيز سلطة المدنيين وإنهاء الوصاية العسكرية والقضائية، يبقى الحزب عاجزاً عن حل مشكلات أساسية، وفى مقدمتها المشكلتان الكردية والقبرصية، فضلاً عن عدم قدرة الحزب على تغيير المفاهيم التقليدية للعلمانية، ومن ذلك استمرار منع الحجاب فى المؤسسات العامة، لكن على أى حال فإن «العدالة والتنمية» استطاع تحقيق انتصار واضح بحصوله على نسبة أكبر بقليل من 50% فى الانتخابات البرلمانية التى أجريت، الأحد الماضى، وهو ما يضمن للحزب الفوز بالولاية الثالثة على التوالى فى البرلمان.