عندما يشيد رئيس أكبر دولة فى العالم بدولة أخرى تختلف جذرياً على مستوى السياسة والاقتصاد والتاريخ عن الولايات المتحدة، وينظر إليها على أنها «قدوة» -على حد تعبيره- لدول «الربيع العربى» التى تحلم بالديمقراطية واجتاحتها مؤخراً ثورات الحرية والكرامة لإسقاط الأنظمة المستبدة.. فلابد من التوقف عند هذه القراءة لتأمل النموذج البولندى، تلك الدولة التى خرجت من رحم كتلة أوروبا الشرقية وخلعت عن نفسها رداء الاشتراكية والفكر الشيوعى لتلتحق بقطار الرأسمالية خلال حقبة التسعينيات.
وبمرور الوقت تجاوزت بولندا المتمردة على «النفوذ السوفيتى» مرحلة المراهقة السياسية وارتقت إلى مستوى يتمتع بازدهار فى الحريات والنشاط السياسى ما انعكس على نمو الاقتصاد الذى انفتح على فلسفة السوق العالمية الحرة.. وجاءت كلمات أوباما خلال قمة جمعته فى العاصمة البولندية «وارسو» الشهر الماضى مع قادة 12 دولة فى شرق أوروبا لـ «مغازلة» الدول العربية الثائرة حالياً عن طريق هذه النماذج الناجحة، بعد أن اتخذت من الديمقراطية وسيلة لـ«رى» بذور الإصلاح السياسى والاقتصادى انطلاقاً من أن العرب يعيشون نفس الظروف ويواجهون نفس التحديات.. واستغل الرئيس البولندى برونيسلاف كوموروفسكى هذه المناسبة ليروى كيف ساعدت الانتفاضة الشعبية العربية معظم البولنديين على استحضار ذكريات الماضى بعد عام 1989، حين اعتبرت بلاده أول دولة فى الكتلة السوفيتية تتخلص من الشيوعية دون إراقة دماء لتنتقل العدوى تدريجيا إلى المنطقة لاحقاً وصولاً إلى انهيار الاتحاد السوفيتى عام 1991.
كان بناء دولة بولندا مرتكزاً على النهج السوفيتى الشيوعى وأصبحت بولندا جزءاً من الكتلة الشرقية حتى إعلانها الجمهورية الشعبية بدستور جديد عام 1952، ثم تأسيس حلف وارسو عام 1955، وصعدت الحركة الديمقراطية بداية من الثمانينيات حتى تمكنت من تشكيل حكومة رئيسها غير شيوعى ليصبح ليخ فاليسا عام 1990 أول رئيس منتخب للبلاد.. ومنذ هذه اللحظة ولد الحلم الأوروبى الأكبر فى أحضان البولنديين، ونما طموحهم نحو القمة حتى صارت وارسو عضوا بالمجلس الأوروبى، ثم بحلف شمال الأطلسى «الناتو» 1999، وتوج هذا الإصرار بالانضمام إلى الاتحاد الأوروبى فى 2004، الذى ستنال شرف رئاسته لأول مرة فى يوليو المقبل.
وعلى ضوء الحراك السياسى الذى دب فى شرايين الدولة ومؤسساتها نشط نظام الأحزاب السياسية لتظهر على الساحة أحزاب «القانون والعدالة» و«البرنامج المدنى» و«الدفاع عن النفس» فضلاً عن «تحالف اليسار الديمقراطى» و«عصبة العائلات البولندية» انتهاء بحزب الفلاحين المعبر عن الطبقات الكادحة والبسيطة فى المجتمع البولندى.
ويعتبر النموذج البولندى واحدا من النماذج الاقتصادية التحولية الناجحة بتفوقه فى عمليات الخصخصة وتحرير الاقتصاد وأصبح القطاع الخاص يسيطر اليوم على ٧٠٪ من الاقتصاد البولندى، وتسهم الخدمات بـ٦٠٪ من مجمل النشاط الاقتصادى تليها الصناعة بـ٣٥ ٪، ثم الزراعة بـ٥٪، وبحسابات الأرقام قفز متوسط دخل الفرد إلى ٧٢٠٠ دولار .